2018

3. قضايا معاصرة: الإجهاض - الأب نعيم (حدّاد) – العدد الثامن سنة 2018

الإجهاض

الأب نعيم حداد

 

منذ أقدم العصور والإجهاض من أكثر المواضيع إثارة للجدل، ثمّة من يدعو إليه ويشجّعه انطلاقًا من مبدأ الحرّيّة، وآخرون يرفضونه رفضًا قاطعًا معتبرين أنّه جريمة بحقّ الإنسانيّة. وكلّ فريق يقول إنّه على حقّ متسلّحًا بحججٍ يواجه فيها الآخر.

حجج الإجهاض

ولا بدّ من أنّ أغلبنا سمع بالاستفتاء الداعم للإجهاض، الذي تمّ مؤخّرًا في إيرلندا، هذا البلد الذي يُعرف بتقاليده الكاثوليكيّة المتشدّدة. ووصل الأمر برئيس الوزراء الإيرلنديّ إلى أن يصفه بالثورة الهادئة التي تأتي مرّة كلّ جيل.  

في الغرب تسمح قوانين بعض الدول للمرأة بحرّيّة إجهاض جنينها، تحت ستار أنّ هذا حقّ من حقوقها، وأنّ هذا شأنٌ متعلّقٌ بصحّتها. فحاملو لواء الإجهاض يرون أنّ من حقّ المرأة اتّخاذ القرارات التي تريدها بما خصّ جسدها، إذ لها الحقّ في السيطرة على جسدها وعلى حياتها الإنجابيّة. لذلك، لا يحقّ لأحد أن يملي عليها ما تستطيع أو لا تستطيع فعله مع جسدها. أحد دوافع الإجهاض هو أنّ المرأة قد لا تكون جاهزة على الصعيد النفسيّ والعاطفيّ للإنجاب. وأيضًا قد تكون صغيرة السنّ وتتابع دراستها الجامعيّة، لذلك هي غير قادرة على رعاية طفل. ويقولون إنّه يجب ألاّ ننسى أنّ التكاليف المادّيّة اللازمة لتربية الطفل باهظة جدًّا. ويتذّرع الزوجان أيضًا بأنّهما يريدان أن يستمتعا في بدء حياتهما الزوجيّة، أو أن يؤمّنا مستقبلهما لذلك لا مانع من الإجهاض الآن فالحياة طويلة أمامهما، ويمكنهما في ما بعد إنجاب الأولاد. كما أنّ بعض النساء يتذرعنّ بأنّ الحمل قد يهدّد حياتهنّ المهنيّة(١)، أو قد يؤثّر في شكلهنّ الخارجيّ. كما نرى أنّ الدوافع عند المرأة مبنيّة على “الأنا”، وعدم الاكتراث لوجود شخص تامّ في أحشائها له الحقّ في الحياة. لذلك لا تتورّع عن تحطيم حياة بشريّة بريئة.

كما هناك حالات أخرى قد تتذرّع بها الأمّ لإجهاض جنينها، مثل حملها نتيجة اغتصاب، أو سفاح القربى، أو أنّ الجنين لديه عاهات جسديّة وعقليّة، ما يؤدّي إلى إصابة الأمّ باضطرابات نفسيّة قد تدفع بها إلى الانتحار. وأثبتت أغلب الحالات التي تمّ فيها الإجهاض، في مثل هذه الظروف، تفاقم الدافع إلى الانتحار لدى الأمّ، مولّدًا عندها شعورًا بالذنب. وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك العديد من الدول التي تشرّع الإجهاض كوسيلة من وسائل الحدّ من النسل.

الإجهاض وبدء الحياة البشريّة

أسئلة كثيرة شائكة يطرحها كثيرون، منها، متى تبدأ الحياة البشريّة؟ وأيضًا، هل الجنين شخص بشريّ كامل؟ لأنّ مناصري الإجهاض يقولون إنّ الجنين ليس شخصًا كاملاً بل هو مجموعة من الأنسجة. وتاليًا لا مانع من إجهاضه في الأشهر الثلاثة الأولى. وهناك الكثير من الفرضيّات والنظريّات التي تتنوّع في تحديدها بدء الحياة البشريّة. الفرضيّة الأولى تقول إنّ الحياة البشريّة تبدأ عندما تشعر الأمّ بحركة الجنين. آخرون يقولون إنّ الحياة تبدأ بالنسبة إلى الجنين عندما يصبح قادرًا على أن يعيش خارج الرحم، أي في الأسبوع الرابع والعشرين من الحمل. وثمّة من يقول إنّ الحياة تبدأ مع الولادة أي عندما يبدأ الطفل بالتنفّس. وهناك من يدّعي أنّنا يمكننا أن نعتبر أنّ هناك حياة بشريّة عند عدم وجود مرض مستعصٍ أو أيّ إعاقة. انطلاقًا من أيّ فرضيّة من هذه الفرضيّات أو غيرها، ينطلق مناصرو الإجهاض في تبريرهم قتل الجنين.

موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة حازم في هذا الصدد، فهي تشدّد على قدسيّة الحياة البشريّة، وتعتبر الإجهاض قتلاً في أيّ وقت من الحمل، لأنّه يتمّ لمصلحة أشخاص آخرين غير الجنين. وهنا لا بدّ من الإجابة عن الأسئلة المطروحة أعلاه. تؤكّد الكنيسة الأرثوذكسية أنّ الحياة البشريّة تبدأ منذ لحظة التقاء بويضة الرجل ببويضة المرأة وهذا ما يُسمّى بالإخصاب. ومن هذه اللحظة يكون الجنين شخصًا بشريًّا له الحقّ الكامل في الحياة، التي هي هبة مقدّسة من اللَّه، الذي أعطى البشر هذه النعمة بأن يشاركوه في عمليّة الخلق، «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ» (تكوين 1: 28)، فالإنسان يأخذ الطبيعة البشريّة بكاملها نفسًا وجسدًا من والديه حاملاً «صورة اللَّه». وهذه الصورة هي التي تمنح الإنسان منذ تكوّنه كلّ صفات الشخص العقليّة والروحيّة والمعنويّة.

 نظرة الكنيسة الكاثوليكيّة مختلفة في هذا الشأن، وتشهد تضاربًا في الآراء بين إكليروسها وعلمائها، فعلماء الأخلاق في الكنيسة الكاثوليكيّة يقسمون مرحلة الحمل إلى قسمين:

المرحلة الأولى التي تتشكّل بدءًا من الأسبوعين الأوّلين للحمل، ويسمّونها مرحلة «ما قبل الجنين»، ويعتبرون أنّ الجنين في هذه المرحلة لا يتمتّع بفرادة الشخص البشريّ، لكونه في طور التكوّن، ويرفضون أن يقولوا إنّ الجنين يملك «نفسًا» وتاليًا لا يُسمّى «شخصًا» بل «كيانًا» سيصبح شخصًا، ونتيجة لهذا يكون الإجهاض مسموحًا أخلاقيًّا فقط في هذه المرحلة، إذا كان الحمل تمّ نتيجة اعتداء جنسيّ.

المرحلة الثانية والتي تبدأ في الأسبوع الثالث، وهنا يصبح «الكيان الذي ما قبل الجنين» جنينًا له فرادته البشريّة، وأنّه الآن أصبح شخصًا بشريًّا، وتاليًا لا يمكن أبدًا إجهاضه.

موقف الكنيسة الكاثوليكيّة

في هذا السياق، يجدر بنا إظهار موقف الكنيسة الكاثوليكيّة المحافظ الرافض للإجهاض، منذ لحظة الحمل، بكلّ أشكاله، ولها قوانينها الحاسمة بشأنه، التي تذكر أنّه «لا بدّ من احترام الحياة البشريّة وصيانتها على وجه مطلق منذ وقت الحمل. ولا بدّ من الاعتراف للكائن البشريّ، منذ أوّل لحظة من حياته، بحقوق الشخص، ومنها الحقّ في الحياة الذي لا يمكن تخطّيه، والعائد إلى كلّ كائن بريء».  كما تشدّد على الحماية التي يجب أن يوفّرها التشريع المدنيّ للجنين، لكونه يُعتبر كأيّ فرد من أفراد المجتمع، «حقوق الإنسان ليست متعلّقة بالأفراد، أو الوالدين، وليست تنازلاً من المجتمع أو الدولة، إنّها تخصّ الطبيعة البشريّة وهي ملازمة للشخص بفعل الخلق الذي منه تستمدّ أصلها. وبين هذه الحقوق الأساسيّة، لا بدّ من تسمية الحقّ في الحياة والطبيعة المكتملة لكلّ كائن بشريّ منذ الحمل حتّى الموت». ويشبّه قداسة البابا فرنسيس الإجهاض بالسلوك النازيّ، ومؤخّرًا أصدر موقفًا في ما خصّ الأجنّة التي تحمل عاهات، إذ يقول: «يجب قبول الأطفال كما يأتون مثلما يرسلهم اللَّه وكما يأذن اللَّه حتّى إذا كانوا مرضى في بعض الأوقات»، «وهل يتعيّن التخلّص من روح بريئة من أجل الحصول على حياة أكثر هدوءًا».

موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة

الكنيسة الأرثوذكسيّة موقفها واضح وصارم أيضًا، فهي تؤكّد على قدسيّة الحياة انطلاقًا من إيمانها بتكوّن الشخص البشريّ منذ لحظة الحمل. لذلك ترفض الإجهاض في كلّ مراحل الحمل.

استندت الكنيسة الأرثوذكسيّة في موقفها إلى الكتاب المقدّس، وتعليم الآباء، وقرارات المجامع الكنسيّة، والليتورجيا. فماذا يقول الكتاب المقدّس في عهديه في هذا الشأن؟

1-الكتاب المقدّس:

الكنيسة الأرثوذكسيّة مقتنعة بأنّ الإجهاض مساوٍ للقتل، فالقتل في الكتاب المقدّس محرّم ولذلك جاءت الوصيّة السادسة من وصايا الربّ «لا تقتل» (خروج 20: 13).

أ-العهد القديم:

الربّ في كتاب أيّوب هو من أوجد الحياة في رحم المرأة. «أو ليس صانعي في البطن صانعه وقد صوّرنا واحد في الرحم». (أيّوب 31: 15). يؤكّد كتاب المزامير الشيء ذاته: «لأنّك أنت اقتنيت كليتيَّ. نسجتني في بطن أمّي. أحمدك من أجل أنّي قد امتزت عجبًا. عجيبة هي أعمالك ونفسي تعرف ذلك يقينًا. لم تختف عنك عظامي حينما صُنعت في الخفاء ورُقّمت في أعماق الأرض. رأت عيناك أعضائي وفي سفرك كلّها كُتبت يوم تصوَّرَتُ إذ لم يكن واحدٌ منها». (مزمور 139: 13-16).

الاختيار من الرحم شائع في الكتاب، فاللَّه دعا أشعياء وإرميا قبل تكوّنهما، واختارهما خادمَين له. أشعياء يذكر دعوة الربّ له من الرحم فيقول: «الربّ من البطن دعاني من أحشاء أمّي ذكر اسمي». (أشعياء 49: 1). «والآن قال الربّ جابلي من البطن عبدًا له لإرجاع يعقوب إليه فأتمجّد في عيني الربّ وإلهي يصير قوّتي». (أشعياء 49: 5).

وكتاب إرميا يؤكّد الدعوة من البطن والتكريس كذلك فيقول: «قبلما صوّرتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدّستك. جعلتك نبيًّا للشعوب» (إرميا 1: 5).

لمّا جاء أليشع إلى دمشق بكى فلمّا سأله حزائيل رسول بنهدد ملك أرام المريض لماذا تبكي، أجاب: «لأني علمت ما ستفعله ببني يعقوب من الشرّ فإنّك تطلق النار على حصونهم وتقتل شبّانهم بالسيف وتحطّم أطفالهم وتشقّ حواملهم» (الملوك الثاني 8: 12).

ب-العهد الجديد:

يخبرنا الإنجيليّ لوقا عن ارتكاض يوحنّا المعمدان وهو جنين بعد رؤية والدته أليصابات لمريم والدة الإله: «فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها وامتلأت أليصابات من الروح القدس». «فهوذا حين صار صوت سلامك في أذنيّ ارتكض الجنين بابتهاج في بطني». (لوقا 1: 41 و44). أبدع الإنجيليّ لوقا بوصفه حياة يوحنّا وهو جنين، مؤكّدًا أنّ الجنين هو إنسان كامل، عنده الوعي، والمشاعر، والعواطف البشريّة.

المبدأ هو ذاته المذكور عند أشعياء وإرميا عن اختيار اللَّه للرسل من الرحم واضح في قول الرسول بولس: «ولكن لمّا سرّ اللَّه الذي أفرزني من بطن أمّي، ودعاني بنعمته” (غلاطية 1: 15). اختيار اللَّه بقي مخفيًّا لسنوات إلى أن أعلنه اللَّه في الوقت الذي حدّده.  فاللَّه بعلمه المسبق غير المحدود يعرف الأنبياء والرسل ويدعوهم من بطون أمّهاتهم للقيام بدور في التدبير الإلهيّ.

إذًا الجنين في الكتاب المقدّس هو هبة اللَّه وهو في عينيه شخصٌ تامّ. يقول بولس «أما تعرفون أنّكم هيكل اللَّه، وأنّ روح اللَّه يسكن فيكم؟ فمن هدم هيكل اللَّه هدمه اللَّه، لأنّ هيكل اللَّه مقدّس، وأنتم أنفسكم هيكل اللَّه». (1 كورنثوس 3: 16-17).

2-التقليد الآبائيّ:

جاء في الذيذاخي أي تعاليم الرسل الاثني عشر ما يلي: «لا تقتل طفلاً عبر إجهاضه ولا تقتل طفلاً حديث الولادة» ( الوصيّة الثانية) .

كما جاء في رسالة برنابا المنحولة من مطلع القرن الثاني الميلاديّ أيضًا «لا تتخلّص من طفل في رحم أمّه ولا تقتله بعد ولادته» (برنابا 5 : 19).

وكتب الفيلسوف أثيناغوراس (133-195م.) إلى الأمبراطور ماركوس أوريليوس في أواخر القرن الثاني، مدافعًا عن المسيحيّين في وجه اتّهامات لهم بالإجرام «أي سبب سوف يدفعنا إلى الجريمة إذا كنّا نعتبر أنّ النساء اللواتي يُجهضن هنّ مجرمات، وسيقدّمن حسابًا عن فعلتهنّ أمام اللَّه» («الشفاعة من أجل المسيحيّين»، الفصل 35).

وترتليانس (155 – 220 م.) يقول: “القتل عندنا ممنوع بشكل مطلق، وحتّى قتل الطفل في الرحم. فعندما يتمّ استقاء دم الأمّ لتكوين كائن بشريّ، لا يحلّ لنا تدميره. أن نمنع الولادة هو قتل سريع. لا فرق إن أودى بحياة مولود أو دمّر حياة جنين على وشك الولادة. المرء من هو في صيرورته إنسانًا. الثمر موجود في البذرة”.

حرّم القدّيس هيبوليتوس الرومانيّ (القرن الثالث م.) استخدام الأدوية المسبّبة للعقم، وغيرها من الوسائل التي قد تؤدّي إلى الإجهاض (كتاب دحض الهرطقات).

القدّيس باسيليوس الكبير ( 340 - 379 م.) في رسالته الأولى إلى أمفيلوخيوس أسقف أيقونية فرض على المرأة التي تقوم بعمليّة الإجهاض مدّة عشر سنوات في التوبة. (القانون2).  كما اعتبر أنّ «المرأة التي تأخذ عقارًا للإسقاط أو التي تعطيه لغيرها هي قاتلة» (القانون 8) .

أمّا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (347 - 407 م.) فقد أدان قيام الرجال بالتخلّص من أجنّتهم غير الشرعيّين معتبرًا فعلتهم هذه بأنّها أسوأ من الجريمة عينها، فهو يندّد بشدّة الاتّجار بالمومسات، وقال عن الرجال الذين دفعوا نساءً إلى الإجهاض، «أنت لا تدع عاهرة تبقى عاهرة بل وتجعل منها قاتلة أيضًا» (العظة 24 حول رسالة رومية) .

القدّيس إيرونيموس (347-420م.) شجب في رسائله الإجهاض، «لا أستطيع أن أحمل نفسي على الكلام على العذارى الكثيرات اللواتي يسقطن يوميًّا ويضِعن من حضن الكنيسة، أمّهن. حتّى إنّ بعضهنّ يذهب إلى حدّ بعيد لدرجة أخذ جرعات من عقاقير حتّى يتسبَّبن في عقمهنّ، ويقتلن البشر قبل أن يكوَّنوا في الحبل. حتّى إنّه عندما تحبل بعضهنّ عبر الخطيئة، يستعملن العقاقير لتسبيب الإجهاض، وأحيانًا كثيرة ما يمتن مع ذرّيّتهن، يذهبن إلى العالم السفليّ محمّلات ليس فقط بخطيئة الزنى ضدّ المسيح، ولكن كذلك بخطايا الانتحار وقتل الأطفال» (الرسالة 22) .

3-المجامع:

المجامع الكنسيّة المحلّيّة والمسكونيّة أدانت الإجهاض معتبرة إيّاه جريمة قتل.

مجمع إلفيرا المنعقد في إسبانيا نحو300- 303 يأمر بإنزال الحرم بالمرأة التي تزني ثمّ تجهض جنينها، ولا يُسمح لها بأن تتناول الأسرار المقدّسة حتّى لو كانت على فراش الموت، لأنّها أخطأت مرّتين (القانون 63) .

ومجمع أنقيرة المنعقد العام 314 كان أكثر رأفة: «إذ حدّد في قانون سابق أن تُقطع الزواني اللواتي يجهضن الأطفال أو يصنعن العقاقير للإجهاض من الشَرِكة حتّى ساعة الموت. وقد وافق البعض على هذا. ومع ذلك فنحن نرغب في أن يعاملن ببعض الشفقة، ولذلك قد حدّدنا بأن يقضين عشر سنوات في التوبة حسب الدرجات المذكورة» ( القانون 21) .

كما أنّ المجمع المسكونيّ الخامس- السادس المعروف أيضًا بمجمع تروللو المنعقد في القسطنطينيّة السنة 692 أدان في القانون 91 من قوانينه الإجهاض في نصّ صريح: «إنّ النساء اللواتي يعطين عقاقير لإسقاط الجنين واللواتي يأخذن السموم لقتل الجنين يقعن تحت قصاص القتلة».

4-الليتورجيا:

أكّدت الكنيسة أنّ الحياة داخل الرحم هي حياة إنسان بشريّ تامّ وليس مجرّد كائن حيّ، لذلك أعطت أهمّيّة في ترتيبها للأعياد المتعلّقة بالحبل: بالربّ يسوع (25 آذار)، وبوالدة الإله (9 كانون الأوّل)، وبيوحنّا المعمدان (23 أيلول). فبشارة الملاك لوالدة الإله هي أيضًا ذكرى الحبل بالربّ يسوع بالجسد. والحبل بوالدة الإله هو تحقيق لوعد اللَّه الذي قطعه ليواكيم وحنّة بأنّه سينعم عليهما بمولود يكون بركة عظيمة لكلّ المسكونة. والحبل بيوحنّا المعمدان يذكّرنا بكلام الملاك لزكريّا: «لأنّه يكون عظيمًا أمام الربّ وخمرًا ومسكرًا لا يشرب. ومن بطن أمّه يمتلئ من الروح القدس» (لوقا 1 : 15).

الموقف اليوم

في وسط هذا العالم الذي يُعاني من التلوث الذهنيّ والفكريّ والروحيّ، هذا العالم الذي كرَّس الانعزاليّة والفرديّة وقزّم قيمة حياة الإنسان وروحه، أعطى مساحة كبيرة للحرّيّة الشخصيّة المبنيّة على مفاهيم مغلوطة. فكر هذا العالم لم يقدّم أجوبة وحلولاً، بالعكس زاد الطين بلّةً. مؤثِّرًا على اتّزان الإنسان، ومدى قدرته على اتّخاذ القرارات الصائبة. وهذه الحرّيّة الممسوخة هي حجر الزاوية عند مناصري الإجهاض. الحرّيّة الشخصيّة ليست مبرِّرًا لارتكاب جريمة، بل يجب أن تكون الدافع الذي نتحرّر به من الخطيئة. التبريرات التي تقول بالحرّيّة الشخصية يجب ألاّ تكون بدائل عن انقيادنا للمشيئة الإلهيّة. القوانين والتشريعات التي تعطي الحقّ للأمّ بحرّيّة الاختيار في موضوع الحمل تنسف بعرض الحائط حقوق الجنين. 

دور الكنيسة اليوم

  السؤال الذي يطرح ذاته، ما هو دور الكنيسة الذي عليها أن تقدّمه في هذا المجال؟ وما هي مسؤوليّتها؟

الكنيسة، اليوم، وكلّ يوم، مدعوّة إلى الشهادة الصادقة في موضوع الإجهاض، وهذه الشهادة تقوم على أساسيَن : التعليم، والمحبّة. الكنيسة لها دور أساس في نشر الوعي الروحيّ، والإيمانيّ، عبر الدورات، والمحاضرات، والعظات. فمن دون فهم مؤسَّس على كلمة اللَّه، وتعليم الكنيسة، سيبقى الجهل هو سيّد الموقف في أيّ موضوع. كثيرون يفعلون ما يفعلونه، إن كان من إجهاض أو أيّ خطيئة أخرى، لأنّهم يجهلون إيمانهم، وليس لديهم أساس روحيّ، يردعهم، أو يوجّههم إلى فعل ما هو خير لهم وللآخر. أوصانا الربّ يسوع بأن نحبّ قريبنا كنفسنا (مرقس 12: 31)، والجنين هو أقرب الناس وأضعفهم، وهو بحاجة إلى محبّة كبيرة، وحماية كبرى. فلا أحد، كائنًا من كان، له الحقّ في أن يحدّد مصير حياة بشريّة زرعها اللَّه على صورته، لها مسار طويل على طريق الملكوت لكي تصل إلى المثال. بل علينا مسؤوليّة أن نحافظ على هذه الأمانة، وأن نصونها بكلّ إمكانيّاتنا، وأن نحترمها، لا أن ندمّرها.

الشهادة الأعمق للكنيسة هي المحبّة. وبخاصّة للنساء اللواتي يتعرّضن لأيّ اعتداء جنسيّ ينتج منه حمل.  فالمرأة قد تعتبر أنّ هذا الطفل سيشكّل ذكرى سيّئة، ووصمة عار لما تعرّضت له، وسيُّعمق جرحها النفسيّ. وهذا يحتاج إلى معالجة دقيقة، وواعية، وحكيمة، من قبل الكنيسة والمجتمع. لا أن يُنظر إلى المرأة على أنّها مذنبة. بالعكس، يجب مرافقتها روحيًّا، ونفسيًّا، واحتضانها، وتفهّمها، والعناية بها التي يجب أن تبدأ من وقت الحادث، وطوال فترة الحمل، وخلال الولادة. وإذا كانت لا تريد أن تحتفظ بالطفل، يمكن تأمين بيئة مناسبة في عائلة تريد أن تتبنّى طفلاً.

تسمح الكنيسة بالإجهاض، فقط عندما يكون الحمل خارج الرحم، أو عندما تصاب المرأة بسرطان الرحم، في هاتين الحالتين تكون حياة الأمّ معرّضة للخطر. ويكون علاج الأمّ بحدّ ذاته يشكّل خطرًا على الجنين. الكنيسة الأرثوذكسيّة تتعاطى مع هذه المسألة على قدر كبير من الحكمة والوعي، وترى أنّه لو سبّب العلاج الذي تخضع له الأمّ وفاة الجنين وإجهاضه فهذا لا يعتبر إجهاضًا مقصودًا، لأنّ الهدف كان بالأساس إنقاذ حياة الأمّ وليس قتل الطفل، أو إنهاء حمل غير مرغوب فيه. فالأمّ تقع على عاتقها مسؤوليّة عائلتها التي هي بحاجة ماسّة إليها عاطفيًّا، ومعنويًّا. ومن المفضّل في هذه الحالة، أن تعود المرأة وزوجها إلى كاهن رعيّتهما، الذي بإرشاده وتوجيهه المبنيّ على الإنجيل وتعليم الكنيسة ونعمة الروح القدس، يستطيعان أن يتّخذا القرار الصحيح.

أمّا في حالة إصابة الجنين بعاهات خلقيّة، أو عقليّة، أو جسديّة، داعمو الإجهاض يسألون ما الهدف من ولادة طفل سيعاني طوال حياته من عاهته، على الصعيد الجسديّ من آلام، ومن نظرة المجتمع القاسية، وأيضًا  الضغط النفسيّ والمادّيّ الذي قد يتعرّض له الأهل. لا بدّ من الاعتراف بالواقع الصعب. لكنّ كلّ هذا بالنسبة إلى الكنيسة لا يمكن أن يلغي قدسيّة الحياة، فهذا الطفل رغم كلّ معاناته، يبقى شخصًا، مخلوقًا على صورة اللَّه، لديه كلّ الكرامة البشريّة وله علينا أن نحبّه ونحتضنه وأن نقدّم له كلّ وسائل العناية والرعاية.

كما ذكرنا آنفًا، التحدّيات التى تواجهها الكنيسة، اليوم، كثيرة ومتشعّبة. لهذا من الضروريّ أن تعمل الكنيسة على إعداد الكهنة، وعبرهم أعضاء الكنيسة، عبر تنظيم مؤتمرات، وحلقات دراسيّة، حول المسائل الأخلاقيّة، على جميع الأصعدة، لكي يستطيعوا أن يقدّموا الجواب اللازم روحيًّا، ولاهوتيًّا، وليس بشكل عشوائيّ، واعتباطيّ. ولكيلا يقفوا عاجزين أمام الحالات التي قد تواجههم في رعاياهم. بل أن يكونوا ملجأ، وسندًا لكلّ سائل. وأخيرًا علينا أن نتذكّر أن نميّز بين الخاطئ والخطيئة، بألّا ندين المرأة التي تجهض، بل أن نرعاها بالمحبّة والاحترام، وحثّها على التوبة.  فهدف الكنيسة في النهاية هو خلاص النفوس، فهي أمّ تحبّ أولادها مهما أخطأوا، لكنّها تربّيهم، وتذكّرهم بكرامتهم. وتقودهم لكي يسيروا على درب الملكوت محقّقين صورة اللَّه المطبوعة فيهم، وحتّى يبلغوا المثال الإلهيّ.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search