كبارنا أمانة في أعنقانا
كأس ماء بارد
إعداد لولو صيبعة
كبارنا، سريان، مسلمون، لبنانيّون، سوريّون، عراقيّون، لا فرق، مهما تنوّع انتماؤهم فإنّهم يستظلّون فيء برنامج كبارنا، الذي تنظّمه لجنة العمل الاجتماعيّ في مركز جبل لبنان في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. أما قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية «فليس هناك يهوديّ ولا يونانيّ، وليس هناك عبد ولا حرّ، وليس هناك ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح».
طُلب منّي أن أنقل صورة عن هذا النشاط السنويّ إلى كلّ من يقرأ مجلّة النور. وكانت الانطلاقة من كنيسة الصليب المقدّس في النبعة. منذ الصباح الباكر عجقة ورجال ونساء يدخلون ويخرجون إلى الغرفة الملاصقة للكنيسة يسألون عن موعد وصول الحافلة وكلّهم شوق إلى بدء الرحلة. كلّ واحد منهم يحمل اسمه ويتّجه إلى الحافلة التي اقتربت ومعها بانت البسمة على كلّ الوجوه ورفّت القلوب مترقّبة نهارًا ممتعًا برفقة الأحبّة. حينها تذكّرت ما قاله الربّ: «من قبلكم قبلني أنا... ومن سقى أحد هؤلاء الصغار ولو كأس ماء بارد لأنّه تلميذ، فالحقّ أقول لكم إنّ أجره لن يضيع» (متّى10: 40- 42). نعم، قَبِل برنامج كبارنا هؤلاء الناس المهمّشين الذين يقبعون في منازلهم منتظرين دنو الأجل، غارقين في هموم وأوجاع لا يعرفها سواهم ولا يشعر بها إلاّ من كان لصيقًا بهم.
أردت أن أكون معهم على طول الطريق لأتحسّس معاناتهم وأتعرّف إلى وجوههم. وإذا بهم يدلون بدلوهم وكأنّهم ينتظرون من يخبرونه عن شدّتهم وضيقهم. لكلّ واحد وواحدة منهم قصّة، فهناك الهاربة من معارك العراق، وهذا مريض لا يملك ثمن دوائه، وهناك الأرملة التي تعيش على فتات الموائد، وهذا شيخ وحيد يبحث عن سلوى له مع أترابه، وهناك المشرّد الذي لا مأوى له، وهناك ربّة المنزل التي تبحث عن معيل لعائلتها بعد أن أقعد المرض زوجها، وهناك الشمّاس السريانيّ الذي يقرأ الكتاب المقدّس ويحاور جاره في أمور الدين، وهناك الذي يساعد من هو أكبر منه سنًّا. وتسألهم لماذا تشاركون في هذه الرحلة، فيتسابقون إلى القول إنّ السبب هو المعاملة الطيّبة والراقية والمحبّة وعدم التمييز بين شخص وآخر، أو بين معتقد وآخر. ويجيبك ملحم بركيل من برج حمّود بأنّه يحبّ أن يسمع كلمة اللَّه وأن يصلّي لذلك هو يواظب على الاجتماع، ويحبّ أيضًا أن يرى أصدقاءه ويتبادل الأحاديث معهم.
أمّا اعتدال عطّار، وهي أيضًا من كنيسة سيّدة البشارة في برج حمّود، فقالت إنّها تقدّمت في السنّ وهناك من يهتمّ بها ويرعاها، وهي أيضًا تستطيع أن تقدّم المساعدة للآخرين، ويوم الأربعاء مميّز جدًّا بالنسبة إليها لكونها تخرج من شرنقتها وتلتقي صديقاتها، وهي دومًا تتشوّق إلى الاستماع إلى الموضوع الكنسيّ الذي يُطرح وتعتبر أنّها تغتذي روحيًّا.
أتوا من كلّ المناطق، من النبعة وبرج حمّود وسن الفيل والأشرفيّة، من عاليه وقرى الجبل ووادي شحرور والمنصوريّة، يجمعهم الشوق إلى نهار يلتقون فيه أحبّتهم من قرى وبلدات أخرى. ها هم ينتظرون الحافلة يغمرهم فرح الطفولة، وتخالهم يتخلّون عن هموم المرض والفقر، وكأنّهم يهربون من حزام البؤس الذي يربض حول بيروت، ليتنفّسوا الصعداء في بلد تخلّى عنهم وتعامى عن مصائرهم.
رجال ونساء التقوا وأمضوا يومًا مع بعضهم البعض، رقصوا، غنّوا، وتقاسموا الطعام، واحتفلوا بأعياد الذين ولدوا في الربيع والصيف، فرحوا وعادوا أدراجهم متطلّعين إلى يوم آخر.
التقينا جميلة سركيس إحدى الناشطات في برنامج كبارنا وهي المسؤولة عن الإرشاد الروحيّ، فماذا أخبرتنا عن عملها مع المسنّين؟: «منذ خمس سنوات ألتقي المسنّين في برج حمّود، كلّ يوم أربعاء، حول موضوع دينيّ، يتضمّن أحيانًا سيرة قدّيس وقراءة مزامير وحديثًا روحيًّا، وطبعًا إنجيل اليوم والرسالة. الروح القدس هو الذي يجمعنا ويصل عددنا إلى خمسين شخصًا، كلّهم يتحرّقون إلى سماع كلمة اللَّه، وأنا أتوق إلى نقل خبرتي ومعلوماتي إليهم، هؤلاء هم أهلنا». شعار جميلة أخذته من الكتاب المقدّس الذي تقرأه كلّ يوم: «الذي يتّقي الربّ يكرم أبويه ويخدم والديه بمنزلة سيّدين له».
وعن العمل في النبعة قالت جميلة إنّ العدد يصل في بعض أيّام الخميس إلى ستّين شخصًا، والبرنامج هو ذاته.
إلى متى سيبقى هناك فقراء ومعوزون ومسنّون في بلاد الحرف لا يجدون من يعيلهم، وينتظرون بفارغ الصبر تطبيق قانون ضمان الشيخوخة. كيف لا نعنى بكبارنا ونحن نقرأ ما قاله بولس الرسول: «وإذا كان أحد لا يُعنى بذويه فقد جحد الإيمان وهو شرّ من غير المؤمن» (1 تيموثاوس 8:5)؟ أليست هذه دينونة لنا؟ علينا ألاّ ننسى أنّ الضيافة جعلت بعضهم يضيفون الملائكة وهم لا يدرون، فربما يسوع كان بين هؤلاء الصغار.
وكان لا بدّ لنا من مقابلة المسؤولة عن برنامج كبارنا السيّدة أمل نصر، ومشينا معها منذ لحظة تأسيس هذا العمل الإنسانيّ. فهي في البدء كانت تعدّ الطعام في بيتها وتأخذه إلى برج حمّود. كان هذا في العام 2012، ثمّ في العام 2015 امتدّ إلى النبعة واستمرّ خفيفًا حتّى تشرين الثاني 2017 عندما بدأ العمل جدّيًّا في هذه الرعيّة، وعندنا اليوم نحو ستّين شخصًا ملتزمين، طبعًا إلاّ في الحالات القصوى كالمرض مثلاً. وفي المنطقتين الناس متعطّشون إلى هذا اللقاء الأسبوعيّ.
كيف تبلورت الفكرة؟
نحن نؤمن بأنّ الكنيسة ليست ليوم الأحد فقط، ونؤمن أيضًا بالمذبح الآخر الذي يلي يوم الأحد. والكنيسة ليست للشباب فقط هي للجميع وبخاصّة للصغار الذين وحّد يسوع نفسه معهم. وللمسنّين حصّة كبيرة في الكنيسة، فهولاء منسيّون في بيوتهم ومهمّشون في المجتمع، لا أحد يهتمّ لأمرهم، حتّى أولادهم أهملوهم، وهم بيننا يجدون واحة فرح وتعزية، يتشاركون مع زملائهم الأفراح والأتراح والمناسبات، هم بكلمة موجزة يعودون إلى الحياة، إلى المجتمع.
هل لقيتم مساعدة من الكهنة والرعايا؟
طرقنا أبواب الكهنة فقبلوا بكلّ طيبة خاطر هذا المشروع، وكثيرون منهم يدعموننا مادّيًّا ومعنويًّا. مثلاً في رعيّة بلّونة أنشئ مطبخ للفقراء وهم يدعوننا ويدفعون لنا أجرة الحافلة. كما أنّ جمعيّة الحياة الخيريّة التابعة لمستشفى الحياة تدعو جماعة برج حمّود للمشاركة في نشاطاتها.
قرى الجبل مع كهنتها والخوريّة ماغي وهبه تأهّبت للمشاركة، وبخاصّة في عاليه وعين الجديدة وبخشتيه وبحمدون الضيعة، والمسؤولة هي السيّدة ماري صليبي ومعها سيّدات من القرى المذكورة.
الرعايا تتعاضد معنا ومنها الحازمية والمطيلب وبرمّانا وبلّونة والحدث..... ومنهم من يقدّم المساعدات العينيّة والمادّيّة، ونحن طبعًا نشكرهم ونتضرّع إلى اللَّه كي يحفظهم سالمين.
وفي لقاء سيّدات الجبل نقدّم تقريرًا مفصّلاً عن العمل، وهذه السنة أيضًا سنلتقيهنّ قريبًا ونشرح لهنّ عن نشاطنا. خلقنا شبكة تواصل مع سيّدات الجبل في الرعايا المختلفة وهنّ يساعدننا. كما نشأت علاقة تعاطف مع الجمعيّات والرعايا والمراكز، وبدأت الفكرة تنتقل من مركز إلى آخر، ففي الشمال ستفتتح مطاعم محبّة تستقبل الفقراء من كلّ الطوائف خمسة أيّام في الأسبوع.
هل طرقتم أبواب المؤسّسات المانحة، أو وزارة الشؤون الاجتماعيّة؟
لا لم نفعل ذلك وربّما من الضروريّ أن نلجأ إلى هذه المنظّمات، وهذا يتطلّّب وجود متطوّعين يساعدوننا في هذا المجال. فالطاقم الذي يعمل معنا لا خبرة له.
هل هناك تصوّر لأن يكون هذا النشاط يوميًّا؟
هذا مستحيل بسبب عدم تفرّغ الأشخاص الذي يشاركون في التحضير، ويتطلّب تمويلاً ضخمًا ومتابعة حثيثة ومكانًا ملائمًا يتّسع لمزيد من المسنّين.
هل لك من كلمة أخيرة أو تودّين أن تطلقي نداء إلى كلّ من يهمّه الأمر؟
نعم أودّ أوّلاً أن أشكر كلّ من يسهم معنا في رسم بسمة على وجه فقير ويدخل البهجة إلى قلبه. ونحن لم يقتصر عملنا على هذا النشاط، فقد سعينا إلى فرش خمسة بيوت بالمستلزمات الضروريّة للعيش الكريم. وأذكّر أنّ هناك رعايا تقدّم الرعاية بشكل أسبوعيّ كما في القصيبة والمنصوريّة، أمّا في رعيّة الدكوانة فالعمل مع المسنّين غير دوريّ. وفي سنّ الفيل تتعاون الكنيسة مع البلديّة للعناية بالفقراء. هذا كلّه بتوجيه من مركز جبل لبنان وطبعًا حسب وضع كلّ رعيّة.
أطلق نداء إلى كلّ من يودّ مساعدتنا وأقول له إنّنا نمدّ يدنا إلى الجميع لما فيه سعادة هؤلاء وبهجتهم في أواخر حياتهم.
ونحن مع السيّدة أمل نصر نختم ونقول: «وبالوالدين إحسانًا إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا». n