2018

9. حورس والمسيح، ردّ على ادّعاء الشبه بين الشخصيّتين - مطانس عصام عوّاد – العدد السادس سنة 2018

 

حورس والمسيح

ردّ على ادّعاء الشبه بين الشخصيّتين

مطانس عصام عوّاد

 

مقدّمة

من عجائب الإنترنت أنّنا نرى الناس يشاركون أشياء لا يدقّقون في صحّتها، وإن كانت تبدو على قدر من الأهمّيّة والتأثير. من المعلومات التي يشيع تداولها في هذه الفترة، مقابلة بين المسيح الإنجيليّ والإله المصريّ (حورس)، إذ يقول المدّعون بوجود أوجه تطابق وتشابه كثيرة بينهما، تاليًا فإنّ المسيح (الإنجيليّ) شخصيّة مقتبسة من شخصيّة حورس (المصريّ). وجدتُ أنّ أَصْلَ هذا كلّه هو بعض مقالات منشورة، اعتمدها الكثيرون مرجعًا، وزادوا عليها وأنقصوا منها، من دون تدقيق أو مراجعة. سنتبع هذه المنهجيّة: أعرضُ أبرز ما يتداوله الناس وفق نقاط مرقّمة؛ ويمكن للقارئ العودة إلى هذه الادّعاءات بكاملها مع تفنيدها في شبكة الإنترنت، ثمّ تأتي الردود عليها مباشرة باختصار وفي نقاط مبسّطة مستندة إلى المراجع، وسنذكر في الإحالات مرجعين، درءًا للتشويش، والاستزادة ممكنة للقارئ من المراجع المذكورة أدناه.

تمهيد

لا بدّ من الإشارة إلى أنّه يوجد أكثر من (حورس) في الديانة المصريّة القديمة (ياروسلاف، ص14- 24، 55). فأيّ واحد يقصدون؟ بفعل تطوّر الديانة المصريّة عبر الزمن، نجد في مرّات عديدة اندماجًا للآلهة وأسمائها أو أن يأخذ أكثر من إله الاسم ذاته، وكثيرًا ما يحدث أن يفقد الإله القديم اسمه ويبدو ذلك هو السبب في وجود آلهة مختلفة سمّيت باسم واحد مثل حورس وحاتحور (إرمان، 85).

تخيّل المصريّ القديم صُوَرًا للشمس، إمّا في هيئة الصقر، أو كإله له رأس الصقر هو حورس الذي يعني اسمه «البعيد» لأنّ إله الشمس «بعيد عن الآلهة» فهو يُطلّ على الآلهة وليس هناك إله يطلّ عليه. واعتقدَ المصريّون في أوّل الأمر أنّ الإله حورس هو حاكم السماء، له عينان متوهّجتان إحداهما الشمس والأخرى القمر، (إرمان، 36). الدلتا الموطن الأصليّ لحورس ومن هنا يودّ البعض أن يرى فيه الإله القوميّ للدلتا، ويقابله في ذلك الدور الإله (ست) الإله القوميّ لمصر العليا. ويتمثّل في هذين الإلهين حاكما مصر، ولو أنّ حورس وحده يعتبر هو الحاكم على مصر مجتمعة، نظرًا إلى أنّ البعض يرى أنّه في وقت ما حكمت مصرُ السفلى مصرَ العليا (إرمان، 53). بلغ عدد الآلهة الفعليّة في مصر القديمة حدًَّا خرافيًّا، وامتزج بعضها ببعض، إلاّ أنّها لم تبلغ في تنافرها وتعارضها ذلك الحدّ الذي بلغته إلهة السماء أو إله الشمس. وكثيرًا ما يحدث أن يتعذّر على الشخص أن يفهم أيّ الآلهة يَعنون (إرمان، 46).

نجد هناك عددًا كبيرًا من الآلهة التي سمّيت بهذا الاسم، يخصّ البعض منها إله الشمس أو نجمًا في السماء، ومن هذه الحالة تستطيع أن تفهم هذه التسمية، ويخصّ البعض الآخر أشياء أو معبودات لا تمتّ بعلاقة إلى الإله حورس... مثلاً: هناك حورس الابن الذي فقد أباه أوزريس والمعروف باسم حور سايزيس أي حورس ابن ايزيس الذي ورد اسمه في قصة أوزريس المشهورة، وهناك حورس المحارب في مدينة ليتوبوليس وفي أماكن أخرى، الذي كان يسمّى حورس الكبير مقابل حورس الرضيع (ابن إيزيس)، وثمّة حورس المسمّى كنتشاوي معبود أتربيس في الدلتا، وحورس سبودو، وكلا الإلهين الأخيرين عُبدا في شرق الدلتا. وخلاصة القول إنّه لم يكن هناك إله كبير لم يُرد أن تأتيه الفرصة من دون أن يغتمنها للتمثّل بحورس أو التسمّي باسمه، (إرمان، 54).

في سياق التطوّر التاريخيّ للديانة المصريّة القديمة نلاحظ في النصوص المصريّة ظهور دولة غارقة في القدم سمّي ملوكها «خَدَم حورس»، ويغلب الظنّ أنّ هذه الأسرة الملكيّة خصَّت حورس بتقديس يبزّ كلّ ما عداه من الآلهة، ومن هنا نشأ هذا الامتياز الذي انفرد به حورس من دون جميع الآلهة في العصور التاريخيّة، وأصبحت صورة الصقر في الكتابة المصريّة «كمخصّص للإله» و«للملك» وأصبح حورس قبل كلّ شيء المثل الأعلى للملك، فهو الإله الذي كان أول مَنْ حَكَم الناس، وبذلك كان كلُّ من أعقَبَه مِنَ الملوك خلفاءَه وممثليه. وكان الملك يُلقَّب بحورس، أما إذا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين الإله لُقِبَ بحورس الذي يسكن القصر (إرمان، 87).

تلخيص الأسطورة التي جاءت منها المعلومات الشائعة عن حورس

كي نتابع سياق الكلام بفَهم نذكر تلخيص الأسطورة وشخصيّاتها الرئيسة: سِت وأوزريس ونفتيس وإيزيس هم أولاد الإله كب (إرمان، 116). كانت الآلهة الخمسة معروفة في هيلوبوليس على الأقلّ منذ العام 4241 قبل الميلاد، (إرمان، 130). الإله أوزريس لديه إخوة هم: إيزيس (وهي زوجته أيضًا)، والإله ست، والإلهة نفتيس (ست ونفتيس زوجان أيضًا). الإله ست قتل أخاه أوزريس ورماه في النيل. أين دور حورس؟ حورس تصارع مع عمّه (ست) وتمكّن من استرجاع مُلك أبيه الضائع.

والآن نأتي إلى موضوع الادّعاءات وتفنيدها

الادّعاء الأوّل: وُلِدَ حورس في 25 كانون الأوّل. أمّه إيزيس عذراء. صاحبتْ ولادتَه نجمةٌ في الشرق، تبعها خروج ثلاثة ملوك لإيجاد المنقذ الجديد وتنصيبه، والذي هو في الثانية عشرة من عمره وكان معلِّمًا.

الردّ: لم يوجد أيّ ذِكر في الديانة المصريّة القديمة لموعد ميلاد حورس، ولا أيّ إله آخر. زِد على ذلك أنّ المسيح لم يولد في 25 كانون الأوّل، والمسيحيّون لا يعرفون موعد ميلاد المسيح، ولم يرد هذا في الإنجيل، لكنّهم يعيّدون، بعضهم لا جميعهم، في هذا اليوم اصطلاحًا ويتعلق الموضوع بأمر آخر لا محل له هنا.

لا وجود في أسطورة حورس لنجمات أو ملوك، أمّا عن الأخبار في عمر 12 سنة فإنّها غير موجودة قطعًا، لأنّ الأخطار، بحسب القصّة، هددت الصبي حورس لكنّه كان باستمرار ينجو منها بيقظة أمّه إيزيس وعنايتها... وهكذا ترعرع حورس في الخفاء حتّى إذا ما اشتدّ ساعده قام ليقاتل عمَّه (ست) (إرمان، 130).

إيزيس ليست عذراء، ولا وجود لهذا المصطلح في مفاهيم الديانة المصريّة القديمة، بل إنّ إيزيس ليست بشريّة لكنّها إلهة مصريّة، وهي قرينة الإله أوزريس، وأخته في الوقت عينه، وكانت تبرع في أعمال السِّحر. إيزيس هي أشهر الإلهات المصريّات. نشأت أوّل الأمر في الدلتا، وورد ذكرها في قصّة أوزريس، ومنذ ذلك الوقت فقدت طابعها كإلهة سماويّة، وبقيت محتفظة بصفتها كزوجة أوزريس والأم الرؤوم لحورس، وبما أنّ ابنها كان يُسمّى باسم «إله الشمس»، فهذا يدلّ على أنّ إيزيس في الأصل وفي وقت ما كانت تعتبر إلهة للسماء التي تلد الشمس مرّةً كلَّ يوم (إرمان، 59). أمّا عن حورس وكيف وضعت بذرته، فقد تصوّرها الناس كما يأتي: تحوّلت إيزيس إلى طائر حطّ فوق جثّة زوجها وحملت منه، ثمّ وضعت حورس وتعاونت مع نفتيس (وهي أخت أوزريس) على تربيته، وترعرع حورس الطفل «الذي يضع إصبعه في فمه» وتقاتل مع قاتِل أبيه... (إرمان، 114؛ 118).

الادّعاء الثاني: عندما صار في الثلاثين من عمره تمّ تعميده على أنّه الشخصية «أنوب»، وبدأ بحكم سلالته.

الردّ: لم يرد ذكر المعموديّة في أسطورة حورس، وجاء حُكمه بعد قتله عمَّه (ست) وليس بعد معموديّةٍ، لكنّ السؤال المطروح الآن: من هو أنوب؟

موتى كلّ مدينة كانوا يرقدون مجتمعين في جَبَّانة (مقبرة) واحدة تقع بالقرب من هذه المدينة، ولا بدّ من أنّهم كانوا تحت رعاية إله محلّيّ خاصّ بهذه الجبّانة، وغالبًا ما تأخذ مثل هذه الآلهة المحلّيّة للموتى شكل ابن آوى، أي الحيوان الذي يجوب المناطق الصحراويّة ليلاً، حيث تقع هذه المقابر، باحثًا عن فريسة (طعام). وهذا هو الشكل الرمز الذي اتّخذه سيّد أهل الغرب (أي الموتى). وأنوبيس (أنوب) كان يُرمز إليه بابن آوى وكان إلهًا للدفن منذ عصور الدولة القديمة. وصل إلى مكانته هذه لأنّه ذُكر في قصّة أوزريس، ولأنّ جميع الآلهة الذين ورد ذكرهم في هذه القصّة ظهروا في الصورة الآدميّة، نجد أنوبيس أيضًا قد صُوِّرَ بهذا الشكل، ولكنّ الرأس فقط هي التي كانت تمثّل ابن آوى. كان موطن أنوب الحقيقيّ على الأرجح مصر الوسطى. أمّا دور أنوب في قصّة أوزريس، فهو أحد الإلهين (أوب وات، وأنوبيس) اللذين يُسمَّيان فاتِحَي الطريق، زميلي أوزريس في كفاحه، يتقدّمانه في المعركة... (إرمان، 75- 76).

الادّعاء الثالث: كان لحورس 12 تلميذًا يتبعونه أينما ذهب للقيام بمعجزاته، مثل شفاء المرضى والمشي على الماء.

الردّ: بحسب الأسطورة لم يكن لحورس تلاميذ. الأعمال الخارقة تُعزى إلى السِّحر وهي خارج نطاق دراسة الديانة المصريّة القديمة (ياروسلاف، ص 72)، والآلهة المصريّة ليست بحاجة إلى الأعاجيب بل هي تقوم بكلّ شيء بشكل بدهيّ، والمَلك أيضًا. أمّا عن أعاجيب حورس! فليس لحورس أيّ أعجوبة مذكورة في كلّ ما قرأنا.

الادّعاء الرابع: عُرِفَ حورس بكُنى متعدّدة مثل: الحقيقة، النور، تجسيد الربّ، راعي الربّ، حمل الربّ، وغيرها.

الردّ: نعثر على ألقاب الآلهة المصريّة في الصلوات الموجّهة إليهم، ونجد تاليًا ألقاب حورس في إحدى الصلوات المنقوشة الموجّهة إليه: يرفع شامخًا ذراعيه، الرافع ذراعيه، سيّد التبجيل، صاحب الكون الجليل، عاهل الآلهة المبجّل في النوبة، القادم من بلاد أوترت (ياروسلاف، ص 71). ولا وجود للألقاب المذكورة في الادّعاء.

الادّعاء الخامس: بعد أن خانه «تيفون»، صُلِبَ حورس ودُفن ثلاثة أيّام، بُعث بعدها من الموت.

الردّ: بحسب مقتطفات المؤرّخ المصريّ مانتيون (280 ق. م): حَدَّدَ المصريّون أعمارًا للآلهة، وقد عاش حورس 300 عام، فأين الموت والقيامة بعد ثلاثة أيّام إلى الأبد؟! (ياروسلاف، ص 56). لكن ما يدحض هذا الادّعاء بشكل أكبر هو تيفون المذكور، إذ إنّ أسطورة أوزريس انتقلت إلى أوروبّا وانتشرت هناك في شكلها الأكثر رقيًّا وترتيبًا، وهناك نجد أنّ الاسمين تيفون وهرميس يقابلان الاسمين المصريّين في الأسطورة: ست وتحوت، على الترتيب. إذًا، تيفون هو (ست) في الأسطورة بنسختها الأوروبّيّة، وقد ذَكَر بلوتارك  هذه الأسطورة بأسمائها الأوروبّيّة (إرمان، 130). ولأجل المفارقة نذكر أنّ أوزريس (أبا حورس) هو الذي عاد إلى الحياة، بحسب إحدى صيغ الأسطورة، بفضل أعمال سِحر قرينته إيزيس (ياروسلاف، ص 40- 41).

الخلاصة

المقابلة تثبت أنّ كلّ الادّعاءات، مطلقًا، هي محض تخيّلات أو افتراءات، وبغضّ النظر عن غايتها، فإنّنا لم ننظر إليها ونردّ عليها حتّى نثبت عكس ما يصل إليه مدّعوها كنتيجة، فإنّ نفي الشبهات ليس غاية في حدّ ذاتها، بل الغاية المنشودة هي توجيه الفكر نحو الشكّ والبحث والانتقاد وتحرّي الحقائق، فإنّ معظم من يتبنّون هذه الادّعاءات يفعلون ذلك من منطلق الرفض والشكّ، لكنّهم يسقطون في فخّ عظيم هو الشكّ المنقوص أي من دون التتبّع والتقصّي، ولنا منهجٌ في قاعدة اليقين التي وضعها رائد الشكّ ديكارت وجاء فيها: “ألاّ أقبل شيئًا على أنّه حقّ ما لم أعرف يقينًا أنّه كذلك، بمعنى أن أتجنّب بعنايةٍ التهوّر، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألاّ أُدخِل في أحكامي إلاّ ما يتمثّل أمام عقلي في جلاء وتميُّز، بحيث لا يكون لديّ أيّ مجال لوضعه موضع الشكّ».

المراجع

m الديانة المصريّة القديمة، ياروسلاف تشرني. ترجمة أحمد قدري، مراجعة محمود ماهر طه، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996.

m آلهة المصريّين، والاس بدج. ترجمة محمّد حسين يونس، ضمن: صفحات من تاريخ مصر الفرعونيّة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998.

m ديانة مصر القديمة: نشأتها وتطوّرها ونهايتها في أربعة آلاف سنة، أدولف إرمان. ترجمة عبد المنعم أبو بكر ومحمّد أنور شكري، ضمن: صفحات من تاريخ مصر الفرعونيّة، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995.

m مصر القديمة، جان فيركوتير. ترجمة ماهر جويجاتي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1993.n

 

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search