2018

2. خاطرة: جرأة الدقّة - الأب إيليّا (متري) – العدد السابع سنة 2018

 

جرأة الدقّة

الأب إيليّا متري

 

 

أخ له براعته في نقل إيماننا إلى سامعيه، أردته أن يكلّمني على سرِّ ميّزةٍ تكرَّمَ اللَّهُ عليه بها. فصغت إرادتي بسؤالي إيّاه: «كيف يمكن واعظًا أن يجمع، في خطابه إلى رعيّته، بين الدقّة والجرأة؟».

سأذكر ما أجابني. ولكنّني أودّ، قَبْلاً، أن أحيّي براعة «الجماعة النهضويّة» (أي الإخوة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة) في دفعها أعضاءَها إلى أن يتقنوا نقل معاني الكلمة إلى أشخاص حاضرين. أليس شأن الكلمة الإلهيّة، فيما توزَّع، أن تخاطِب (لا أقول أن تأتي بالناس إلى طاعة حقّها رغمًا من إرادتهم، بل أن يشعروا بها، ليقرّروا من ثمّ ما يريدون في أمرها)؟ كيف يؤتى هذا الإتقان؟ إنّه نعمة دائمًا. لكنّ النعمة، التي يسكبها اللَّه على الناس مجّانًا، تثمَّر بمحبّة المعرفة ورفقة الإخوة والخدمة. وهذه، التي تجتمع في التزام حياة الشركة الكنسيّة، تؤصّلها في رفقة الأعضاء خبرة المخاطبة وجهًا إلى وجه.

أمّا جوابه، فمختصره: «إنّ قراءة إرث وعّاظ كبار أراها تُسهم في اقتناء الدقّة التي هي حدود الجرأة. هذا يخصّ الكهنة جميعًا، ولا يستثنى الذين تخرّجوا في معاهد اللاهوت. طبعًا، المتخرّج مؤهّل لأن يكون، عمومًا، أكثر دقّةً من سواه. لكنّنا لا نكون موضوعيّين إن لم نطلب منه، أو نساعده على أن يطلب من نفسه، أن يركن إلى مَن هم أقدر منّا، إن من الذين سبقونا أو نعايشهم، ليزداد دقّة». ظننت أنّه اكتفى بما قاله. ولكنّه، بعد أن صمت قليلاً، أردف: «إن كان الشخص المرادُ أكثرَ دقّةً معروفًا أنّه وديع، ادعُهْ إلى أن يقصد أخًا ثقة، ويسمعه عظةً له أو عظتين. الدقّة في المخاطبة الكنسيّة لا تأتي الناس بالمصادفة، بل يحوزها الإخوة المثقّفون الذين يعنيهم النصح الأخويّ المختبِر والمختبَر».

لا أخفي عنكم: انتظرت أن أسمع الشقّ الأوّل من هذا الجواب. لكنّني لم أنتظر ما سمعته في الشقّ الثاني. هل قصد مكلّمي أنّ الدقّة، أي الدقّة في المخاطبة، تفترض حيازتها، إلى محبّة العلم، جرأةً في محبّة الفضيلة، ولا سيّما منها التواضع؟ أعتقد أنّ هذا، عينًا، ما قصده. هذا يجعل إضافتي الأولى، أي الدعوة إلى الانخراط في فرق التيّار النهضويّ، إضافةً في موقعها. فاللقاءات الحركيّة براعتها أنّها تربّي على إتقان نقل الكلمة إلى إخوة حاضرين. حلم «النهضة» الأعلى أن يتعلّم المؤمنون، كبارًا وصغارًا، أن يمدّوا كلمة اللَّه إلى الناس الآخرين، أيًّا كانوا. أمّا دقّة هذا النقل الممدود، فيصنعها أنّ الجماعة الحركيّة لا تجتمع من دون مرشد خبير. ويصنعها، تاليًا، النقاش المفتوح على تعاليم الكنيسة في أمدائها كافّة. هذان، أي الخبرة والنقاش، كفيلان بأن يزوّدا الإخوة ثقافةً مسؤولةً لا يُخدَم نقلُ الكلمة، كما يجب، من دونها.

أشعر بأنّ كلماتي تبديني كما لو أنّني أفضّل الدقّة على الجرأة. وهذا غير صحيح. لو أردت أن أفاضل فعلاً، لكنت، لغير سبب يقنعني، فضّلت الجرأة على كلّ ما عداها. هل أذكر سببًا واحدًا؟ لكوني أمقت اللغة الباردة، اللغة المتحفيّة، التي لا تعرف أن تعدو كالأيائل، بل تحبو كالرضّع! وإذًا، لا أفاضل.

لا أفاضل، إذًا. لكنّني أدعو نفسي وكلّ مَن تهمّه استقامة حياة الجماعة الكنسيّة، كبيرًا كان أو يبتغي أن يكون حقًّا، إلى أن نزداد اجتهادًا في معرفة إيماننا. «وما أطلبه في الصلاة هو أن تزداد محبّتكم معرفةً (أي علمًا كنسيًّا) وكلّ بصيرة زيادةً مضاعفة» (فيلبّي 1: 9). هذا لا أعني به أنّنا، إن تجاوزنا الدقّة قليلاً من دون قصد مثلاً، نخطأ مثلنا مثل الذين يتجاوزونها عن قصد (أو عن عداء). ذكرت، في أكثر من سياق، أنّني تعلّمت، في مطلع التزامي، ما تعلّمت أن أتراجع عنه في ما بعد. هذا لا أنتقد به أحدًا دفعني في فتوّتي إلى أن أحبّ الالتزام. وهذا لا أفصله عن افتخاري بالتزامي. فالذين علّمونا أن نلتزم لم يقصدوا، بما بدا على أفواههم يفتقد بعض دقّة حينئذٍ، أن يتجاوزوا. لا، لا! تمّ الأمر من دون قصد. ولكنّ إصلاحه أتى عن قصد. اكتشفنا أنّ الاستقامة في الفكر غير ممكنة من دون أن نعرف إرثنا ونتوافق على التعبير عنه. وهذا التوافق، هدفًا كبيرًا، لا يثبت بسوى أن نحيا معًا واعين أنّ اللَّه في وسطنا دائمًا.

يبدو لي كلامي على خيار الدقّة كلامًا يتعلّق بمحبّة المعرفة، أو بدوام محبّتها. أعتقد أنّني، بهذا الخيار، أدخل في عمق الإجابة التي طلبتها. قلت، أعلاه، الدقّة لا تأتي بالمصادفة. ولا أزيد شيئًا بل أوضح إن ذكرت: والدقّة الكلّيّة لا يحصر جنيها في سني الدراسة الجامعيّة، أيًّا كانت الشهادة التي حزناها. أساسًا، اللاهوت ليس علمًا (أي ليس علمًا مجرَّدًا). بلى، إنّه يعلَّم في المعاهد. لكنّه شأن الحياة، أي الحياة كلّها. شأن كلّ يوم. شأن محبّة العلم الكنسيّ. شأن مطالعة الكتب المقدّسة. شأن الثقافة عمومًا. شأن الصلاة (ألم يذكر تراثنا أنّ اللاهوتيّ هو مَن يصلّي؟). شأن الصوم (أو النسك). شأن الحياة، الحياة الأخويّة، حياة الفضيلة، شأن تفاصيل الحياة، الحياة كلّها. شأن أن نشهد للَّه في الأرض. لا أحد يعتقد أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة، عندما أنشأت معاهد اللاهوت في هذه البطريركيّة أو تلك، كانت تريد حصر التعلّم في بناء جامعيّ أو في سنوات دراسة. أساسًا، أيّ اختصاص جامعيّ، إن لم تتابعه فردًا على نفسك وضمن الجماعة التي تنتمي إليها (أو المهنة التي تزاولها)، السنوات كفيلة بأن تريك أنّك تتراجع فيه.

الدقّة، في آخر معانيها، أن تكون، أنت ناقل الكلمة الإلهيّة إلى أناس تعرفهم أو لا تعرفهم، صورةً طبق الأصل عن تعليم كنيستك المقدّسة. وهذه، أيضًا، من مقتضيات الجرأة في آخر معانيها! n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search