2018

1. الافتتاحيّة: قليلاً من الشفافيّة! - أسعد إلياس قطّان – العدد السابع سنة 2018

قليلاً من الشفافيّة‫!

أسعد إلياس قطّان

 

 

إنّ المرائي يكون هادئًا، طالما يحسب نفسه محتجبًا، ساعيًا إلى المجد الذي ينشأ من برّه الظاهر. ولكن حين يفتضح أمره، يبرّر ذاته بكلمات قاتلة ظانًّا أنّه يستر عاره عبر سبّ الآخرين. هذا في خداعه تشبّهه الكلمة بابن أفعى، وتأمره بصنع ثمار تليق بالتوبة، أي بتحويل ميل القلب الخفيّ إلى سلوك ظاهر».

كاتب هذه الكلمات معلّم من كنيستنا يُعرف بالقدّيس مكسيموس المعترف. إنّ من يغرق في الخطابيّة التي يمكنها أن تصاحب هذا اللقب، يفوته ما يحتجب وراءه من مأساويّة. فهذا الرجل قضى السنين العشر الأخيرة من حياته مسوقًا من منفى إلى آخر بين القسطنطينيّة والشاطئ الشرقيّ للبحر الأسود، أي على تخوم جورجيا الحاليّة. والأغلب أنّ شراسة القيصر البيزنطيّ كونستانس الثاني أفضت إلى قطع لسانه ويده اليمنى.

هو لم يسمِّ نفسه يومًا معترفًا. هذا لقب أسبغته عليه الكنيسة في ما بعد. لقبه المفضّل كان «الراهب». بهذه التسمية، أي «مكسيموس الراهب»، وقّع مقرّرات مجمع اللاتران، العام 649، التي كانت له اليد الطولى في صوغها وحمل البابا العظيم مارتينوس على وضع دمغته عليها، مفتتحًا من الغرب، ومن روما تحديدًا، حربًا شعواء ضدّ سادة البوسفور، القائلين بالطبيعة الواحدة في المسيح. بعض كتبة التراث هالـهم ألاّ يكون مكسيموس أكثر من مجرّد راهب عاديّ. فاخترعوا فكرة أنّه كان رئيس دير. لم يفهموا أنّ نِعـم اللَّه لا تـرتـبـط بالــمـراكـز في الكنيسة، وأنّها لا تعبّر بالضرورة عن ذاتها عبر الحصول على مثل هذه المراكز. ولكنّ مكسيموس ظلّ مجرّد راهب، حتّى إنّه لم ينل درجة الشموسيّة أو الكهنوت. العام 649، وقّع في روما وثائق المجمع الذي «طبخه» بنفسه، كما كان يحلو للشمّاس إسبيرو جبّور، رحمه اللَّه، أن يقول، بلقبه المتواضع: «الراهب». لم يسكت القيصر. شرّد البابا مارتينوس فمات هذا في النفي. ولاحق الراهب الشيخ، فابتدأت رحلته مع المحاكمة والنفي هو الآخر. ومَن يكون منفيًّا ومحكومًا عليه لا يصبح رئيس دير.

الكلام الذي أوردناه أعلاه، ومصدره ما يُعرف بين كتابات الراهب المعترف بـِ«المئويّتين في اللاهوت والتدبير» خطّه مكسيموس متوجّهًا إلى إخوته الرهبان. هذا لا شـكّ فيه. ولـكنّ هذه الحقيقة بالذات هي ما تجعل هذا الكلام شديد الخطورة في مدلوله حتّى اليوم، أي بعد انقضاء قرون طويلة على كتابته. مكسيموس يطالب الرهبان بالابتعاد عن المراءاة وبتحويل «ميل القلب الخفيّ إلى سلوك ظاهر». قد يقول قائل إنّ التراث المترامي الذي دُوّن في الأوساط الرهبنيّة ليس كلّه ينطبق على عصرنا اليوم. وهذا صحيح. يضاف إلى ذلك أنّ هذا التراث تسرّب إليه كلام فيه مبالغات وخوارق لا يسعنا قبولها اليوم بلا تدقيق وتمحيص ونقد. ولكنّ مَن يستغرق في التوقّف عند هذه الأمـور، يفوتـه الأهمّ: التراث الناشئ في أوساط الرهبان والنسّاك والمتصوّفة تراث غاية في الواقعيّة. هو يعرف انحرافات القلب البشريّ، ولا يألو جهدًا في تحليل معارجها وفضحها ومحاولة إيجاد سبل شفائها. عظمة هذا التراث لا تكمن في إطلاقه صفة الإطلاق على الحياة الرهبنيّة، كما يفعل بعضهم اليوم، ولا فـي ما نجده فيه أحيانًا من مغالاة، بل في واقعيّته، أي في أنّه يعرف الإنسان كما هو ويجدّ في تشخيص أمراضه النفسيّة ومعالجتها لا عبر نكرانها، بل عبر الاعتراف بها.

أليس غريبًا أن يدعو مكسيموس الراهب رفقاءه في الشركة الرهبنيّة إلى أن يحوّلوا ميل قلبهم الخفيّ إلى سلوك ظاهر؟ طبعًا غريب. فالرهبان معروف عنهم أنّهم يؤثرون الصمت. ومعروف عن كثر منهم أنّهم يجنحون إلى إحاطة حياتهم الداخليّة بحُجُب، ليس بالضرورة لأنّهم فُطروا على ذلك، بل لأنّهم يتفادون أن تصبح أمورهم الشخصيّة مركز الكون. ولكنّ القدّيس المعترف يرصد أيضًا خطورةً في مثل هذا السلوك، إذ بينه وبين المراءاة شعرة. ولذا، هو يدعو قرّاءه إلى أن يكونوا أكثر انفتاحًا، أكثر قدرةً على تحويل ميولهم الداخليّة إلى سلوك منظور، بكلمات أخرى أن يصبحوا أكثر شفافيّة.

درس الشفافيّة هذا ليس من الماضي، ولا هو للرهبان دون سواهم. فنحن اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، كنيسة تنقصها الشفافيّة وبشر يفتقرون إلى الشفافيّة. في التعامل اليوميّ، غالبًا ما نرى الإخوة غير قادرين على مكاشفة إخوتهم بما يعتمل في ذواتهم من انقباض وتوتّر. وفي إدارة الكنيسة، كثيرًا ما نجد القادة عازفين عن عمليّة التصارح الأخويّ مع مَن يحيط بهم من عاملين في الشأن الكنسيّ، وربّما يتولّد لديك الانطباع أحيانًا أنّ هناك لدى بعضهم ازدواجيّة في المشاريع: مشروع للاستهلاك في الخطاب العلنيّ قوامه قيم الإنجيل وما يتفرّع منها، ومشروع باطنيّ يتمحور حول التفرّد والإفراط في السلطة. أمّا في المؤسّسات الكنسيّة، فتعوزنا شفافيّة التعامل مع المال، الذي وحده قادر على منافسة اللَّه بحسب الإنجيل، وتنقصنا قيم المراجعة والمساءلة والإيمان بالعقل في سبيل ترشيد عمل هذه المؤسّسات وجعلها أداةً في خدمة الفقير، لا مكانًا للضغط عليه وتهميشه.

إنّ القدّيس مكسيموس الراهب، الذي هتف أمام قضاته في القسطنطينيّة أنّه يؤثر الموت على أن يثقل على ضميره بما لا يستطيع تحمّله، هو في سيرته مثال يحتذى في الشفافيّة، هذه الشفافيّة التي أوصلته إلى تجرّع كأس التعذيب في زنزانة منسيّة حتّى الرمق الأخير. وهو في كلماته يدعونا اليوم إلى توبة من نوع آخر، توبة إلى الانفتاح والحوار والصراحة والمكاشفة لئلاّ يبقى ميل القلب طيّ الكتمان فيغوينا الشرّير بخطيئة المراءاة ونصبح «قبورًا مكلّسة» جميلة الظاهر، ولكنّ داخلها ممتلئ «من عظام الموتى وكلّ نجاسة» (متّى 24/27).n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search