الله البعيد والقريب:
بين القدّيس غريغوريوس بالاماس والمعلّم إيكارت
د. جورج معلولي
مسيحيّة القرن الرابع عشر مفكّرين مميّزين: القدّيس غريغوريوس بالاماس في الشرق (1296- 1359) والمعلّم إيكارت في الغرب (1260 – 1328). بينما كان الأوّل ممثّلاً للتقليد الهدوئيّ والوعي العقائديّ في كنيسة الشرق، كان الثاني نموذجًا عن تصوّف العصر الوسيط في أشكاله الأكثر لمعانًا وإرباكًا. ماذا يجمع بينهما؟ يبدو أنّ ڤلاديمير لوسكي، هو واحد من أعظم لاهوتيّي المهاجرين الروس في القرن العشرين، قد جعل مهمّة حياته دراسة هذين اللاهوتيّين فتعمّق في كتاباتهما في كتابه «بحث في اللاهوت الصوفيّ لكنيسة الشرق» من جهة، وفي أطروحته الكبيرة حول اللاهوت التنزيهيّ عند المعلّم إيكارت من جهة أخرى. ولكنّ لوسكي توفّي قبل أن يجمع بينهما في مقارنة أو خلاصة. كيف يكون اللَّه الآخر المطلق والقريب في آن واحد؟ يحاول المطران كاليستوس (وير) في هذه الدراسة (التي نعرضها في ما يلي بإيجاز) أن يستلهم مشروع لوسكي غير المنتهي ليجيب عن هذه الإشكاليّة وهي تعبّر عن التضادّ بين بعد اللَّه وقربه.
ثلاث مراحل توالت في حياة القدّيس غريغوريوس بالاماس. الأولى هي نسكه في جبل آثوس حيث انتقل إليه في العشرين من عمره، وأمضى نحو عشرين سنة في مناسكه. كان برنامجه الاعتياديّ الاعتزال خمسة أيّام في الأسبوع والمشاركة في الصلوات الجماعيّة والإفخارستيّا نهاري السبت والأحد. قد يكون القدّيس تمرس في هذه المرحلة على الصلاة القلبيّة (صلاة يسوع) من دون انقطاع ما خلا أوقات الخدم الليتورجيّة والقدّاس الإلهيّ. في الجبل المقدّس تعرّف بالاماس إلى الهدوئيّين ومن غير المستبعد أنّه اختبر حياتهم ومعاينتهم النور الإلهيّ بشكل شخصيّ.
المرحلة الثانية هي مرحلة الدفاع عن الهدوئيّين ضدّ اتّهامات برلعام من كالابريا، الذي اعتقد أنّ النور الذي يختبره الهدوئيّون خلال صلاتهم نور مخلوق ناتج من تقنيّات نفسيّة-جسديّة مرتبطة بممارسة صلاة يسوع. شعر بالاماس أنّ من واجبه أن يدافع عن الهدوئيّين وأن يكون الناطق الرسميّ باسم هذا التقليد. فلجأ إلى تقليد الآباء الكبادوكيّين وكتابات ذيونيسيوس الأريوباغيّ، حيث استقى التمييز بين جوهر اللَّه وأفعاله (أو طاقاته). وقد أقرّت تعليمه ثلاثة مجامع في القسطنطينيّة (1341، 1347، 1351). عاش بالاماس في زمن التباعد بين الشرق والغرب. عرف عددًا من اللاتين في القسطنطينيّة وحافظ على التواصل معهم. أمّا برلعام القادم من الغرب فهو يونانيّ الثقافة واعتبر نفسه مؤمنًا أرثوذكسيًّا حتّى إدانته في مجمع القسطنطينيّة في العام 1341. تمحور الجدل حول مقاربتين لكتابات ذيونيسيوس: بينما كان برلعام لاهوتيًّا فلسفيًّا استخدم اللغة التنزيهيّة لبرهان منطقيّ لعدم إدراكيّة اللَّه، رأى بالاماس في كتابات ذيونيسيوس لاهوتًا اختباريًّا فاستخدم اللاهوت التنزيهيّ طريقًا لتأكيد إمكانيّة الاتّحاد مع اللَّه.
المرحلة الثالثة في حياة بالاماس بدأت العام 1347 عند انتخابه أسقفًا على تسالونيكي وامتدت حتّى رقاده العام 1359. ورث بالاماس قطيعًا منقسمًا فكان صانع سلام ناجحًا ومدافعًا قويًّا عن العدالة الاجتماعيّة. أمضى ما يزيد عن السنة خلال هذه المرحلة أسيرًا لدى الأتراك كانت له خلالها حوارات إيمانيّة مع المسلمين المحلّيّين. جمع بالاماس في حياته بين الصحراء والمدينة فكان ناسكًا ومدافعًا وأسقفًا، فوحّد بين الهدوئيّة والرعاية العمليّة الناجحة.
كيف يكون اللَّه قريبًا وهو الآخر المطلق؟ هذا تضادّ وتأكيد مزدوج في التقليد الشرقيّ. في كلمات القدّيس أثناسيوس، «إله يمكن فهمه ليس اللَّه». وفي كلمات إيفاغريوس البنطيّ، تلميذ الكبادوكيّين وآباء الصحراء، «اللَّه لا يمكن إدراكه بالعقل، وإن أمكن إدراكه فهو ليس اللَّه». مع هذا يدخل اللَّه مع الإنسان في اتّحاد حبّ يحوّل مخلوقيّته. اللَّه الذي يفوق كلّ وجود أقرب إلينا من قلبنا. يقول سمعان اللاهوتيّ الحديث وهو سابق لبالاماس في التقليد الهدوئيّ: «كالصديق الذي يحادث صديقه يتكلّم الإنسان مع اللَّه ويقترب إليه بثقة واقفًا أمام وجه الذي يسكن في نور لا يدنى منه». يعطي اللَّه الإنسان هذه الدالّة للوقوف في حضرته. يستفيض سمعان اللاهوتيّ في هذا التضادّ: «أعرف أنّ غير المتحرّك يتنازل، أعرف أنّ غير المرئيّ يصير مرئيًّا لي، أعرف أنّ الذي هو منفصل عن كلّ الخليقة يأخذني في نفسه ويخبّئني بين ذراعيه، وأجد نفسي خارج العالم كلّه».
يتّفق بالاماس وإيكارت في التأكيد على هذا التضادّ. يؤكّد بالاماس على الهوّة الكيانيّة بين الخالق والمخلوق: «هو وجود كلّ الموجودات، حكمة كلّ الحكماء، وهو الكلّ لكلّ الأشياء. ومع هذا ليس هو الطبيعة لأنّه يتجاوز كلّ طبيعة، ليس هو كائنًا لأنّه يتجاوز كلّ الكائنات، وليس هو شكلاً وليس له شكل لأنّه يتجاوز كلّ الأشكال. ليس من مخلوق حاصل أو يمكن أن يحصل على أيّ اشتراك أو اقتراب من الطبيعة الفائقة». ليس اللَّه كائنًا من كائنات هذا العالم. لا يوجد اللَّه كما توجد الأشياء. بهذا المعنى اللَّه فائق الجوهر، لا اسم له وله كلّ الأسماء، حسب تعبير بالاماس. «هو في كلّ مكان وليس في أيّ مكان، له أسماء عديدة ولا يمكن تسميته، هو دائم التحرّك وغير متحرّك، هو كلّ شيء ولا شيء». في علاقتنا مع اللَّه هناك دائمًا قطبان في توتّر معطي الحياة: قطب الكشف وقطب السرّ. أمّا الذين يصبحون «روحًا واحدًا مع الربّ» (1كورنثوس 6: 17) فمعرفتهم يمتلكونها بطريقة لا تدرك حسب تعبير القدّيس.
كلّ قارئ للمعلّم إيكارت سيلاحظ التوازي بينه وبين تعابير بالاماس عن اللَّه. عند إيكارت أيضًا اللَّه «لا اسم له»، يتجاوز كلّ الأسماء، اسمه لا ينطق به، وطبيعته مستترة. يسكن في منطقة الاختلاف الكلّيّ وبينه وبين خليقته هوّة جذريّة. لذلك ليس من وصف يفي اللَّه. ولكنّ اللَّه ليس فقط اللَّه غير المدرك ولكنّه في كلّ مكان ويملأ كلّ الأشياء. هو ليس فقط من لا اسم له لكنّه أيضًا الذي يفوق اسمه كلّ الأسماء (فيليبّي 2: 9)، ونبع كلّ الأسماء. «اللَّه أقرب لذاتي من قربي لذاتي» و «هو أقرب للنفس من قربها لنفسها». اللَّه في كلّ الأشياء كلّيًّا وخارج كلّ الأشياء كلّيًّا عند إيكارت. فاللَّه يخلق العالم بأسره الآن في هذه اللحظة وبشكل مستمرّ.
لم يكن بالاماس وإيكارت يؤمنان بالحلوليّة ولكنّهما يؤمنان بحضور اللَّه في كلّ شيء. الموقف الحلوليّ يعتقد أنّ الكون هو اللَّه وأنّ اللَّه هو الكون. ليس هذا موقف بالاماس أبدًا. وليس موقف إيكارت رغم أنّه يقترب أحيانًا من الحلوليّة بشكل خطير. غير أنّ اللَّه فاعل في العالم أي حاضر بقوّة أعماله أو طاقاته في العالم وهذا موقف واضح عند بالاماس وإيكارت.
أن تتقاطع أفكار بالاماس وإيكارت ليس مفاجئًا لأنّهما كليهما يغرفان من تقليد ذيونيسيوس، الذي يقول عن اللَّه: «يسبّحه اللاهوتيّون كمن لا اسم له وفي الوقت عينه الممجّد في كلّ اسم». فهو لا اسم له ومتعدّد الأسماء، «فوق العالم وفي العالم»، سبب وجود كلّ الأشياء وفائق كلّ كيان. بالنسبة إلى ذيونيسيوس، اللَّه هو «الكلّ في الكلّ» (1كورنثوس 15 : 28)، وفي الوقت عينه غير منظور في شيء لأيّ كان.
كيف يعالج بالاماس إشكاليّة قرب اللَّه وبعده؟ يقول القدّيس باسيليوس: «إنّنا نعلن أنّنا نعرف إلهنا في أفعاله (أو طاقاته) ولكنّنا لا نعترف بأنّنا نستطيع الدنو من جوهره. لأنّ طاقاته تنزل إلينا ولكنّ جوهره يبقى غير مقترَب منه». وبناء على هذا التمييز وعلى كتابات ذيونيسيوس، يكتب بالاماس عن ثلاثة أشكال من الاتّحاد: الاتّحاد بحسب الجوهر بين الآب والابن والروح القدس، والاتّحاد بحسب الأقنوم في شخص يسوع المسيح الإله-الإنسان، والاتّحاد بحسب النعمة بين اللَّه والمؤمنين. في خطاب الأنا والأنت بين القدّيسين واللَّه، يبقى التمايز بين الأنا والأنت فلا يذوب الشخص البشريّ، ولا يتبدد في اتّحاده مع اللَّه بل يبقى شخصًا متمايزًا وفي الوقت عينه ممتلئًا من حياة اللَّه ومجده وقوّته. هذا التمييز بين القوى والجوهر يخوّل بالاماس أن يدافع عن الاتّحاد الحقيقيّ بين الخالق والمخلوق من دون الوقوع في الحلوليّة. فاللَّه موجود بالكلّيّة في كلّ قوّة من قواه، وقوى اللَّه هي اللَّه نفسه فاعلاً بشكل مباشر وشخصيّ.
هل من توازٍ هنا بين إيكارت وبالاماس؟ يلتقي إيكارت مع بالاماس (من دون أن يعرف الواحد الآخر) في التأكيد على عدم إدراكيّة اللَّه وحضوره في كلّ مكان. كلّ الأشياء تتكلّم على اللَّه عنده. ولكنّ خلفيّة إيكارت التومائيّة (نسبة إلى توما الأكوينيّ) تجعله يقول «لا شيء في اللَّه إلاّ الجوهر» وعندما يتكلّم على الاتّحاد مع اللَّه فهو يسمّيه اتّحادًا مع الجوهر. مع هذا يميز إيكارت بين اللَّه في ذاته الذي لا يدرك وبين حضور اللَّه في مخلوقاته. اللَّه واحد وهو نفسه على المستويين في فهم إيكارت.
في حين تشكّلت عبقريّة بالاماس في قلالي النسك نما إيكارت في مدارس الجدالات الفكريّة. كلاهما يصبوان إلى الأقصى في التوتّر بين عدم إدراكيّة اللَّه وقربه. ربّما لم يكن بالاماس ليقبل كلّ تعابير إيكارت وربّما كان إيكارت ليُصدم بتمييز بالاماس بين القوى والجوهر، ولكنّ كلاهما آمن بأنّ الآخر المطلق هو بيننا. وكما يقول سمعان اللاهوتيّ: «هو في قلبي، هو في السماء».
REFERENCE: