الأطفال لا يحتاجون إلى تربية!
بيتر بندلي
لا أريد أن أتحدّث هنا عن التربية الحرّة التي درجت في الثمانينات من القرن الماضي، لأنّ تجربتنا وخبرتنا في هذا الإطار أظهرتا أنّ تنفيذ هذه النظريّة ونجاحها في تربية الطفل وفي مساعدته على النمو السليم محصوران جدًّا. ولا أطرح هذا الاقتراح بسبب قناعتي بأنّ الأطفال ليسوا بحاجة إلى دعم الأهل، أو أنّهم غير محتاجين إلى الطمأنينة عبر وجود أهلهم الذي يعطيهم القوّة والثقة بقيمة نفسهم. إنّما أكتب هنا مرافعة لعدول المجتمع عن فكرة ضرورة تربية الأطفال لعدد من الأسباب. هدفي هو إبراز عدم احتياج الأطفال إلى راشدين يدرّبونهم مثلما يُدرّب القرد في السيرك، إنّما إلى أهل يحبّونهم ويعيشون معهم.
أودّ أن أشرح هذا التعايش المشترك وأن أُبرز حاجيّات الأطفال الأساسيّة والمهارات التي يحتاج الأهل إليها. بادئ ذي بدء على الأهل أن يعرفوا ماذا يريدون، عليهم أن يحبّوا أولادهم وأن يعيشوا القيم التي يريدون أن يتعلّمها أولادهم.
ابتداءً من العام الثاني من العمر، عندما يبدأ الأطفال بفهم كلمات الأهل الموجّهة إليهم، وحتّى عمر عشر سنوات، يحاول الأهل بمعدل مرّة كلّ عشر دقائق تقريبًا تصحيح تصرفاتهم. هذا ما يعادل أكثر من خمسين تدبيرًا، ضبطًا وتهذيبًا يوميًّا. أنا أرفض ما يفعله الأهل والذي تعتبره العامّة «تربية الأطفال». فالأطفال لا يتعلّمون من هذا التدخّل في حياتهم وهذه التوجيهات طريقة التصرّف، إنّما يتعلّمون أنّ ما يعملونه لا يكفي الأهل. فهم يشعرون أنّه ليس بإمكانهم إرضاء أهاليهم. وقد تنتج من هذا قناعة بأنّهم ليسوا جيّدين أي لا قيمة لهم وهكذا تنخفض الثقة بقيمة ذاتهم.
كباحث في مجال التربية أنادي بإلغاء هذه التربية الناقصة، لأنّنا إن كنّا صادقين مع أنفسنا نعرِّف التربية بأنّها فقط ابتزاز ورشوة، لا غير. خبرتي في الميدان التربويّ ومع أولادي الثلاثة أقنعتني بأنّ الكلام على تربية الأطفال وعلى حاجة الأولاد إلى الحدود ينتهي دائمًا إمّا برشوة الأولاد أو بابتزازهم. فليست هناك عمليّة تربويّة تكمن من دون القول: «إذا فعلت ذلك... فإذًا...» أو «إن عملت ذلك... سوف أعطيك...». بواسطة هذا التعامل معهم لا يتمكّن الأولاد من استيعاب سياق منطقيّ لتصرّفاتهم ولا يتعلّمون معناها بحدّ ذاتها من دون العلاقة بالمكافأة، بالقصاص المهدّد أو بالتخلّي عنه.
أهلٌ يعرفون ماذا يريدون
تربية الأطفال ليست سهلة، ومعظم الناس يدركون هذا بعد ولادة أطفالهم ونموّهم مع الزمن. وما زالت مدارس الأهل غائبة وإرشاد الأهل غير متوفّر. وهكذا لا نستغرب أنّ معظم الناس يواجهون هذه الخطوة من دون استعداد ومن دون أن يدركوا ماذا ينتظرهم. في فترة الحمل وقبل ولادة الطفل يحضّر الوالدان نفسهم للمستقبل. فهما يخطّطان الجهاز الأساس ويعملون حساب كلّ شيء وكلّ ما يمكن لهم أن يشتروه. لكن هناك ما لا يُشترى بالمال. هناك العديد من الكتب حول الإرشاد التربويّ. كلّ كاتب يروي وجهة نظره وكأنّها الحقيقة المطلقة، وكأنّ كل ما يقوله ينطبق على كلّ مكانٍ وزمان. معظم هذه الكتب تعلّم تقنيّات وترفع هذه التقنيّات إلى مستوى عالٍ ليعتقد القارئ أنّ عليه فقط تطبيق هذه المهارات ليصبح أبًا ناجحًا أو أمًّا ناجحةً. فتتحوّل بذلك مهارة الأهل إلى مهنة مثل باقي المهن. ويعتقد الأهل حينئذٍ أنّ عليهم فقط تطبيق التعليمات الواردة لكي ينجحوا في تنفيذ واجبهم الأهليّ. إلاّ أنّ الموقف المحبّ الذي يحترم الطفل كفرد خلق على صورة الله له خصوصيّته وحرّيّته لا يؤخذ من تلك النصائح وكيفيّة احترام خاصّيّة الطفل ليست تقنيّة أو مهارة، إنّما هي حياة وموقف واقتناع. نادرًا ما نقرأ عن أهمّيّة استقلال المرء من نفسه لكي يفكر بما يحصل من حوله من دون أن يتخلّى عن مشاعره وعواطفه. إلّا أنّ هذا الموقف هو الذي يشكّل التمييز بين النجاح أو الفشل. إنّه هذا الموقف الذي يميّز إن كان الأهل يعرفون ما يريدون أو أنّهم يتصرّفون من دون تفكير على ضوء خبرتهم الشخصيّة ويكرّرون كيف تعامل أهلهم وأساتذتهم معهم غير ذاكرين معاناتهم.
الأهل على تواصل دائم مع الأولاد، فهم يوبّخونهم، يطالبونهم بتلبية أمرٍ ما أو يمنعون تصرّفًا من تصرّفاتهم. يؤدّي تخوّف الأهل، غياب استقرارهم وثباتهم النفسيّ أو التناقضات في أمنياتهم وقناعاتهم إلى متطلّبات متناقضة يأتون بها إلى الطفل. التناقضات التي تقال والتي تعاش أمام الطفل تنتج من الصراع الداخليّ الذي يعيشه الأهل. من ناحية أولى يتصرّفون كما كان يتصرّف أهاليهم لأنّهم تعلّموا التربية بالتماثل بهم. من ناحية ثانية يتذكّرون كيف كانوا يكرهون تصرّف الأهل هذا، فهم يتذكّرون الألم ولا يريدون أن يتألّم بنوهم كما تألّموا في مرحلة طفولتهم. وتنتج من هذا الصراع الداخليّ واللاواعي inconscious أقوال وممنوعات وتحذيرات وطلبات يندم الأهل بعد إطلاقها وتُسحب أو تنقّح. هذا التصرّف المتناقض يعكس حيرة الأهل. والنتيجة هي اضطراب عند الأطفال وفقدان السند الذي يعطيهم الطمأنينة. كثير من التجارب أثبت الضرر الذي ينتج في نموّ الإنسان عن فروض متضاربة.
السؤال الجذريّ الذي على الأهل أن يجيبوا عنه هو ماهيّة الولد الذي يريدون أن يكون عندهم: أطفال ينمون بحرّيّة وسعادة أو أطفال مطيعون؟ تجيب أغلبيّة الأهل من دون أيّ تردّد بأنّها تريد أولادًا أحرارًا وسعداء. وهكذا يتصرّفون مع أولادهم. المأساة تكون أنّ الأهل يتقبّلون تصرّف الطفل الحرّ حتّى يرفض الطفل أن يختار بحرّيّته ما يريده أهله. الرسالة المتناقضة التي يتلقّاها الطفل تترجم كما يلي: «أنت يا ابني أو يا ابنتي يمكن أن تختار(ي) بحرّيّتك ما أفرضه عليك».
هذا التناقض اسمه double bind ويؤدّي في بعض الأحيان إلى تصرّفات يقول الناضجون إنّها تصرّفات شاذّة (شيطنة) تسمّى اضطرابًا سلوكيًّا معارضًا. في بعض الأحيان يتبع هذا علاج نفسيّ سلوكيّ أو علاج بالدواء. غير أنّ تصرّف الولد هذا ليس إلّا نتيجة تكليفه بأكثر ممّا في وسعه حمله، من ناحية تقرير مصيره والتعامل مع تناقضات الأقوال والفروضات الأهليّة.
أهلٌ يحبّون أولادهم
يحتاج الأولاد في نموّهم إلى محبّة الأهل كما يحتاجون إلى الموادّ الغذائيّة. هذه النظريّة ليست فقط فكرة لتجميل الأبوّة، إنّما هي حقيقة بيولوجيّة أثبتت علميًّا. عندما كان الأمبراطور فريدريك الثاني يبحث عن اللغة الأساسيّة ويتساءل عن ماهيّة اللغة التي يتكلّمها الإنسان إن لم يعلّمه أهله لغتهم، أخذ عددًا من الرضّع من أهلهم وأعطاهم لمربيّات للعناية وأمرهنّ بأن يطعمن هؤلاء الأطفال، ويعتنين بهم من دون أيّ تعاطٍ إنسانيّ أو اجتماعيّ معهم، أي من دون أن يكلّمنهم أو يداعبنهم. وبنيتجة هذه المعاملة توفّي الأطفال. برهن عدد كبير من الدراسات، في النصف الثاني من القرن الماضي، أنّ الإهمال العاطفيّ يؤدّي إلى مشاكل نفسيّة وصحّيّة كبيرة. من الطبيعيّ أن ليس الأطفال كلهم يعانون هذه الحساسيّة والاستعداد للإصابة (فهذا يرتبط أيضًا بالمهارات الجينيّة وخبرة الأجيال السابقة، أي أنّ خبرة الأهل والأجداد ما زالت حيّة وحاضرة بيولوجيًّا عند الطفل). ولذلك لا يمكن لنا أن نتنبّأ بما سيحصل ونتكلّم على ماهيّة الضرر الذي سينشأ. وهذا أيضًا يشرح لنا حياة بعض الأشخاص الناجحة رغم طفولتهم التعيسة أو فشل بعض الأشخاص رغم طفولتهم الرائعة. فبعض هذه الاستثناءات لا يجوز لها أن تصل بنا إلى رؤية نسبيّة أو إلى تقليل أهمّيّة محبّة الأهل. الأبحاث والدراسات التي دارت جول علوم الدماغ برهنت هذه الحقيقة في العقدين الماضيين.
محبّة الأهل هي الأساس الذي يُبنى عليه والذي يساعد الولد على تطوير إمكانيّاته (الجينيّة وما تلقّاه من خبرة الأسلاف). عندما يعيش الطفل محبّة الأهل وتوجّههم الإيجابيّ تجاهه تطلق هورمونات وغيرها من وسائط كيميائيّة تدعم نموّ الدماغ السليم.
إنّها محبّة الأهل التي تأخذ خوف الأولاد من الدنيا وتحفر في أجوافهم الثقة والطمأنينة والاستقرار. هذه المحبّة هي التي تعطي الأولاد السند الذي يحتاجون إليه ليكتشفوا الدنيا من دون خوف. الأهل المحبّون هم ما يسمّيه علماء نظريّة التعلّق المرفأ المستقرّ أو مرفأ الاستقرار. هو المكان الذي يمكن للأولاد أن يعودوا إليه عند كلّ اضطراب عاطفيّ يعيشونه سواء كان سببه إيجابيًّا أو سلبيًّا. الأهل يقفون إلى جانب الطفل عند شعوره بالفرح أو بالكآبة، ويساعدونه على فهم مشاعره والتعامل معها والسيطرة عليها.
أن يحبّ الأهل أولادهم يعني أن يتركوهم على ما هم عليه. وأن يسمحوا لهم بأن يطوّروا ذاتهم بالاستقلال عن ذات أهلهم. من المكوّنات الأساسيّة لنموّ هذه الذات السماح للأطفال بالقيام بخبرتهم الشخصيّة الخاصّة. تشمل هذه الخبرات أيضًا الشعور بالفشل والإحباط والحزن. لا يكمن دور الأهل المحبّين في حماية الطفل وعزله عن هذه الخبرات، كما يفعل أهل يعطون رعاية فائقة ويسمّون بالإنكليزيّة «helicopter parents»، إنّما يكمن في أنّ يكون الأهل إلى جانب الطفل لكي يستوعب ما يحصل، ولكي يتمكّن من أن يتعلّم طريقة التعامل والتعاطي مع المشكلة التي عاشها. عند الرعاية الفائقة يعيش الأهل خبرة الولد السلبيّة وكأنّها خبرتهم الشخصيّة. التعاطف والتشاعر (empathy) يتحوّلان إلى استملاك. الأهل لا يشعرون مع أطفالهم إنّما يشعرون بدلاً من أطفالهم. فمشاعر الطفل تصبح مشاعر الأهل. هم لا يتأسّفون لوجع أطفالهم أو يفرحون لأنّهم يرون فرحتهم، إنّما ألم الأولاد أو سعادتهم يصبحان ألم الأهل أو سعادتهم. كيان الأهل يذوب مع كيان أولادهم فلا يسمحون بنموّهم الشخصيّ المستقلّ. وكأنّ الاولاد لا يعيشون لأنفسهم بل لأهلهم. فوجود الأولاد ليس له قيمة بحدّ ذاتهم فهم مثل شيء تابع لأهلهم وملكهم. وفي النهاية لا يتمكّن الأهل من أن يساعدوا أطفالهم على استيعاب وضعهم العاطفيّ وتعلُم التعاطي معه، لأنّ هدفهم الأساس يكمن في استيعاب مشاعرهم وعواطفهم الخاصّة (مثلاً: شابّ بدأ بدراسة الهندسة لأنّ أهله يريدون ابنهما مهندسًا يفتخرون به أمام العائلة والأحباب. بدأ هذا الشاب الدراسة ونجح، غير أنّه لا يهوي هذه الدراسة ولا يفرح بها، لأنّه يهوي دراسة مادّة التاريخ. قال لأهله إنّه يريد أن يغيّر ميدان دراسته فرفض هؤلاء سائلين إن كان يعرف أنّ هذا التصرّف فضيحة لهم. الأهل هنا لا يهمّهم مشاعر الولد إنّما يتمحورون حول مشاعرهم الخاصّة. فالولد ما عادت له أهمّيّة بحدّ ذاته وأصبح مادّة يملكها الأهل. يقول الأهل إنّهم يحبّون الولد وإنّهم يريدون الخير له. لكن في الحقيقة هم لا يحبّون إلاّ أنفسهم. هذه ليست محبّة! هكذا نرى أنّ العناية الفائقة ظاهريًّا بالولد ليست دليل محبّة إنّما دليل محبّة الأهل الذاتيّة، لأنّ مساعدة الأطفال لينالوا الطمأنينة ليس هاجس الأهل، إنّما هدوء اعصابهم واضطرابهم يأتي في المكان الأوّل. العناية الفائقة بالأطفال ليست إذًا لمصلحة الطفل إنّما لمصلحة الأهل.
يشابه ما سبق ذكره طفلاً رفض طاعة أهله وأصابه ضرر. فكيف يواجهه والداه عادةً؟ هما يلومانه لأنّه لم يسمع ولأنّه تسبّب بالضرر الذي ناله (خرجك بتستاهل، لو سمعت الكلمة ما كان صار هالشي). أين المحبّة في هذا التصرّف؟ هل يشعر هذا الطفل الذي يُلام بمحبّة أهله؟ أليست الحقيقة أنّ هذا الطفل يشعر بأنّ أهله تركوه؟ إذا أضاف الأهل جزاءً على هذا اللوم يشعر الطفل ألمًا لا يتمكّن من استيعابه أو تخديره. وهذا الألم يرافقه خلال حياته. لكي يستوعب ألمه ويتمكّن من التعامل معه، يحتاج إلى تعزية الأهل من دون لوم ومن دون توبيخ. إذا جاء الولد على سبيل المثال بعلامة دون الوسط من المدرسة، يحتاج هذا الولد إلى أهل يضمّونه ويعزّونه. غير أنّ الأهل بغالبيّتهم يلومون الولد ويقاصصونه ويفكّرون أنّ تصرّفهم محبّة. يفعلون تمامًا ما كانوا يكرهونه عند تصرّف أهلهم معهم وينسون حاجة الولد إلى التعزية. محبّة الأهل الحقيقيّة لا تلوم ولا تعاقب إنّما تسأل عن الحاجات. وبعد تعزية الطفل يُسأل عن حاجته وأيّ مساعدة يمكن أن تقدّم له لئلاّ تتكرّر هذه العلامة المدرسيّة السيّئة. هذا السؤال لا يمكن له أن يأتي بنتيجة إلاّ إذا غاب اللوم وغاب العتاب. لنتخلّ جميعًا عن المثل الباطل الذي يقول إنّ “من عاتبك أحبّك”، ففي العتاب لوم وهذا يثير مراكز الألم في الدماغ. عتاب الأهل يؤلم الولد ولذلك لا يشعر الولد المعاتب بالحبّ! محبّة الأهل لأولادهم تسمح لهم بأن يكونوا ناجحين حتّى لو كانوا مختلفين.
أهل يعيشون القيم التي يريدون أن يتعلّمها أولادهم
أهمّ نقطة في ميدان تطوّر الشخصيّة هي ما يراه من تصرّفات الأهل لا ممّا يسمعه من «خلايا مرآة mirror neurons». في هذه الخلايا يصاغ كلّ ما يعيشه الإنسان ويشاهده ويختبره. للصور التي تنشأ عدد كبير من الأدوار. من الناحية الأولى هي تساعد الإنسان على أن يدرك تصرّفًا سبق وتعرّف إليه في الماضي. من الناحية الثانية تحفظ هذه الخلايا الخبرات الجديدة في الذاكرة لكي تساعد على إدراك هذا التصرّف إذا واجه الإنسان مرّة ثانية. قبل أن يكتشف علماء الدماغ هذه الخلايا كان المعلّمون يتكلّمون على التعلّم بواسطة التقليدimitation learning. بهذه الطريقة يعتنق الأولاد التصرّفات التي يعيشها أهلهم أمامهم. فتشابه تصرّفات الأولاد بتصرّفات الأهل سببها ليس جينيًّا، إنّما هو هذا التقليد لأنّ تصرّفات الأهل تُخزّن في الخلايا المرآة. تصرّف الأهل إذًا هو نموذج للتصرّف الشخصيّ. هكذا فلا يمكن لنا أن نعلّم ولدنا مدى أهمّيّة الصدق ونقول له يوميًّا: “قل الصراحة!” إن لم نكن صريحين في أقوالنا وأفعالنا. فالمجاملة كذبة كبيرة. لا أقول إنّه علينا أن نمتنع عن المجاملة، إنّما أقول إنّها تعلّم الطفل أنّ الصدق لا يُعاش، فتوقّفوا عن مطالبة الأطفال بقول الحقيقة المطلقة وتوقّفوا عن معاقبة الأولاد إن كذبوا عليكم!
تصرّف المرشدين والمعلّمين له مكانة مماثلة لتصرّف الأهل. فالمربّي أو الأستاذ الذي يضرب طفلاً لأنّه ضرب ولدًا آخر ليعلّمه أنّ الضرب غير مقبول، يعكس في خلايا دماغ هذا الطفل أنّ الضرب لغة تعاطٍ مقبولة. وإهانة التلميذ لكي يحترم الأستاذ ترسّخ في دماغ هذا الطفل أنّ الإهانة هي طريقة تعامل مقبولة. وإن توقّف الطفل عمّا يعمله لأنّه يخاف العقاب فسوف يتصرّف كذلك عندما يكبر. معنى القدوة الجيّدة أصبح في ذهننا ذكرى جميلة يتكلّم الجميع عليها، من دون أن تكون لهذا الكلام أبعاد تربويّة تؤخذ منه أداة يستعملها الأهل والاختصاصيّون. الأولاد يقلّدون تصرّف أهلهم وعائلاتهم أوّلاً، ثمّ تصرّف المربّين والأساتذة ليتحوّل هذا التصرّف إلى مهارة تلازم شخصيّة الإنسان.
خلاصة: أتمنّى أن تكون وجهة نظري واضحة. فمطالبتي بمجتمع من دون تربية لا أقصد به ترك الأولاد من دون الاهتمام بهم، ليكونوا متروكين لأنفسهم من دون دعم أو مساعدة. لكن ما ألحّ عليه هـو رؤية الولـد كما هو لا كما يريده أهله. المرافقة النشيطة التي يحتاج إليها الأطفال من أهلهم تكمّن في أن يحبّوهم، ويعرفوا حقًّا رغباتهم ويعيشوا القيم التي يريدونها أمام أطفالهم لكي يتمثّل هؤلاء بهم.n