نديم حيدر
في سطور غير مكتملة
غسّان الحاج عبيد
هو نسيبي. وقد جمعنا، لسنين طوال، في طرابلس، مبنى سكنيّ واحد قائم في شارع المئتين المؤدّي إلى حيّ الزاهريّة، على بعد أمتار من دار المطرانيّة القديمة التي كانت قائمة في الحيّ ذاته، في نطاق «حارة النصارى»، شاهدة على حضور مسيحيّ مشرقيّ طيّب، مضمّخ بطيب الحبّ العيسويّ، قبل تدميرها، في ثمانينيّات القرن الماضي، بأيدي عمّال الإثم الذين يتقنون زرع الفتن والرقص على حبال الحقد والكراهية والتفرقة والبغضاء. فبيني وبين نديم، إذًا، رابطان: رابط النسابة ورابط الجيرة. بيد أنّي لن أقرأه، في هذه العجالة، نسيبًا. فنحن، الذين نشأنا في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وتربّينا فيها على «فكر المسيح» (فيليبّي2: 5)، تعلّمنا، ولمـّا نزل، أنّ رابطة الدم ليست، بحدّ ذاتها، شيئًا، وأنّ رابطة الفكر والرؤية هي كلّ شيء. فلربّما كان أقربهم إليك رحمًا ودمًا أبعدهم عنك فكرًا ورؤية. تحضرني، في هذا السياق، الحادثة الإنجيليّة التالية: «لمـّا جاء يسوع إلى نواحي قيصريّة فيليبّس سأل تلاميذه: من ابن الإنسان في قول الناس؟ فقدّموا له إجابات مختلفة. ولمـّا سألهم ومن أنا في قولكم أنتم؟ أجابه سمعان بطرس: أنت ابن اللَّه الحيّ. فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا، فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات...» (متّى 16: 15- 17). لن أقرأ نديمًا، إذًا، بأبجديّة النسابة الدمويّة بل بأبجديّة النسابة إلى يسوع المسيح. سأقرأه عضوًا في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وهذا يكفيني. أنا لم أختر حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. هي اختارتني أوّلاً وأنا، بعد، فتى يافع. اختارتني بواسطة نديم وشقيقه التوأم شفيق. هما قادا خطواتي الأولى إليها، وكانا قد سبقاني إليها بحكم تقدّمهما عليّ في العمر. فوجدتني، هكذا، مرميًّا فيها. وقبل أن أعرف الحركة مبادئ ورؤية وفكرًا، عرفتها فيهما أوّلاً. تصوّرَت لي الحركة، أوّل ما تصوّرَت، في شخصهما، فتمّ لي، هكذا، عبرهما، اللقاء الشخصيّ بيني وبينها. ولعلّي- وهذا اعتراف أدلي به وشهادة- بسبب منهما أحببتها وتعلّقت بها. وبتّ، يومًا بعد يوم، أجدني أشدّ تعلّقًا بها، حتّى، إذا بلغت من العمر ما بلغت، وغدوت على بعض من الرشد، صارت لي الحركة خياري الشخصيّ.
المبادئ، حبرًا على ورق، لا تعني شيئًا. المبادئ ، مجسّدة في أناس من لحم ودم، تعني الكثير الكثير، كيلا أقول تعني كلّ شيء. الأشخاص المبدئيّون، لا الحبر، يهزّون كيانك، يحرّكون فيك كلّ ساكن، يحدثون فيك تحوّلاً داخليًّا، توبة كيانيّة، فيرفعونك قلبًا وعقلاً إلى اللَّه. هذا كان نصيبي مع نديم (وشفيق)، وإنّي، ما حييت، مدين لهما بهذا النصيب. فمعهما- وطبعًا مع كثيرين سواهما من الرعيل السابق، أو من الرعيل اللاحق ممّن يضيق بذكرهم المقال- كان لي نصيب أن أعرف الحركة.
أوّلاً: مدرسة في القراءة المفيدة والوقوف على الوصايا الإلهيّة. فقبلما كانت الدراسة اللاهوتيّة، في أنطاكية، تحصيلاً أكاديميًّا في معهد جامعيّ، كانت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، ولمّا تزل، هي هذه المدرسة: بمنشوراتها (منشورات النور التي تحوّلت إلى تعاونيّة)، ومجلّتها الدوريّة (مجلّة النور)، وحلقاتها الدراسيّة وأُسَرها التي تجمع الأطفال والمراهقين والراشدين والبالغين والعائلات حول فكر الكنيسة بمصادره المختلفة، التي الكتاب المقدّس أساسها ومحورها، فيقبلون على هذا الفكر بشغف ونهم ويبنون به الشخص والكيان. حتّى، إذا ما أبصر المعهد اللاهوتيّ الأنطاكيّ النور في مطلع سبعينيّات القرن الماضي (معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ في البلمند)، كان هذا المعهد ثمرة الرؤية الحركيّة للتربية والتعليم اللاهوتيّين في أنطاكية (راجع كتاب «أنطاكية الجديدة» للأرشمندريت جورج خضر، منشورات النور 1969). وشهادة للحقّ ينبغي لي، في هذا السياق، أن أسجّل أنّه كانت لنديم، في هذه المدرسة، مساهمات تذكر، إن في الفرق التي كان يجمعها، أو في الحلقات التي كان يقودها، أو في الأحاديث التي كان يقدّمها، وأعداد مجلّة النور شاهدة عليها.
ثانيًا: مدرسة في الصلاة. فلَكَم كان تأثّري به كبيرًا عندما كنت أراه، في صبيحة كلّ أحد، ينهض من نومه باكرًا، يمنطق حقويه بمنطقة من الشوق العلويّ، ويمتطي صهوة جواد العشق الإلهيّ، لينطلق مسرعًا إلى الكنيسة حيث الجماعة الشكريّة متحلّقة حول الحمل في عرس الحمل. حتّى، إذا ما آن أوان مناولة القرابين الإلهيّة، تقدّم منها بخوف ورعدة، وتناولها بخشوع ورضى، إيمانًا منه ويقينًا أنّها غذاؤه الأوحد لغفران الخطايا والحياة الأبديّة. هكذا مارس نديم طالما هو عازب. ولمّا تزوّج بالأخت ملكة دروبي (الميناء) ورزقهما اللَّه أولادًا، لم يبدّل في مسيرته تبديلاً، بل استمرّ على النحو عينه، ما فترت له همّة ولا وهن له عزم. بل ربّما اشتدّت حماسته فبتّ تراه، كلّ أحد، يسلك الطريق ذاته إلى الكنيسة ذاتها ومعه، هذه المرّة، زوجته وأولاده، ليصحّ فيه قول أشعياء: «هاءنذا والأولاد الذين أعطانيهم اللَّه» (أشعياء 8: 18)، أو قول يشوع: «وأمّا أنا وبيتي فنعبد الربّ» (يشوع24: 15). وهكذا اختبرت مع نديم، وربّما لأوّل مرّة، كيف يكون البيت كنيسة صغيرة. إنّ دراسة الكلمة الإلهيّة، بمعزل عن الصلاة، قد تنشئ عارفين، غير أنّها لا تنشئ، بالضرورة، غيارى على كنيسة المسيح، حارّين، يخافون الربّ ويهذّون به في الأسحار وفي كلّ حين. فقط في مناخ الصلاة الكلمة تفعل هذا. نديم حيدر أدرك هذا وعلّم به، وعلّم أنّ حركةً لا ترميك في سرّ الشكر، سرّ الجماعة، لا مبرّر لوجودها ولا لاستمرارها.
ثالثًا: مدرسة في الخدمة والشهادة. فأخونا المنتقل عنّا نديم تعلّم في الحركة وعلّم أنّه يجب على الكنيسة أن تكون أيقونة سيّدها الذي قدّم نفسه لتلاميذه على أنّه الخادم لمـّا قال لهم: «إنّ ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم، وليبذل نفسه فداء عن كثيرين»، (متّى 20: 28). وكان، قبيل ذلك، وفي السياق عينه، قال لهم: «أنتم تعلمون أنّ رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلّطون عليهم. أمّا أنتم فلا يكن هذا فيكم، بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم الأوّل فليكن لكم عبدًا»، (متّى 20: 25-27). وقد قرن هو نفسه القول بالفعل، فرأيناه، لمّا دنت ساعة تسليمه على يد يهوذا، «يغسل أرجل التلاميذ...»، (يوحنّا 13: 5)، ثمّ، وفي السياق عينه، سمعناه يقول لهم: «أنتم تدعونني معلّمًا وسيّدًا وحسنًا تقولون، لأنّي أنا كذلك. فإن كنت، وأنا السيّد والمعلّم، قد غسلت أرجلكم، فيجب عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض...»، (يوحنّا 13: 13و14). نديم حيدر علّم بهذا وعمل به، فكان، عبر المسؤوليّات التي تولاّها في الحركة (رئيسًا لمركز طرابلس لسنوات ثمّ أمينًا عامًّا لستّ سنوات)، وقبل ذلك، في ستّينيّات القرن الماضي، رئيسًا لتحرير «نداء النور»، وكان، آنذاك يصدر إلى جانب مجلّة النور، كملحق شبابيّ بها، ويتولّى تحريره الطلبة الجامعيّون في الحركة. من أوائل الذين نظّروا للخدمة الاجتماعيّة فيها ودعوا إلى إيلاء هذه الخدمة الأولويّة التي تستحقّها. ولمّا تأسّس، في فرع الميناء، المستوصف التابع للحركة والذي يعمل بالتنسيق مع مصلحة الإنعاش الاجتماعيّ في الدولة، كان هو من الذين عملوا على ترسيخ قواعده وتثبيت دعائمه. لقد علّم نديم حيدر أنّه، إذا طرق بابك طالب خدمة أو محتاج، لا يحقّ لك أن تشيح وجهك عنه، أو أن تحيله على غيرك، فهو دينونتك أمام الديّان، وخدمته مطلوبة منك، والآن، والويل لك إن قصّرت. المحتاج بابك إلى الملكوت، فإمّا أن تفتح له باب بيتك فيُفتح لك باب الملكوت، أو لا، فتبقى خارجًا.
هذا، وقد رأى نديم في الخدمة بُعدًا متمّمًا لها هو بُعد شهادة. رأى أنّ الكنيسة، بالخدمة التي تؤدّيها، إنّما تشهد لسيّدها في المحيط الذي شاءه لها. الكنيسة الشاهدة لمسيحها في أمكنة الناس وأزمنتهم، الراعية للناس في أوضاعهم وأحوالهم، تفرح معهم إذا فرحوا وتتألّم إذا تألّموا، ساعية، في كلّ هذا، إلى أن تكون على مثال سيّدها لمّا دعا المتعبين والثقيلي الأحمال إلى أن يأتوا إليه ليريحهم، هذه الكنيسة هي التي طالما رنا إليها نديم حيدر. ولعلّه بهذه القناعة انخرط في الحقل العامّ ونشط فيه مع نقر من أترابه ليشهدوا للملأ أنّ كلّ قضيّة إنسانيّة متّصلة بالحقّ والعدل إنّما هي، بشكل أو بآخر، قضيّة كنسيّة بامتياز، حتّى ولو غير ممهورة بخاتم الكنيسة. فكنيسة المسيح -كما تعلّموا- لا يسعها أن تكون في غربة عن قضايا الناس، ووجه المسيح نقرأه في قسمات كلّ مقهور وكلّ جريح وكلّ شريد أو طريد... فعن هؤلاء يبحث المسيح، وفي إثرهم يسعى وقد جعل في كلّ منهم مقامه.
وفي مطلع ثمانينيّات القرن الماضي، إثر الحرب الأهليّة التي عصفت بلبنان -وما كانت الدماء البريئة التي أُهرقت فيها قد جفّت بعد- أخذت ترتفع في البلد، وبحدّة، أصوات نشاز تنادي بالتقسيم والفرز الطائفيّ. غير أنّ لطف اللَّه لم يسمح لهذه الأصوات النشاز بأن تتمادى، إذ انبرت لها أصوات مندّدة استشعر أصحابها خطر هذه الدعوة التقسيميّة على البلد وأهله. يومها تنادى نفر من الشباب المخلص، الغيارى على وحدة البلد وأهله، والحرصاء على العيش الواحد فيه -وهو فيه تاريخ وإرث ورسالة إنسانيّة للشرق والغرب معًا- ودعوا إلى تشكيل تجمّع في منطقة الشمال، أهليّ، مدنيّ، لا سياسيّ، يضمّ فاعليّات المنطقة بكلّ أطرافها وطوائفها، أفرادًا وجماعات وجمعيّات، وهيئات ورابطات وحركات، وأندية ونقابات... ويكون الردّ الوحدويّ والوطنيّ البليغ على دعوات التقسيم الهجينة والمستهجنة، فكان «التجمّع الوطنيّ للعمل الاجتماعيّ في طرابلس والشمال»، وكانت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في المنطقة، عبر نديم حيدر ونفر من أقرانه، عضوًا مؤسّسًا فيه. ويشهد الذين تسنّى لهم، في تلك المرحلة الدقيقة والعصيبة والمصيريّة من تاريخ البلد، أن يتابعوا عمل هذا التجمّع، يشهدون للدور الطليعيّ الذي اضطلعت به الحركة فيه، وللشهادة المسيحيّة الناصعة التي قدّمتها، عبره، سلامًا ووئامًا ومحبّة، إذ كانت العروة الوثقى بين مكوّنات المجتمع الأهليّ في المنطقة، وجامعة المتفرّقات فيه إلى اتّحاد واحد.
هذا بعض ممّا ينبغي لي قوله في أخينا المنتقل عنّا نديم حيدر، وقد دوّنته في سطور غير مكتملة. هو، الآن، مقيم في ذمّة اللَّه ويرقد في سلامه، وربّنا الديّان العادل يسوع المسيح، الذي «كما يسمع يحكم وحكمه عادل»، يحكم في مسيرته. أمّا نحن، الأحياء الباقين من بعده، فلنا أن نصلّي له، لراحة نفسه، وبالحرارة التي كثيرًا ما تمنّاها وألحّ في طلبها من أحبّائه وأخوته، لا سيّما في أيّامه الأخيرة. نصلّي له من أجل أن ينظر إليه ربّنا بعين الرأفة والرضا ويتغمّده برحمته الواسعة. عسانا، ونحن نصلّي لأجله، نكتسب من مسيرته ما أمكننا اكتسابه، فلا يُمحى اسمه من ذاكرتنا الحركيّة، ويبقى اسم الربّ، في الكنيسة والعالم، مباركًا وممجّدًا إلى الأبد.n