سلام الميلاد كلام في السياسة
أسعد قطّان
المجد للَّه في العلى وعلى الأرض السلام في ناس المسرّة» (لوقا 2/14).
يذهب كثر من شرّاح الكتاب المقدّس إلى أنّ السلام المعبّر عنه في هذه الآية الميلاديّة من إنجيل لوقا علامة واحدة من علامات مجيء المسيح. والحقّ أنّ السلام في الكتاب المقدّس هو علامة الأزمنة الأخيرة: «ويحكم (أي الربّ) بين الشعوب الكثيرين، ويقضي للأمم الأقوياء حتّى في البعيد، فيضربون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل، فلا ترفع أمّة على أمّة سيفًا، ولا يتعلّمون الحرب من بعد» (ميخا 4/3). تتّصف الأزمنة الأخيرة، إذًا، بثقافة من نوع آخر، ثقافة تختلف جذريًّا عمّا كان سائدًا في المعادلات السياسيّة والاقتصاديّة حين نشوء كتب الأنبياء. فما يوحي به المقطع الكتابيّ هنا يتخطّى مجرّد إحجام الشعوب عن الحرب. يشير النبيّ ميخا إلى أنّ الأسلحة ذاتها ستتحوّل إلى وسائل زراعيّة: «فيضربون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل»، أي أنّ الأدوات التي يستخدمها البشر لصناعة الحرب وامتهان القتل ستعود غير موجودة، حتّى إنّهم «لا يتعلّمون الحرب من بعد». هم لن يكتفوا بالعزوف عن العنف، بل سيستغنون كلّيًّا عن تعلّم أساليب القتال مستعيضين عن ثقافة الحرب بثقافة الزراعة اللاعنفيّة، ثقافة الحرث والبذر والفلاحة والحصاد. الـرؤيـة النبويّة إلى الأيّام الأخيرة، إذًا، هي رؤية تتشوّف إلى تغيّر في النموذج المجتمعيّ يعلّي شأن السـلام ويقصي نهائيًّا إمكان الحرب.
هذا التبدّل في الذهنيّة المجتمعيّة ممكن لأنّ إله إسرائيل نفسه هو الذي سيتولّى مهمّة القضاء: «ويقضي للأمم الأقوياء». من المعروف أنّ الخلافات بين البشر التي يتعذّر حلّها قضائيًّا غالبًا ما تفضي إلى نزاعات مترسّخة، وأحيانًا إلى حروب طويلة الأمد. ولكنّ هذا سيصبح غير وارد لأنّ الربّ، لا البشر، هو مَن سيأخذ على عاتقه مسؤوليّة الحكم وتحقيق العدل. من الملاحظ أنّ البشرى التي يعلنها هذا النصّ النبويّ العبقريّ لا تقتصر على إسرائيل. فمهمّة القضاء التي ستؤول إلى الربّ دون سواه ستكون عالميّة الطابع، لأنّه سيقضي للأمم جميعها محقّقًا السلام في ما بينها. يتّسع المنظور الكتابيّ إذًا، وهذا ينسحب على كثير من النصوص النبويّة، ولا يبقى محصورًا في إطار الشعب «المختار»، حتّى إنّ الاختيار في ذاته يمسي منخرطًا في إطار أوسع بكثير أفقُهُ الأخير هو حلول البركة على شعوب الأرض برمّتها، وذلك انسجامًا مع قول اللَّه لابراهيم: «وبك تتبارك جميع عشائر الأرض» (تكوين 12/3).
لئن كان اللَّه وحده، في الفكر النبويّ، قادرًا على إنجاز هذه الرؤية، إلاّ أنّ كثيرًا من النصوص النبويّة ينيط هذه المهمّة أيضًا بالمسيح المنتظر: «لأنّه قد وُلد لنا صبيّ وأُعطي لنا ابن (...) ودُعي اسمه عجيبًا مشيرًا، إلـهًا جبّارًا، أبا الأبد، رئيس السلام» (أشعياء 9/5). المسيح، بالدرجة الأولى، هو الممسوح، أي الملك الذي يمسحه اللَّه راعيًا لشعبه. إحدى وظائف الملك المركزيّة في الفكر النبويّ، وفي الفكر القديم عمومًا، هي تحقيق السلام للشعب. ولكنّ الملوك الأقدمين، سواء في إسرائيل أو خارجه، فشلوا في إتمام هذه الوظيفة، وذلك بسبب انخراطهم في لعبة الحسابات السياسيّة الضيّقة وانصرافهم عن مهمّتهم الأصليّة، أي القضاء للضعيف، لليتيم والفقير والأرملة، وإرساء العدل. هذا الفشل الذريع للمؤسّسة الملكيّة التقليديّة يفسّر ذهاب الأنبياء إلى أنّ اللَّه وحده، في نهاية المطاف، هو مَن سيتولّى ترسيخ العدل وتوطيد السلام، وذلك على الأغلب عبر مسيحه، أي عبر ملك مثاليّ يرسله في الأزمنة الأخيرة لرعاية أمور شعبه.
في زمن ولادة يسوع، كان الخطاب السياسيّ السائد ينيط مهمّة تحقيق السلام بالقيصر الرومانيّ. والمعروف أنّ القيصر أغسطس، الذي وُلد يسوع الذي من الناصرة إبّان ولايته، كان قد ادّعى لذاته إنجاز السلام الرومانيّ (pax romana)، أي إغداق عطيّة السلام على المواطنين الرومان كافّةً عبر حماية حدود الأمبراطوريّة من البرابرة المتربّصين بها. يعتبر بعض دارسي الكتاب المقدّس أنّ كلام الإنجيليّ لوقا على الطفل يسوع الذي يحلّ سلامُ اللَّه بواسطته يجب قراءته لا انطلاقًا من نصوص العهد القديم النبويّة فحسب، بل كذلك بالنظر إلى الإيديولوجيا الرومانيّة التي كانت تعزو إلى القيصر مهمّة تحقيق السلام وترسيخه. في إنجيل لوقا، ليس القيصر هو مَن يوطّد دعائم السلام، بل الطفل الفقير المولود في مذود هو مَن يغدق السلام على البشر. بذا يضحي هذا الطفل لا وريث وعود اللَّه عن المسيح الملك الذي يقيم العدل ويؤسّس السلام فحسب، بل مصدر السلام الفعليّ في الأمبراطوريّة المترامية وبين كلّ البشر الذين ينتسبون إلى مسرّة اللَّه: «على الأرض السلام في ناس المسرّة». وفي هذا، طبعًا، نقد سياسيّ لاذع لخطاب مهيمن يحصر القدرة على تحقيق السلام في سيّد المملكة المتجبّرة الجالس على ضفاف نهر التيبر.
ينتج من هذا أنّ كلام الكتاب المقدّس على السلام، ولا سيّما في الميلاد، إنّما هو كلام سياسيّ بامتياز بمعنى أنّه يوسّع مفهوم السلام من مجرّد غياب للحرب إلى تغيّر جذريّ في البنية المجتمعيّة. وهو يشكّل، فضلاً عن ذلك، دينونةً لسادة هذا العالم بسبب فشلهم في إنجاز السلام، وهو مشروع اللَّه للأمم كافّةً. أمّا عزو الكتاب العزيز سلامَ اللَّه إلى الطفل المولود في مذود، فلا يُستشفّ منه قذفُ مشروع السلام إلى عالم ميتافيزيقيّ فرضيّ، بل يشير إلى أنّ سلام الأيّام الأخيرة، الذي قال به الأنبياء، بات جزءًا من حقيقة هذا العالم الذي نعيش فيه رغم كلّ الحروب التي لم تنتهِ بعد. هذا المشروع يتبدّى بوضوح أكبر، ويزداد حضورًا، كلّما أدرك الإنسان أنّ ابن الإنسان، أي كلّ إنسان، لا الملك أو القيصر فحسب، مسؤول عن سلام اللَّه وعدله في هذا العالم. ومن ثمّ، ليس من قبيل المصادفة أن يكون يسوع الناصريّ، مسيحُ اللَّه الذي يحقّق وعود اللَّه بالسلام، قد اتّخذ لذاته لقب «ابن الإنسان»، الذي يشير في الأصل إلى كلّ مَن هو بشر، وجعله لقبه المفضّل.n