الكلمة وجوه!
الأب ايليّا متري
لِمَ مسيحيّون كثيرون باتوا، اليوم، يحيون يكتفون بأنفسهم؟ لِمَ يبدون كما لو أنّهم لا يشعرون بألم سواهم؟ مَن الذي دفعهم إلى هذا الخيار؟ كيف استقرّوا فيه؟ أسئلة تصعب معالجتها في سطور.
أمّا ما يمكن قوله توًّا، أي من دون حرج، فهو أنّ هذا الاكتفاء غريب عن إرثنا القويم.
مَن يقرأ في كتبنا وينظر إلى واقعنا، فسيندهش اندهاشًا عظيمًا من الفرق الهائل الذي يجده بينها وبين وجوه إخوة كثيرين بيننا. وجوههم، أي مواقفهم وتصرّفاتهم... ثقافةُ أن تختلف الوجوه عن إرثنا، أمر لن تخدمنا صفحاتٌ من أدبنا، إن تصفّحناها، بأن نراه فيها. فإرثنا وجوه الملتزمين أيضًا.
بمعنى أنّنا، لو كنّا نحيا في أزمنة الكنيسة الأولى مثلاً، لَأمكننا، إن كنّا نهوى الثقافة، أن نقرأ على وجوه المسيحيّين مصنّفات كبارنا. كتبنا الجديدة، التي تغفو في معظم مكتباتنا اليوم، كانت تسكن «الإخوة» في بيوتهم، وتتخطّر بهم على طرقاتهم، وتضيئهم فيما يزاولون أعمالهم. هل كانوا جميعهم هكذا؟ لا أفترض إن أجبت: لو لم يكن معظمهم، لكانت عراقة إرثنا ضاعت في تراب نزلوا فيه!
هل تراني أظلم إخوةً لا أكون شيئًا إن لم أحبّهم؟ لن أدافع عمّا أقوله الآن، بل سأقترح على أيّ أخ، قرأ شيئًا من إرثنا، إن كان ما يراه آخر، أن يتبيّن صدق ما يقرأه بتبنّيه مضمون الأمثلة التالية:
مثلاً، حاول، إن شئت، أن تسأل أيّ مسيحيّ عن محبّة الفقراء. إن فعلت، فأتكهّن أنّه لن يبخل عليك بإجابته أنّها «وصيّة إلهيّة». هنّئه على ردّه بفرح صادق. وإن رأيته قابلاً لأن يكمل حوارك معه، فعجّل في طرحك عليه هذا السؤال أيضًا. قل: «برأيك، كيف يمكن أن تُنفَّذ هذه الوصيّة؟». إن قال شيئًا، فغالبًا ما يحصر تنفيذها في مواسمنا الكبرى (الأصوام الكنسيّة، مثلاً). «هل تصلّي يوميًّا؟»، اسأله أيضًا. لن يتهّمك بأنّك ابتعدت عمّا كنت تكلّمه عليه، بل سيعتبره سؤالاً آخر، ويجيبك (بخفر): «طبعًا، أفعل»، أو (بجرأة): «عمومًا، أفعل». لا تسله: «ماذا تصلّي؟»! اكتفِ بما سمعته، واسأله: «هل في المسيحيّة القويمة وصايا يوميّة وأخرى موسميّة؟». أرجّح أن ينتهي حديثكما هنا. أمّا إن أحبّ أن يجبيك، فلن يختلف الأمر عليك أسواء قال: «لا»، أم: «نعم». فأنت، إن أكملت معه الحديث، فلن يفوتك أنّ ثمّة مشكلةً عويصةً تكمن في نفوس كثيرين بيننا. وهذه أنّهم، إن عرفوا شيئًا من المسيحيّة، فلن تلقاهم كلّهم يعتقدون أنّ ما يعرفونه تنفيذُهُ يعنيهم هم شخصيًّا! وإذًا، اشكر له أنّه حاورك، وفتّش، إن شئت أيضًا، عن آخر.
هذه المرّة، اختر أخًا موسورًا، واقرأ عليه هذا الخبر الإنجيليّ: «وإنّ لاويًّا قبرسيًّا اسمه يوسف، ولقّبه الرسل برنابا، أي ابن الفرج، كان يملك حقلاً، فباعه وأتى بثمنه، فألقاه عند أقدام الرسل» (أعمال الرسل 4: 36 و37). واطلب رأيه في ما سمعه. تكهّني، أيضًا، أنّه لن يتأخّر عليك، بل، توًّا، سيعطيك واحدًا من هذه الأجوبة: «اختلفت الأزمنة». أو: «لو كنّا في زمانه، لحذونا حذوه». أو: «هذا رجل متسرّع»... أو: سيكتفي بتهنئة ما فعله برنابا كما لو أنّه خبرٌ من الأخبار التي ننتشي بتذكّر أنّ مَن صنعها إخوةٌ يخصّوننا. بلى، بلى! فثّمة سكر عظيم بأخبار القدّيسين. أمّا أن نقتدي ببرّهم الفذّ، فأمر آخر كلّيًّا!
إن لم تتعب، ادعُ شخصًا ثالثًا بعدُ. اختره بالغًا، واسأله: «هل تعتقد أنّ هذه الأرض أبديّة؟». سيجيبك: «لا، لا بقاء لها». غبّطه جهارًا، واسأله أيضًا: «إن متنا، فماذا سنأخذ معنا؟». انتظر أن يقول لك بثقة: «لا شيء». اكتف بما سمعته. وَدِّعْهُ، وتشوَّق أن يفهم أنّ «اللَّه ليس إله أموات، بل إله أحياء»!
شخصًا مسيحيًّا أخيرًا. اختر مَن تشاء، واسأله: «أيَّ إله تعبد؟». سيبجيبك من دون إبطاء: «يسوع المسيح». افرح به علنًا، وألحق بسؤالك الأوّل هذا التالي: «لِمَ تعبده؟». إن لم يجبك: «أحبّني حتّى الموت»، فتخيّل أنّه قالها! ثمّ أردف: «هل تعتقد أنّ إلهًا لم يبخل علينا بدمه من الممكن أن يعترف بمكتفٍ بنفسه؟». إن لم يعتبر أنّك أهنته، فسيردّ عليك إنشاءً: «لا، لا يمكن أن يعترف». وسينتهي حوارك بخير.
هذه الأمثلة، المفترضة سطورًا والممكن أن تتطابق أجوبتها مع واقعنا، ليست تمرينًا أدبيًّا، أو يمكن أن تقرأ بعينين غير أخويّتين، أي وضعت لإدانة الناس، إخوتنا! وعلى أنّ زعمي أنّها تنطبق على كثيرين منهم، لم أرد، بوضعها، أن أعمّم العيب. فالعيب موجود. إن مشينا، نراه. وإن قعدنا، نراه. وإن أطللنا من شرفات بيوتنا، نراه. وإن مددنا وجوهنا شمالاً أو جنوبًا أو شرقًا أو غربًا، نراه، ونراه!
هل من الممكن أن يسأل قارئ: لِمَ لم تضمّ هذه الأمثلة سؤالاً عمّا قاله الربّ في كلامه على يوم الدينونة العظمى، أي: «ما فعلتموه بأحد إخوتي الصغار (الجائعين والعطاش والغرباء والعراة والمرضى والمسجونين)، فبي فعلتموه»؟ جوابي: خوفًا من أن تُزاد فظاعة فضيحتنا. فإن وقفنا على أفواهِ إخوةٍ تحبّه، فسنراهم يرون الربّ أرفع شأنًا من هذا التوحّد! وربّما سنسمع أنّ ثمّة مَن يعتبره، بهذه الكلمات، يبالغ! أو: قد أضاع رشده! وهذه، إن هذّبناها قليلاً، تعني أنّه لا يقصد، دائمًا، كلّ ما يقوله!
لم أرد أن أنتقد واقعًا جارحًا، بل أن أذكّر نفسي، أوّلاً، بأنّه إن لم يغدُ إرثنا وجوهنا الآن، فمصيبتنا مصيبتان. أوّلهما نكون قد غرّبنا أنفسنا عن الذين نأتي منهم. وثانيهما أنّنا لن نُرى أمينين على نقلنا الوديعة نقيّة. فلكي نأتي ونكون أمينين، ليس أمامنا سوى أن نرمي كلّ قناع نرتديه، ونستعيد وجهنا!n