مطارح شهادة
في العمل السياسيّ
الأب ميخائيل الدبس
إن لم تكن للمسيحيّ بصمة فارقة في العمل السياسيّ فالأفضل له ألّا يتعاطاه أصلًا. لأنّ شهادته في هذا المجال ستكون شهادة زور على أنّ لا مطارح شهادةٍ له في العمل السياسيّ، وأنّ فخاخ هذا العمل ستقبض على كلّ محاولةِ حضورٍ للقيم المسيحيّة فيه. وهذا ما سيعزّز الموقف الانعزاليّ المصرّ على أنّ المسيحيّة لا تتوافق والعمل السياسيّ، وأنّ الأخير يشكّل خطرًا على الخلاص الشخصيّ لكلّ من يتجرّأ على خوض هذا القطاع الشهاديّ. بعض من علامات فارقة نطرحها، علامات لا تستنفد كلّ مطارح شهادة المسيحيّ في العمل السياسيّ، لكنّها بعض أسس ينبغي أن تُبنى عليها كلّ شهادة مسيحيّة في إطاره:
1- لن يتمكّن أيّ مسيحيّ من طبع هذه البصمة الفارقة إن لم يكن قد تعاهد مع ربّه والجماعة على ألّا يضحّي بهويّته المسيحيّة خلال تعاطيه الشأن العامّ. ترجمة هذا القول، إكليزيولوجيًّا، عدم إهمال خلاص نفسه. أن نرفض اقتصار المسيحيّة على الخلاص الشخصيّ لا يعني إهمالنا له. فللبعد الشخصيّ في المسيحيّة حيّز مهمّ في حياة كلّ إنسان في الروح القدس: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العلم كلّه وخسر نفسه؟» على كلّ متعاطٍ الشأن العامّ أن يؤكّد، مسلكيًّا، أنّ انخراطه في هذا الشأن، رغم التجارب الكبرى التي ستواجهه، لن يعيق خلاصه بل سيدعّم مسيرة خلاصه عبر جهاده المضني ضدّ تجارب هذا القطاع في الحياة الإنسانيّة والذي سيؤدّي به، ربّما، إلى شهادة الصليب. لكلّ قطاع في حياة الإنسان تجاربه ومغرياته التي تهدّد خلاصه بدءًا من الرهبنة، مرورًا بالحياة الزوجيّة وصولًا إلى المهنة وأمانتها للضمير الإنسانيّ. من يخش التجارب يبق خارج الجهاد، أي خارج الحياة في المسيح الذي وعد محبّيه بالتجارب والمشقّات وأخيرًا بالصليب. مخطئ من يعتقد أنّ تجارب العمل بالشأن العامّ أقسى من تجارب أوجه الحياة الأخرى. من اكتشفت فيه الجماعة موهبة العمل السياسيّ عليه أن يخوض غمار هذه الوظيفة المواهبيّة، وألّا يطمر وزنته تجنّبًا للمصاعب والسقطات. من يتهرّب من الصليب لن يكون له فصح.
2- «المحبّة لا تسقط أبدًا». السقوط بالمعنى السياسيّ الدنيويّ هو خسارة مقعد نيابيّ أو حقيبة وزاريّة، أو ضرب لسمعة سياسيّة تمهيدًا لإلغاء سياسيّ مستقبليّ. السقوط بالمعنى المسيحيّ هو السقوط عن المحبّة. السياسة والمحبّة؟! من يعتقد أنّ جمعهما ممكن؟ وحده السياسيّ المسيحيّ المواهبيّ لا يرى في السياسة إلّا فعل محبّة. لقد طبع في قلبه كلمات الكتاب وتحديدًا ما قاله الرسول بولس في نشيد المحبّة (1كورنثوس 13: 1- 8). «بهذا يعرفكم الناس أنّكم تلاميذي إذا أحبّ بعضكم بعضًا» (يوحنّا 13: 35). مجال المحبّة في المسيحيّة لا يقتصر على البعض الضيّق من البشر بل هو حقل عالميّ كونيّ وتحديدًا، في مجال كلامنا، هو الخصم السياسيّ. كيف لك أن تحبّ خصمك السياسيّ؟ اجتهد في أن تكون في الحقّ في ما تقوله وتفعله وتتراجع عن باطل تكشّف لك في مواقفك. الكتاب والجماعة هما عونك في ذلك. ارفض المنفعيّة ولا تطلب لذاتك شيئًا بل ليكن هدفك المنفعة التي تطال الخير العامّ. كن لخصمك نموذجًا للأصالة اللانفعيّة، كن له منارة تضيء ما أظلم من إنسانيّته وإنسانيّتك. لا تجعل من خصمك وسيلة نفع، أيقظ فيه أصالته الإنسانيّة التي ربّما كان يتجاهلها قصدًا أو جهلًا أو غفلة. دعه يكتشف أصالته عبر تمسّكك بأصالتك في التعامل معه. سرّ سيرة حسنة ولو قوبلت بالافتراء والكذب والأذى، «فخير لكم أن تتألّموا وأنتم تفعلون الخير... من أن تتألّموا وأنتم تفعلون الشرّ» (1 بطرس 3: 17). كن فقيرًا ولا تفقر أحدًا. تنازل عن كرامة لك ولا تصمت أمام دوس كرامة الآخرين، فإنّ كرامتك لن يطالها بشر طالما أنت في الحقّ. كن مصلوبًا ولا تصلب أحدًا. لا تسأل عن ثمار موقفك المحبّ بل اسأل فقط عن صوابيّته فالثمر ينمّيه الربّ طالما أنّ بذورك صالحة.
3- يتساءل دوستويفسكي بحدّة: «أيمكن لأحدهم أن يبدع عالـمًا سعيدًا سعادة فردوسيّة قائمًا على دموع طفل واحد بريء معرّض للقتل؟». يعلّق بردياييف على هذا التساؤل:«من دون شكّ ما كان الأبرياء قلّة بين ملايين البشر الذين يُقتلون كلّ يوم ضمن أطر هدفٍ لتحقيق سعادة مستقبليّة».
«الغاية تبرّر الوسيلة» هذه أمّ الآفات في العمل السياسيّ لأنّها تشكّل القناع الذي يتخفّى وراءه كلّ هوى للتسلّط والانتفاع. مبدأ رائج في عالم السياسة والاقتصاد والمال وفي كلّ مفاصل حياة الإنسان اليوميّة. وأبشع ما فيه أنّه ارتبط بحوادث دينيّة الطابع. فمع ظهور الحركة الاحتجاجيّة في الغرب طبّقت الطغمة اليسوعيّة هذا المبدأ وأحرقت، في ما سُمّيت محاكم التفتيش، كلّ هرطوقيّ حيًّا بالنار، كما نُفّذت مجزرة القدّيس برثلماوس في عشيّة عيده في 24 آب 1572 على عهد الملك شارل التاسع في فرنسا حيث قُتل خلالها آلاف البروتستانت.
يضع هذا المبدأ هدفًا ساميًا ويستخدم لبلوغه وسائل قبيحة لاإنسانيّة. الأهداف دائمًا سامية. لا يجرؤ إنسان على وضع هدف إن لم يزيّنه بالجمال والفضيلة. لكنّ الوسائل تأتي معارضة للأهداف فتكشف الشرور والقباحات وتبرّرها بالهدف المنشود الذي غالبًا لا يُبلغ إليه ويبقى يرنّ كالصنج الفارغ. الهدف مرميّ إلى مستقبل غير واضح وغير محدّد وتبقى الوسائل القبيحة حاضرة. إنّه المبدأ الأكثر سيادة في عالم الماضي والحاضر، وقد سُحقت لأجله كرامات بشريّة وبقي الهدف من دون تحقيق. إنّ أخطر ما في هذا المبدأ، على الصعيد الدينيّ، أنّه يبرَّر عبر صور إلهيّة يسقطها أصحاب هذا المبدأ على إله هو أبعد ما يكون عن الإله الذي كشفه لنا يسوع المسيح. منذ القدم يُنسب الموت والمرض والألم إلى اللَّه، وتُردّ الشرور والكوارث إليه وتوضع هذه كلّها كأدوات بيد اللَّه يؤدّب بها الإنسان العاصي ليعيده إليه أو ليميته والإنسان الفاضل ليمتحن به إيمانه أو حتّى ليميته، تحت مقولة أنّنا لا ندرك نحن البشر المحدودين حكمة اللَّه وتدبيره من وراء فعله هذا. هذا حقّ يُراد منه باطل. ألصق الإنسان هذا المبدأ باللَّه ليبرّر استخدامه ويستر قباحته ببرقع إلهيّ، واللَّه غريب عن كلّ هذه الأصنام. لا نزال، حتّى يومنا، نسمع الكثير من هذه الإسقاطات في الخطاب الكنسيّ. حتّى إنّ الشيطان عند بعضهم هو أداة بيد اللَّه يستخدمها ضدّ الإنسان، بحجّة أنّ ما ينتج من هذا الاستخدام من شرور هو لصالح الإنسان. لماذا نستغرب استخدام الإنسان مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة» في حين أنّه أِلصق بإلهه؟ اللَّه الكلّيّ القدرة والمحبّ لا يحتاج إلى أدوات الشرّ ليبلغ مراده. ضعفات البشر وقباحاتهم هي التي تلجأ إلى هذا المبدأ لتستر شرور باطنها بأهداف غير محقّقة وبغطاء إلهيّ.
المطلوب من السياسيّ المواهبيّ المسيحيّ ألّا يمارس هذا القبح. الشرّ لا ينتج خيرًا والخير لا يصدر منه شرّ. كرامة إنسان واحد تساوي ملايين الأهداف «السامية». إذا اضطررنا إلى الحرب والقتل، ونحن في السقطات، فلا نقدّسهما ولنعترف بأنّنا في الخطيئة والدم الذي يسفك سنحاسَب عليه، ولا خلاص لنا إلّا في التوبة. إذا راجعنا تاريخ الحروب نرى بوضوح كذب ادعاءاتها: هل أنهت الحربان العالميّتان أطماع الدول بعضها لبعض، هل اختفت الأنظمة الديكتاتوريّة من العالم؟ هل أنهت الحرب اللبنانيّة النظام الطائفيّ والفساد أم رسّختهما في بلدنا؟ قليلة هي الحركات الثوريّة العنفيّة التي أصلحت أكثر ممّا أفسدت. ومضات من العلامات الفارقة لا تستنفد كلّ مطارح شهادة المسيحيّ في العمل السياسيّ، لكن ينبغي أن يُبنى عليها كأسس لأيّ شهادة مسيحيّة. ويبقى السؤال المقلق: أين هو هذا السياسيّ المسيحيّ؟ وإن وُجد فإلى أين مآله؟ ربّما الشهادة، ربّما سيفتتح أحدهم طغمة جديدة من القدّيسين في الكنيسة، «القدّيسون السياسيّون». أهذا حلم وأوتوبيا؟ غاندي ومانديلا ما كانا حلمًا بل واقعًا محفورًا في تاريخ البشريّة لن يمحوه مرور الزمن.n