2018

11. لاهوت: جدليّة العلاقة بين اللاهوت والعلم في الإطار الأرثوذكسيّ المعاصر! - بيرج طرابلسي – العدد السادس سنة 2018

 

جدليّة العلاقة بين اللاهوت والعلم

في الإطار الأرثوذكسيّ المعاصر!

بيرج طرابلسي

 

 

إن كان من علاقة بين اللاهوت (والإيمان) والعِلم (أو العلوم)، فما هو نوعها: تجاهليّة أو تصادميّة، تجاوريّة وتكامليّة، تحاوريّة وتشاركيّة؟». سؤال يختصر الديناميّة الفكريّة المحدودة الانتشار في أوساط كنسيّة وأكاديميّة واجتماعيّة أرثوذكسيّة عدّة حول العالم. كما تُلحظ الجدليّة المتعلّقة بتعريف «اللاهوت» وطبيعتيه العلميّة والروحيّة. فعند تفحّص ما نُشر حول علاقة اللاهوت (والإيمان) والعلم، يستخلص المتابع أنّ العديد من تلك المقاربات تقوم على أفكار آبائيّة نشأت وازدهرت في عصور غابرة باتت تُعرف بأزمنة ما قبل العِلم الحديث، وهي حتما لا تخضع لأيّة معايير يمكن اعتبارها «علميّة» بالمفهوم المعاصر للكلمة. صيغت تلك الأفكار بشكل رئيس خلال الفترة البيزنطيّة الطويلة بلغة فلسفيّة لتواجه تحدّيات فلسفيّة معاصرة، تجلّت تباعًا أثناء حقب مفصليّة رئيسة أهمّها «حرب الأيقونات» وإحياء التربية العلمانيّة (القرن 8)، والصراع حول الروحانيّة الرهبانيّة الهدوئيّة، وتراجع التربية العلمانيّة (القرن 14). من المفيد التأكيد أنّ لنزوح العلماء البيزنطيّين إلى الغرب، بعد سقوط القسطنطينيّة في العام 1453، دورًا رئيسًا أسهم في الكثير من النهضات الفكريّة والاجتماعيّة في أوروبّا. لاحقًا، أثّرت عوامل عدّة مهمّة في بعض المواقف الأرثوذكسيّة غير الرسميّة تجاه العلم، سلبًا أو إيجابًا، خلال الحقبتين العثمانيّة والسوفياتيّة، إلّا أنّ تأثير هذه المواقف في العلوم الحديثة طوال القرنين الماضيين كان معدومًا.

قد يكون من الصعب شرح مسائل لاهوتيّة وإيمانيّة والتعبير عنها بلغة علميّة واثباتها عبر تحاليل مخبريّة، كعمل اللَّه في الخليقة والظهورات والعجائب وذخائر القدّيسين، والصلاة والشفاعة وحلول الروح القدس على القرابين وتقديس المياه على سبيل المثال لا الحصر. إلّا أنّ تجاهل نظريّات واكتشافات عدّة تتعلّق بوجود الكون وتطوّره، والتقدّم الطبيّ، والجينات والحمض النوويّ، والذكاء الحيوانيّ، والذكاء الاصطناعيّ، إلى ما هنالك، ما عاد مقبولاً، إن كان من ضرورة حقًّا لكي يكون للكنيسة رأي فيها، في سعي كلّ من اللاهوت والعِلم إلى «الحقيقة». فكيف بإمكان «الأرثوذكسيّة» أن تشرح مثلاً الخلق والمخلوقات من دون أيّة إشارة إلى النقد الكتابيّ، والفلسفة الحديثة، وعلم النفس، وعلم الآثار وغيرها من العلوم التي أنتجت اكتشافات مهمّة ساهمت في تطوّر المعرفة العلميّة على أنواعها؟ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أكثريّة المفكّرين الأرثوذكس الذين يبحثون العلاقة بين اللاهوت (والإيمان) والعلم، يعيشون في الولايات المتّحدة وغرب أوروبّا، فيما لزملائهم في أماكن أخرى من العالم أولويّات واهتمامات بحثيّة أخرى، تتعلّق بالدراسات الآبائيّة والليتورجيّة والرعائيّة. إنّ مراجعة ما كُتب حول اللاهوت والعلم في العقود الأخيرة تفضي إلى تلخيص الآراء المتنوّعة على النحو التالي:

أ- يصرّ البعض على توصيف الكنيسة الأرثوذكسيّة على أنّها «تقليديّة» ليستخلص أنّ «الأرثوذكسيّة» لم تواجه يومًا تحديّات قائمة على المعرفة العلميّة والفكر النقديّ. فبتقدير هؤلاء، تنتمي هذه التحدّيات إلى بيئة غربيّة استوردها لاحقًا إلى المجتمعات الأرثوذكسيّة «الشرقيّة» مفكّرون ليبراليّون ومُصلحون تأثّروا بأفكار «غريبة وغربيّة»، أو متحوّلون إلى الأرثوذكسيّة كانوا أعضاء تيّارات محافظة في العديد من الدول الغربيّة. تفضي هذه المقاربة إلى تجاهل كلّ ما هو «غريب» عمّا يظنونه «أرثوذكسيًّا»، وعليه، تعلو دعوات هنا وهناك إلى الابتعاد عن العلم القائم على «المعرفة المادّيّة»، وإلى الدفاع عن «الحقيقة» القائمة على قراءة النصوص الكتابيّة والآبائيّة بشكل حرفيّ لا نقديّ، وإلى التصدّي ومواجهة العلم بالأفكار «الموحى بها» في «التقليد الشريف»، حتّى لو تعارضت هذه التعاليم التقليديّة مع الاكتشافات العلميّة الحديثة. وعليه، يستخلص هؤلاء أنّ لا ضرورة أو حاجة لأيّة علاقة بين العلم والإيمان، لأنّ الوحي والعقلانيّة لا يلتقيان، ولا يمكن التوفيق بينها.

ب- يعتبر البعض أنّ اللاهوت والعلم يتجاوران ويتحرّكان على مستويات مختلفة، ويتّبعان طرائق وأساليب وأدلة مختلفة فيكمّل أحدهما الآخر، أو أقلّه يترافقان في طريقهما نحو «حقيقة ما» حول الخليقة. تستند هذه المقاربة إلى التمييز بين نوعي الأسئلة والمعرفة القيّمة التي يقدّمانها: ففيما يتحدّث اللاهوت عن اللَّه الخالق الذي يكشف نفسه في علاقته مع الإنسان، عبر الوحيّ، بقصد التألّه، وتاليًا الإجابة عن «من هو الخالق؟» و«لماذا الخلق؟»، يهتمّ العلم بفحص المخلوق وإدراكه عبر الحواسّ البشريّة والملاحظة والأدلّة والبيانات، بهدف تحسين شروط الحياة في هذا العالم، أي في الأجابة عن أسئلة تتعلّق بماذا وكيف ومتى وأين. لذلك، لا يستطيع المرء أن يكتشف اللَّه غير المخلوق عبر العلم، ولا يمكن إدراك المخلوق عبر اللاهوت. ويستنتج هؤلاء أنّ العلم والقدرة على البحث العلميّ والاكتشافات العلميّة هي هبات من اللَّه للبشريّة، وتاليًا لا يمكن تجاهلها أو حتّى استبعادها، في محاولة فهم العلاقة بين اللَّه والخليقة. من جهة أخرى، يميل آخرون إلى التشديد على أنّ فهم الإنسان للخليقة يجب أن يتخطّى العنصر المادّيّ، ليشمل العناصر الروحيّة والعاطفيّة أيضًا.

ج- يرى البعض أنّه لا بدّ من حوار وتشارك بين العلم واللاهوت، بخاصّة حول تلك المجالات القريبة إلى اهتمامات الكنيسة، ومنها العلوم الطبيعيّة (كالكوزمولوجيا والبيولوجيا) والعلوم التطبيقيّة (كالطبّ والهندسة) والعلوم الاجتماعيّة (كعلم النفس وعلم الاجتماع). كما يدعو هؤلاء إلى التركيز على شؤون البيئة ومسائل علوم الحياة، وما يرافقهما من إشكاليّات أخلاقيّة تتعلّق بالأبحاث العلميّة والإنجازات التكنولوجيّة والطبّيّة وأهداف استعمالها. لقد تطرّق مجمع كريت (2016) في بيانه الختاميّ إلى مسألة العلم واللاهوت (الفقرة 11)، فاعتبر أنّ العلم والتكنولوجيا يغيّران بشكل جذريّ حياة الإنسان لما لهما من فوائد مهمّة، إلاّ أنّ المشكلة الكبرى تبقى في «التلاعب بالحرّيّة الإنسانيّة، وفي اعتبار الإنسان وسيلة، وفي فقدان التقاليد الثمينة بشكل تدرّجيّ، والتهديد المباشر للطبيعة»، كما أنّهما لا يحفّزان إرادة الإنسان الأخلاقيّة ولا يعطيان الأجوبة حول مشاكل الإنسان الوجوديّة والأخلاقيّة والتي تتطلّب مقاربتها اتّباع نهج روحيّ.

ثمّة عوامل عدّة أسهمت سلبًا في مسار العلاقة الحاليّة بين اللاهوت والعلم في العديد من الأوساط الأرثوذكسيّة أهمّها: أ) الافتقار إلى مبادرات حقيقيّة على مستوى الكنيسة الجامعة وقمّة البطاركة ورؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة (سيناكسيس)، ومجامع الكنائس المقدّسة، والجامعات وكلّيّات اللاهوت ومراكز الأبحاث، وكذلك العلماء والخبراء الأرثوذكس الذين يرغبون في العمل باستقلاليّة ومن دون أيّة عقبات، مادّيّة ومعنويّة؛ ب) عدم وجود دعم وطنيّ (حكوميّ وغير حكوميّ) في العديد من «الدول الأرثوذكسيّة»؛ ج) عدم وجود أموال سخيّة للمشاريع التقدّميّة العلميّة؛ د) العلاقة المتوتّرة أحيانًا والشائكة وغير المستقرّة أحيانًا أخرى بين اللاهوتيّين التقليديّين والعلماء الليبراليّين في جميع أنحاء العالم ؛ هـ) تأثير الرهبنات التقليديّة بغالبيّتها وتدخلّها في الشؤون الرعائيّة؛ و) المشاعر المناهضة للغرب والجدل القائم حول الانفتاح على الغرب علميًّا وثقافيًّا في العديد من الكنائس المستقلّة الأرثوذكسيّة ذات الغالبيّة «التقليديّة»؛ ز) العلاقة المضطربة بين الأرثوذكسيّة الشرقيّة والمسيحيّة الغربيّة حول العديد من الطروحات المسكونيّة؛ ح) الخلط بين الافتراضات والآراء المفَاهيميّة والفلسفيّة؛ ط) الافتقار إلى الفهم السياقيّ (الاجتماعيّ والثقافيّ) العميق؛ ي) ابتعاد بعض السلطات الكنسيّة عن كلّ ما يثير الجدل في الكنيسة؛ ك) القصور الأكاديميّ والمنهجيّ وضعف القراءات النقديّة للماضي وأفكاره ومقارباته وأحداثه؛ ل) الركود والمتحفيّة وصنميّة التقليد؛ م) مقاومة الابتكار والحداثة والإصلاح والتغيير؛ ن) الإيديولوجيّات الحديثة وضعف الأرثوذكسيّة في التعاطي معها ومواجهة تأثيرها ورواسبها. أخيرًا، يُمكن القول إنّه رغم ما ذُكِر أعلاه، يبقى أنّ تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة لم يشهد أيّ حادث مشابه لمحاكمة العلماء أمثال غاليليو وغيره على أفكارهم في الغرب.

ثمّة ملاحظات منهجيّة عامّة لا بدّ من أخذها بالاعتبار في معالجة الجدليّة القائمة بين اللاهوت والعلم: أ) تحديد «التسليم» وتاريخيّة أجزائه ومسارات تغيّرها؛ ب) التمييز بين العناصر التي تعكس لاهوت الكنيسة والأخرى التي تعكس تقاليد ثقافيّة واجتماعيّة وشعبيّة؛ ج) فهم التسليم على أنّه ديناميّة تفاعليّة ومسار تبلوريّ ونهج تطويريّ وليس جمادًا يتمّ تناقله عبر العصور؛ د) الاعتراف بمحدوديّة التعاليم الكتابيّة والآبائيّة والمجمعيّة المتناقلة عبر الزمن في مقاربة التحدّيات العلميّة المعاصرة ومنها المتعلّقة بالعلوم الطبيعيّة والتطبيقيّة والاجتماعيّة؛ هـ) مقاربة النصوص الكتابيّة والآبائيّة وفهم نوعها ومضمونها بمنهجيّة نقديّة سليمة وبنّاءة؛ و) فهم مضامين النصوص ضمن إطارها التاريخيّ (الاجتماعيّ والفكريّ والثقافيّ)؛ ز) التمييز بين النصوص «المُلهَمة» وتلك غير الملهَمة؛ ح) التمييز بين النصوص التي يجب فهمها بشكل حرفيّ-تاريخيّ أو بشكل مجازيّ؛ ط) التمييز بين النصوص العامّة والشاملة والدائمة والثابتة والأخرى الخاصّة والجزئيّة والظرفيّة والمتبدّلة؛ ي) تحديد النصوص التي «عفا عليها الزمن» من ناحية الاستناد إلى تعاليمها في الحياة الكنسيّة المعاصرة؛ ك) عدم «شيطنة» المقاربات القائمة على العقلانيّة والإنسانيّة والحداثة والاكتشافات العلميّة أو ربّما مقاربتها بمنطق “المؤامرة” على الكنيسة؛ ل) عدم وصم العلمَ على أنّه عقلانيّ ورمز الحداثة أو اللاهوتَ على أنّه غير عقلانيّ ومصدر التخلّف.

في الأخير، ستبقى الجدليّة قائمة بين اللاهوت والعلم ما دام البعض يسعى إلى احتكار «حقيقة ما»، يظنّ أنّها مطلقة وكاملة وحصريّة في مجاله، أو عندما يشوّه اللاهوتيّون العلمَ والعلماءُ اللاهوتَ، أو عندما تصبح القراءات اللاهوتيّة عائقًا أمام تقدّم العلوم والابتكار والإبداع، وعندما تغدو الدراسات والاكتشافات العلميّة عائقًا أمام الاختبارات الروحيّة والنفسيّة والعاطفيّة؛ أو عندما يستخدم اللاهوت والعلم بهدف التكفير وإلغاء الآخر وانتهاك حقوق الإنسان. لقد خلق اللَّهُ الإنسانَ منذ البدء ودعاه إلى معرفة الخالق والخليقة الحسنة جدًّا، حسبما استطاع، إلاّ أنّ هذه المعرفة ستبقى دائمًا غير كاملة بسبب محدوديّة الإنسان وقدراته العقليّة والنفسيّة والروحيّة. فعلى الأرجح، ما زلنا في مربّع المعرفة الأوّل، نحاول أن نُدرك ما لا يمكن إدراكه بالكلّيّة، واختبار ما لا يمكن اختباره بالكلّيّة، رغم المحاولات البشريّة كافّة عبر العصور لفهم كلّ ما يرى وما لا يرى، واختباره في محاولة لملء المحيطات المادّيّة والروحيّة الكبيرة في حُفَر عقولنا وقلوبنا ونفوسنا الصغيرة.n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search