2018

7. تحقيق: بيزنطية بعد بيزنطية - الأديرة الصربيّة - ريمون رزق – العدد السابع سنة 2018

 

بيزنطية بعد بيزنطية

الأديرة الصربيّة

ريمون رزق

 

 

الأديرة والوجود الرهبانيّ فيها

في الكنيسة الصربيّة الأرثوذكسيّة أكثر من 220 ديرًا(١)، موزّعين على الشكل التالي: نحو 110 في جمهوريّة صربيا، و30 في كوسوفو، و30 في الجبل الأسود، و30 في البوسنا، 20 في كرواتيا ودير واحد (خيلاندار) في جبل آثوس.

لم يتسنّ لنا زيارة سوى 15 منها، واحد بالقرب من بلغراد (راكوفيتشا) حيث دُفن البطريرك الراحل بافِل، و9 في مناطق أخرى من صربيا (ماناسييّا، رافِنيتشا، لجوبوستينيا، زيتشا، ستودِنيتشا، سوبوني، سوبوكانتي، غرادار وميلوسيفا)، و3 في كوسوفو (بيتش، دِيتشاني وغراتشانيكا إضافة إلى كنيسة السيّدة في بريتزرين)، و2 في الجبل الأسود (أوستروغ وموراكا)، إضافة إلى 3 أديرة في جمهوريّة مكيدونيا (القدّيس بندليمون في نِرِزي والقدّيس إقليموس الأوخريديّ والقدّيس نعوم في أوخريدا).

يتراوح عدد الرهبان أو الراهبات في الأديرة التي قمنا بزيارتها بين الواحد والخمسة وثلاثين. نحو 7 من هذه الاديرة هي أديرة نسائيّة (راكوفيتشا، ماناسييا، رافِنيتشا، زِتشا في صربيا وبيتش وغراتانيتشا في كوسوفو) والبقيّة هي رجاليّة. أوسع جماعة رهبانيّة موجودة في دير زتشا حيث أخبرتنا الراهبة الشابّة (باتريسيا) أنّ راهباتهنّ مطّلعن على الأدب الروحيّ الأرثوذكسيّ في العالم، أمثال أعمال المطران أنطوني بلوم، والأرشمندريت بلاسيد ده سيل الأرثوذكسيّين)، كما أخبرتنا أنّ عمر راهبات الدير يتراوح بين الثلاثين والتسعين سنة. ويوجد في دير غراتشانيتشا في الكوسوفو خمس وعشرون راهبة. أمّا أكثر أديرة الرهبان عددًا فهو دير دِيتشاني في كوسوفو أيضًا، الذي يضمّ عشرين راهبًا، ويأتي بعده دير سوبوتشاني في صربيا الذي يضمّ أحد عشر راهبًا.

تاريخ هذه الأديرة

شُيّدت هذه الأديرة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر، وزُيّنت آنذاك كنائسها بالجداريّات. لا بدّ من أنّ أقدمها من أعمال بنّائين وكاتبي الجداريّات أتوا من القسطنطينيّة أو من مدن بيزنطيّة أخرى، وهي تمثّل أروع نماذج باقية للفنّ البيزنطيّ الأصيل. لا يُعرف متى حلّ الفنّانون المحلّيّون مكان البيزنطيّين. فالفنّانون المحلّيّون الذين مع محافظتهم على أسس الفنّ والعمارة البيزنطيّين أدخلوا عليهما نتاج عبقريّتهم الخاصّة، فأضحوا، بسبب وضعهم الجغرافيّ والسياسيّ، مركزًا متقدّمًا لبيزنطية في البلاد السلافيّة الأقرب إلى الغرب. فتأثّروا به أيضًا وأثّروا عليه. ومن أفضل الدلائل على هذا التبادل الفنّيّ التشابه الأكيد بين جداريّات الأديرة الصربيّة القديمة وأولى جداريّات عهد النهضة الإيطاليّة المتأثّرة بها. وتوجد دلائل أخرى، بخاصّة في كنائس أديرة لجوبوستينيا وديتشاني الرئيسة، التي تمزج فنّيّ العمارة البيزنطيّ والرومانيّ بتناغم مدهش.

العمارة الكنسيّة

ثمّة ثلاثة أنماط للعمارة الكنسيّة في كنائس هذه الأديرة:

- النمط المسمّى الراسكاويّ (نسبة إلى نهر راسكا الذي يمرّ في المنطقة التي شهدت تطوّر هذا النمط) الذي ظهر بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والذي تأثّر بالعمارة البيزنطيّة، ويتمثّل بخاصّة بكنائس ذات رواق واحد مشابه للنمط البازيليكيّ، لكن تعلوه قبّة عالية مباشرة قبل الهيكل. تزامن هذا النمط مع عصر الجداريّات الصربيّ الذهبيّ، الذي لا تزال توجد نماذج عنه في دير ستوبوفي (نحو 1175) ودير غراداك (نحو 1275) والذي عرف أوج ازدهاره في دير سوبوتشاني (نحو 1276).

- النمط المكيدونيّ المدعو أيضًا «الفارداريّ»، نسبة إلى نهر فاردار، الذي نما بين منتصف القرن الثالث عشر وأواخر القرن الرابع عشر، والذي يتمثّل بكنائس ذات مسطّح مصلّب قريب من المسطّح المربّع البيزنطيّ، لكن المتأثّر خارجيًّا بالعمارة الغوطيّة في مملكة هنغاريا المجاورة. توجد في دير ستودينيتشا كنيستان، واحدة من النمط المكيدونيّ بينما الأخرى التي هي الأقدم تتبع النمط الراسكاويّ.

وتمثّل كنيسة دير غراتشانيكا في كوسوفو نموذجًا ثانيًا للنمط المكيدونيّ حيث يظهر فيها جليًّا التأثير البيزنطيّ. كنيسة والدة الإله هي آخر الكنائس التي شُيّدت في مطلع القرن الرابع عشر، وتُعتبر من أهمّ التراث البيزنطيّ المعماريّ في صربيا. جمال المبنى الخارجيّ يكاد يوازي سموّ الجداريّات الداخليّة. الكنيسة مربّعة ويتنوّع شكلها فيما ترتفع إلى أن تصل إلى القبّة الوسطيّة.

- النمط المورافيّ (نسبة إلى نهر مورافا) الذي تطوّر في أواخر القرن الرابع عشر وانتهى عند الاحتلال العثمانيّ للبلاد، والذي يتمثّل بكنائس ذات مسطّح مثلّث الأروقة مع زينة خارجيّة مميّزة تأثّرت بالعمارة الغوطيّة. تمثّل كنيسة دير ماناسيجا نموذجًا رائعًا لهذا النمط العمرانيّ.

ولكن أجمل كنيسة من هذا النمط التي تسنّى لنا مشاهدتها هي كنيسة دير لجوبوستينيا، إذ يشعر المرء أمّام جمالها الخارق أنّ الروح أصبح حجرًا.

البناية الكنسيّة الصربيّة تعادل جمالاً، وربّما تفوق أحيانًا، كلّ ما وصل إلينا من نتاج العمارة الكنسيّة ضمن الثقافة البيزنطيّة. عندما تصل الأمور إلى مثل هذه القمم، يصعب التشبيه، ويلجأ المرء إلى شعور الملء الذي ينتابه أمام جمال يفوق الطبيعة وليس منها كلّيًّا. إنّها توازي ما شاهدته في القسطنطينيّة (آيا صوفيا وكنيسة المخلّص في كورا)، واليونان (أديرة الطوباويّ-أوسيوس لوقا، ودافني بالقرب من آثينا، ونيا موني في جزيرة خيو، وكنائس تسالونيكي وميسترا وغيرها)، وفي كييڤ (كنيسة آيا صوفيا)، وروسيا (كنائس دير الثالوث القدّوس-القدّيس سِرجيوس في سِرغي بوسّاد وكنائس الكرملين ونوفغورود بخاصّة وغيرها)، ورومانيا (كنائس أديرة مولدافيا والبوكوفين)، وما وجدته في الكتب حول العمارة الكنسيّة في التقليد البيزنطيّ في بلغاريا وجاورجيا وأرمينيا. ليست مشاهدة هذه الكنائس، وتمتمة الصلاة أمامها لا شعوريًّا سوى نعمة من لدن الخالق.

كنائس أخرى ذات العمارة المميّزة

كنائس دير بطريركيّة بيتش في كوسوفو

لا بدّ من التوقّف عند «كنائس» دير بطريركيّة بيتش الأربع المتلاصقة. إنّها كنيسة الرسل القدّيسين الوسطيّة التي شُيّدت نحو السنة 1250، والتي تحيط بها من الجهة الشماليّة كنيسة القدّيس ديمتريوس التي شُيّدت نحو السنة 1320، ومن الجهة الجنوبيّة كنيسة السيّدة التي شُيّدت نحو السنة 1330. ويجمع بين هذه الكنائس الثلاث مجاز واسع مزيّن بالجداريّات كما هو الوضع في هذه الكنائس. وأُضيفت إلى جانب كنيسة السيّدة كنيسة صغيرة مكرّسة للقدّيس نيقولاوس.

معالم عمرانيّة

يظهر التأثير الغربيّ الذي يتجانس مع الأساس البيزنطيّ بخاصّة في التفاصيل العمرانيّة وتزيين الكنائس الخارجيّ.

الأيقونسطاس

لفتني أنّ أيقونسطاس معظم كنائس الأديرة يتبع النمط التقليديّ، أي قبل أن تعمّ عادة الأيقونسطاس- الحائط الفاصل تمامًا بين الهيكل وصحن الكنيسة. ولفتني أيضًا أنّه أُزيل في بعض الأديرة الأيقونسطاس الذي وُضع في قرون متأخّرة ذات الزخرفة المثقلة، وأقيم مكانه أيقونسطاس تقليديّ ذات فتحات واسعة وقليل الارتفاع.

نكتفي بهذا القدر الذي أعتقد أنّه يُعطي فكرة عن البناية الكنسيّة في أديرة صربيا التي لا يمكن للكلام، مهما كثر أن يُعطيها حقّها. أرجو فقط أن مَن يقرأنيّ يهمّ بزيارتها ليقف على معالم العالم الأرثوذكسيّ الأكثر سموًّا، التي هي على الأقلّ في كوسوفو في حالة خطر.n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search