2018

8. تحقيق: بيزنطية بعد بيزنطية - ريمون رزق – العدد السادس سنة 2018

 

بيزنطية بعد بيزنطية

ريمون رزق

 

 

أُعطي لي مؤخّرًا بنعمة من لدن اللَّه أن أتجوّل لمدّة أسبوعين بين الأديرة الصربيّة والمكيدونيّة في صربيا والجبل الأسود وكوسّوڤو ومكيدونيا. أقول نعمة من اللَّه لأنّ هذه الرحلة قرّبتني منه تعالى، عبر الجمالات التي شاهدت فيها، من كنائس وأيقونات وجداريّات «تُنزّل حقًّا السماء على الأرض»، كما صرّح موفدو ڤلاديمير الروسيّ بعد اشتراكهم في الليتورجيا في آيا صوفيا في القسطنطينيّة. وقد فاقت كلّ شيء تصوّرته وترقّبت رؤيته، وهي موازية، وتفوق أحيانًا ما أنتج الفنّ الكنسيّ الأرثوذكسيّ من جمالات في العمارة أو الزينة الكنسيّتين، في أنحاء أخرى من العالم الأرثوذكسيّ، بخاصّة في روسيا ورومانيا.

أردت إعطاء عنوان لهذه المقالات استعرته من كتاب  المؤرّخ الرومانيّ ورجل الدولة نيقولا إيورغا (1971-1940)(٢)  الذي لا يزال مرجعًا في كلّ ما يتعلّق باستمراريّة المدنيّة البيزنطيّة بعد سقوط القسطنطينيّة السنة 1453، وعاصمتي الأمبراطوريّة اللاحقتين ميسترا وترِبيزوندا في السنة 1461. ومع أنّ إيورغا تبسّط في كتابه حول الإرث البيزنطيّ في رومانيا بخاصّة، فإنّه قصد بعنوانه كلّ بلاد أوروبّا الشرقيّة، بخاصّة الأرثوذكسيّة منها.

شكّلت هذه البلدان، أيّام بيزنطية، نوعًا من «الكومونوِلث» البيزنطيّ، شجّع على الوحدة الثقافيّة والروحيّة والفنّيّة بين البلدان التي تحوم في فلك بيزنطية، إذ بشّر مرسلون من الأمبراطوريّة الروميّة الشرقيّة معظم السلاڤيّين القاطنين بين دالماسيا (كرواتيا الحاليّة) والقوقاز. وكما يذكر جورج أوستروغورسكي، أحد كبار مؤرّخي الدولة البيزنطيّة، كان الدين المسيحيّ والثقافة اليونانيّة القديمة، مصحوبين بالتنظيم والقانون الرومانيّين، يمثّلان أسس الأمبراطوريّة البيزنطيّة، وقد سعت إلى نقلها إلى بلدان «الكومونوِلث». فأثّر ذلك عميقًا في هويّة شعوب بلدانه، بخاصّة لدى سلاڤيّي الجنوب الذين شكّلوا سابقًا يوغوسلافيا. لم يندثر الإرث البيزنطيّ هذا مع سقوط الأمبراطوريّة، بل ظلّ حيًّا وتطوّر على يد هذه الشعوب، كما تسنّى لنا مشاهدة بعضه.

لكن قبل التوقّف عند هذه الأعمال الفنّيّة، لا بدّ من ذكر بعض الميزات التي تجمع بينها في المجالين التاريخيّ، الدينيّ والفنّيّ.

1- انتشار المسيحيّة

في الحقبة البيزنطيّة وبعدها

ما عدا اليونانيّين، فإنّ هذه الشعوب جميعها سلاڤيّة. والكنيسة البيزنطيّة هي مَن أدخلت إليها نور الإيمان المسيحيّ، أوّلاً على يد القدّيسين كيرلّس ومِثوذيوس المعادلين الرسل، اللذين أرسلهما إليها البطريرك القسطنطينيّ، فوتيوس الكبير في مطلع القرن التاسع، ثمّ على أيدي تلاميذهما في القرنين العاشر والحادي عشر.

نمت المسيحيّة في صربيا، (التي كانت تضمّ أيضًا الجبل الأسود ومكيدونيا وبوسنيا وكرواتيا وغيرها)، وكانت تابعة للقسطنطينيّة كنسيًّا إلى أن أعلنت استقلالها الكنسيّ السنة 1219 على يد القدّيس سابا الصربيّ (1174-1236)، وظلّت مستقلّة بإدارة رئيس أساقفة حتى السنة 1346 حيث تحوّلت إلى بطريركيّة (بطريركيّة بيتش) حتّى السنة 1463. خسرت استقلالها حتّى السنة 1557، حين استعادته حتّى السنة 1766 حينما ألغته السلطات العثمانيّة، فاستعادته نهائيًّا السنة 1920.

نشأت تلك البلدان أرثوذكسيًّا على يد بيزنطية، هذا إذا لم يدخلها الإنجيل في العهد الرسوليّ، لكنّها أنتجت أعظم ما أنتجته في مجال الفنّ الكنسيّ قبل سقوط القسطنطينيّة. فاكتسبت الصفة البيزنطيّة إذًا أثناء وجود بيزنطية، وليس بعد سقوطها، كما يوحيه عنوان إيورغا، لكنّها أضحت بعد هذا السقوط «بيزنطية بعد بيزنطية»، لأنّها استمرّت بعدها في الوجود ولا يزال يوجد فيها، أكثر بكثير من بيزنطية التاريخيّة، شواهد معماريّة وفنّيّة على المبادىء الروحيّة والثقافيّة والفنّيّة التي أطلقتها بيزنطية.

2- المعاناة خلال الحقبة العثمانيّة

عانت شعوب المنطقة كلّها من الاحتلال التركيّ، ابتداء من منتصف القرن الرابع عشر (1354) حتّى أواخر القرن الثامن عشر أو مطلع القرن التاسع عشر (1912)، أي أكثر من خمسة قرون. وسقطت الأمبراطوريّة الصربيّة بعد هزيمتها في معركة «بستان الشحارير» في كوسوڤو السنة 1389، وضُمّت إلى الأمبراطوريّة العثمانيّة السنة 1459. وتلتها (أو سبقتها) باقي بلاد البلقان.

مارس العثمانيّون، بخاصّة في القسم الأوّل من احتلالهم، معاملة قاسيّة جدًّا تجاه مسيحيّي البلدان المحتلّة، إذ هدموا الكنائس أو حوّلوها إلى مساجد، وحثّوا الناس عبر مضايقات شتّى وضرائب باهظة على اعتناق الإسلام. وكانت الأمبراطوريّة العثمانيّة قد أطلقت اليد للدراويش وزوّدتهم بالمال من أجل أسلمة البلاد. يقول مؤرّخ بيزنطيّ، كتب في القسم الثاني من القرن الرابع عشر: «تعتنق الإسلام جماهير من المسيحيّين يوميًّا»، ما يؤكّده المؤرّخ العثمانيّ شكر اللَّه بن شهاب الدين، في القرن الخامس عشر، قائلاً: «حلّ المؤذّن محلّ الأجراس، و«الإله أكبر» محلّ «الكيري إلياسن»، «ومحمّد رسول اللَّه محلّ المسيح». تثبت الوقائع التاريخيّة أنّ قرى بأسرها اعتنقت الإسلام، هربّا من الجزية أو سعيّا وراء المكاسب أو تحسينًا للمقام الاجتماعيّ. وهكذا أصبح فلاّحون مسيحيّون فقراء، من أبرز القادة العسكريّين والمدنيّين العثمانيّين، بعد اعتناقهم الإسلام. ولا بدّ من الذكر أنّ بعضهم اعتنق الإسلام اقتناعًا، استنادًا إلى أنّ اللَّه لا ينصر سوى الذين يرضونه، وأنّ سقوط البلدان المسيحيّة في يد المسلمين ليس سوى علامة على أنّ رضى اللَّه انتقل من هؤلاء إلى أولئك. نجح الدراويش في أسلمة سكّان البوسنا أوّلاً حيث كانت شائعة الشيعة البوغوموليّة التي تحاربها السلطات المسيحيّة. ثمّ امتدّت الأسلمة إلى بعض مناطق ألبانيا وبلغاريا واليونان وصربيا. تدلّ إحصائيّات أُجريت السنة  1520 على أنّ نسبة المسلمين في بعض المدن قاربت السبعين بالمائة أو تجاوزتها (مثلاً في سكوبييه، عاصمة مكيدونيا الحاليّة: 75%، في صوفيا، عاصمة بلغاريا: 66%). يفسّر هذا الواقع التاريخيّ أنّه يوجد في صربيا الحاليّة 15% من المسلمين، وفي ألبانيا 70%، وفي كوسوڤو 90% ، وفي البوسنا 46% وفي بلغاريا نحو 13% وفي اليونان نحو 5%.

طبّق الأتراك في كلّ هذه البلاد نظام الملّة، وجعلوا البطريرك القسطنطينيّ «الملّة باشا»، المسؤول الأعلى الدينيّ والمدنيّ عن كلّ مسيحيّيها. وكان يخضع في معظم الأحيان البطاركة الذين اعتلوا السدّة في تلك الحقبة لإرادة السلاطين، الذين كانوا يغيّرونهم عندما يشاؤون. فخلال الاحتلال التركيّ، فقط مات واحد وعشرون بطريركًا من بين 159 اعتلوا الكرسيّ البطريركيّ، موتًا طبيعيًّا، وقُتل ستّة، واستقال 27 وخُلع 105. أضف إلى ذلك أنّ جميع هؤلاء البطاركة اليونانيّين حكمًا  قد شجّعوا الهيمنة اليونانيّة في البلاد الأخرى، ما جعل كنائسها تخضع في آن لمزاج السلطان العثمانيّ أو ممثّليه والنزعة الهلّينيّة لدى البطريرك المسكونيّ. سبّبت هذه النزعة إلغاء البطريركيّة الصربيّة السنة 1577، والوقوف ضدّ استقلال البطريركيّة البلغاريّة السنة 1870، واحتجاجات مختلفة ضدّ سياسات البطريركيّة المسكونيّة وممثّليها المحلّيّين.

اقتنع العثمانيّون بعد موجة الأسلمة الأولى، بأنّه لا يمكنهم أسلمة السكّان بالقوّة، بخاصّة أنّ غالبيّتهم ظلّت مسيحيّة أرثوذكسيّة، فاكتفوا بإذلالهم والسماح لهم بإدارة شؤونهم الذاتيّة. فاتّخذت الكنيسة الأرثوذكسيّة في ضمير الأوساط الشعبيّة المسيحيّة مكانة الممثّل والمدافع عنها تجاه السلطات والساهر على تلبية حاجاتها الدينيّة والروحيّة وحتّى مصالحها القوميّة. فامتزج عندها مفهوم القوميّة والوطنيّة بالدين، واعتُبرت الكنيسة الأرثوذكسيّة، بمجرّد وجودها وتأثيرها السياسيّ، الخطّ الدفاعيّ الأوّل، ليس فقط في الأمور الدينيّة بل أيضًا في المصالح القوميّة لشعوب البلقان الخاضعة للنير التركيّ، والجسم المحافظ على الحسّ الوطنيّ في وسط مجتمع مسلم غريب. وغزّا هذا الشعور الدور الطليعيّ التي قامت به الكنيسة في تحرير هذه الشعوب من النير التركيّ. من هنا التماهي الحاليّ بين الانتماء الوطنيّ والأرثوذكسيّة في عدد من البلدان، الذي أفقد في كثير من الأحيان الكنيسة طابعها الروحيّ المحض ورسالتها الموجّهة إلى كلّ الشعوب على مدى الكون. ما يجعل الناس يعتبرون أنفسهم أرثوذكسيّين، حتّى إن لم يتعمّدوا، لمجرّد كونهم من الصرب أو البلغار أو مكيدونيّين.

3- ويلات الحقبة الشيوعيّة

لكن ما أن تحرّرت تلك البلاد من النير العثمانيّ، حتّى وقعت، بعد الحرب العالميّة الثانية تحت نير أشدّ ضراوة، متمثّل بالأنظمة الشيوعيّة. ليس المجال هنا لوصف كلّ ما عانته الكنائس في تلك الحقبة من اضطهاد. قُتل الملايين بسبب إيمانهم، هُدمت آلاف الكنائس والأديرة أو أُغلقت، شُرّد الرهبان والراهبات، مُنع التعليم المسيحيّ وبُشّر بالإلحاد، وغير ذلك من المضايقات المختلفة. فأصبح امتلاك كتاب مقدّس واحد جريمة يُحكم عليها بالسجن وأحيانًا بالموت. ما عدا ألبانيا، حيث مُنعت كلّ المظاهر الدينيّة (المسيحيّة والإسلاميّة)، لم يُسمح للكنائس في باقي البلدان الشيوعيّة سوى بإقامة الخدم الإلهيّة داخل ما بقي مفتوحًا من الكنائس. زوّرت الكتب التاريخيّة لمحو كلّ إشارة إلى المسيح، فترعرع جيلان كاملان يجهلان كلّيًّا مقوّمات الدين المسيحيّ، ولا يدينان بشيء سوى بالشعائر الوطنيّة وبقوميّاتهم. لا يحقّ لنا انتقاد موقف مسؤولي الكنائس في تلك الحقبة، الذين أيّدوا ظاهريًّا مواقف الدولة السياسيّة، ونفوا في الخارج حقيقة الاضطهاد الذي كان يصيبهم، إذ كانوا يعتقدون أنّ عليهم دفع هذا الثمن الباهظ حفاظًا على ما أُتيح لهم من حرّيّة العبادة الضيّقة. يُعتقد أنّ البطريرك فيكِنتيجي (1950-1958) مات مسمّمًا لأنّه ناهض علنيًّا سياسات تيتو تجاه الكنيسة. كما سُجن كثير من الأساقفة. وخسرت الكنيسة نحو 20% من إكليروسها، و17 من أديرتها و380 من كنائسها إضافة إلى 350 لحقت بها أضرار جسيمة، وكذلك 17 ديرًا آخر. كما خسرت كلّ مواردها من جرّاء تأميم أملاكها. أتى كلّ ذلك إضافة إلى المصائب التي حلّت بها على يد الفاشيّين الكرواثيّين «الأوستاشي» خلال الحرب العالميّة الثانية، حيث قُتل ما يقارب 700000 صربيّ. وشجّع النظام الشيوعيّ الكهنة على أن يثوروا على الأساقفة، فتجمّع العديد من بينهم في «اتّحادات كهنوتيّة» تحالفت مع النظام وقاومت حرب الأساقفة ضدّ الإلحاد وسعيهم إلى إعادة إحياء الحياة الكنسيّة أمام أعداد الصرب المتزايدة في ترك الكنيسة والتوقّف عن ممارسة أسرارها، ابتداء من المعموديّة. يُظهر إحصاء(٣) أُجري السنة 1968 أنّ 55% من الصرب أعلنوا أنّهم غير مؤمنين، وأنّ هذه النسبة وصلت إلى 74% في مونتِنيغرو. وبيّنت إحصاءات أخرى في ستّينات القرن ذاته أنّ 80% من طلاّب جامعة بلغراد أعلنوا إلحادهم، وأنّ ربع الأساتذة فقط كانوا لا يزالون على الإيمان.

4- نهضة بعد سقوط النظام الشيوعيّ

رغم ذلك كلّه شهدت الحياة الدينيّة بداءة نهضويّة تميّزت بخاصّة بالأوساط الريفيّة حيث 90% من الفلاّحين صرّحوا في إحصاء أُجري السنة 1995، بأنّهم يؤمنون باللَّه، مع أنّ طبيعة هذا الإيمان بدت سطحيّة وملتبسة، إذ قال كثيرون إنّهم يؤمنون باللَّه «لكنّهم لا يعرفون إن كان موجودًا»، وقال آخرون إنّهم يؤمنون به «لأنّ الجميع يؤمن به»، أو «لأنّ الأجداد آمنوا به»(٤). ويعتبرون أنّ يسوع المسيح هو «أوّل القدّيسين»، ولا يفقهون شيئًا في ما يخصّ الثالوث القدّوس. استخلص الباحثون من نتالئج هذا الإحصاء، أنّ الريف الصربيّ هو في طور مبهم لاسترجاع الدين المسيحيّ بعد نصف قرن من تركه. أمّا في المدن فتُظهر الدراسات التي أُجريت في أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين أنّ نسبة «المؤمنين» أصبحت بعد نهاية ثمانينات القرن العشرين نحو 60% بعد أن كانت لا تتجاوز 20% في بداءتها. وأظهر إحصاء السنة 2004  قامت به إحدى دوائر الأمم المتّحدة أنّ 75% من الشباب صرّحوا بأنّهم ينتمون إلى مذهب ما، وأظهر إحصاء آخر أنّ 81% من طلاّب المدارس يؤيّدون التعليم الدينيّ في المدارس، ما يشير إلى إرادة واضحة في اكتساب المعرفة الدينيّة التي مُنعت خلال الحقبة الشيوعيّة.

وصنّفت دراسة معهد بلغراد اللاهوتيّ إيمان الذين يعتبرون أنّهم يؤمنون باللَّه، تحت فئات ثلاث: فئة محافظة على رواسب وثنيّة تؤمن كثيرًا بالخرافات وأنواع الحلوليّة الإلهيّة وتتعلّق بخاصّة بالسكّان الأقلّ علمًا. وفئة ثانية تؤمن بنوع من الربوبيّة وتتعلّق بسكّان المدن الذين يتميّزون بنوع من التوفيقيّة الدينيّة متأثّرة بالعقلانيّة وبعض الأديان الشرقيّة. أمّا الفئة الثالثة فتُدعى «بالإسلاميّ» إذ تتسلّح بممارسة دينيّة ذات طابع «قانونيّ» متعلّق بطريقة عمياء بالتيبيكونات ومطابقة حرفيّة للقوانين وتقوى متزمّتة تعتبر أنّ اللَّه سوف يحاسبها إن لم تتمّم كلّ الطقوس بحرفيّتها.

وتذكر الدراسة أنّ قسمًا متزايدًا عن الممارسين يأتي إلى الكنائس بحثًا عن الحسّ بجماليّة الألحان والأيقونات والبخور والأداء الطقوسيّ بعامّة. وتنتهي بذكر الذين يمارسون محبّة بالمسيح وتكريمًا للثالوث ويسعون إلى فهم ما يمارسون وإلى تطبيقه في حياتهم اليوميّة.

5- بعض مطلقي نهضة الكنيسة الصربيّة المعاصرة

أهم مَن ساهم في «تنصير» هؤلاء، المطران نيقولاي فِليميروفيتش (1880-1956) والأب جوستان بوبوفيتش (1894-1979)، والبطريرك بافِل (1914-1990). تكرّس الأوّل «لتنصير» جماعات «البوغومولجيتشي» (أي الذين يصلّون للَّه) التي أُنشئت السنة 1920 كحركة النساء المسيحيّات، وثمّ تطوّرت إلى حركات عمّت الأرياف مهتمّة بالترتيل والأيتام والأعمال الاجتماعيّة، والتي تميّزت إلى نشاطها هذا بكثير من الخرافات الشعبيّة والنزعات الباطنيّة والغنوصيّة. تفهّم مصدر تقوى هؤلاء وأسّس لهم مدارس ومستشفيات في أكثر من مكان وخاطبهم بكلام إنجيليّ بسيط، تمكّن من إرجاع كثيرين إلى الكنيسة. كما وضع من أجلهم ومن أجل عامّة الصرب أعمالاً كثيرة لاقت انتشارًا واسعًا، فدُعي «يوحنّا الذهبيّ الفم الصربيّ».

أمّا الأب بوبوفيتش فكان مَن أطلق العودة إلى الفكر الآبائيّ وحركة نهضويّة في الكنيسة الصربيّة، منتقدًا ممارسات المؤسّسة في الكنيسة التي تقف في كثير من الأحيان عائقًا بين المسيح والإنجيل والناس. فاضطهده أهل البيت قبل أن يضطهده لاحقًا النظام الشيوعيّ الذي نفاه إلى دير بعيد حيث استمرّ الوافدون إليه رغم صعوبة الطرقات المؤدّية إلى الدير. فاضحى ضمير الكنيسة الحيّ وألهم كثيرين من التلاميذ الذين بدورهم «نصّروا» طلاب الجامعات وأهل المدن.

أمّا البطريرك بافِل فجسّد بتواضعه صورة بهيّة لما يجب أن يكون عليه رجل اللَّه، فأحبّه الناس وعبره أحبّوا معلّمه يسوع المسيح.

لكن يبدو أنّ تأثير هؤلاء الآباء الروحيّين الكبار بين الشباب في طريقه إلى الزوال بعد رقاد عدد منهم و«تسقيف» عدد أخر.

6- بعض نماذج عن الشباب الصربيّ

لقد تسنى لي التحدّث مع بعض الشباب التقيتهم خلال رحلتي، ومنهم راهبتان، مرشد سياحيّ، سائق السيارة التي رافقتنا خلال تجوالنا وبعض مَن كانوا في الكنيسة في يوم أحد.

قالت إحدى الراهبتين وهي في الثلاثين من العمر، إنّ والديها لم يعمّداها، وإنّها أتت إلى الإيمان أثناء دراستها الجامعيّة على يد أحد الكهنة، فتعمّدت في التاسعة عشرة. وقالت الثانية، وهي من العمر ذاته إنّها تعمّدت في طفولتها، لكنّها لم تعرف شيئًا عن الإيمان طيلة فترة شبابها إلى أن اهتدت أيضًا في الجامعة.

أمّا المرشد السياحيّ فهو غير معمّد. وبدا لنا في البدء أنّه لا يبالي كلّيًّا بأمور الدين والإيمان. وهو مرهف الحسّ الجماليّ. فقلت له أثناء مشاهدتنا جداريّات غاية في السموّ وعمارات كنسيّة فائقة الجمال إنّ الجمال له علاقة بما يفوق الطبيعة، وإنّ الذين كتبوا هذه الجداريّات أو شيّدوا تلك الكنائس لا يمكن أن يكونوا اكتفوا بإمكاناتهم البشريّة، بل حظوا بشيء آخر. فقال ماذا؟ أجبت بأنّه بالنسبة إليّ اللَّه هو مَن يُلهم الجمال. يبدو أنّه تأثّر بهذا القول، وعاد إليه أكثر من مرّة. لا أدري إنّ ساعد على تغيير موقفه اللامبالي من الدين، بل أخذ في أواخر الرحلة، يُشعل شمعة كلّما دخلنا كنيسة، ويرسم على وجهه إشارة الصليب! أيمثّل هذا الشاب نموذجًا عن الشبيبة غير المعمّدة التي تنتظر من حيث لا تدري كلمة تُوقظها إلى المعنى، وتجعلها تكتشف عبر جمالات إرثها الفنّيّ يسوع المختبئ فيه؟ لا أدري. لكن لا بدّ لي من أن أذكر ما أخبرني عن تأثّره، ولدًا صغيرًا، أمام السيارات الأميركيّة الفخمة الثلاث التي كان تقلّ البطريرك الصربيّ جرمانوس (مدّة جلوسه 1958-1990)، وكان هو وعائلته يموتون جوعًا، وأنّ هذا المشهد أعطاه، كما لكثيرين، فكرة قاتمة عن الكنيسة وممثّليها. فأخذتُ أفكّر: تُرى، كم يجب أن يوجد بطاركة، مثل البطريرك الصربيّ الراحل بافِل (مدّة جلوسه 1990-2009)، الذي كان يستعمل متواضعًا أدوات النقل العامّة، ويراه الناس مترجّلاً في المدينة، ليمحو من ذهن الناس صورة الكنيسة المتعجرفة الغنيّة المتسلّطة؟

أمّا الشخص الرابع وهو السائق، فقد خسر ابنته الشابّة انتحارًا منذ أمد قريب، وكان ممارسًا، يبحث عن سبب ما حصل معه، يتنقّل مع امرأته من دير إلى دير، راجيًا التعزية. بما أنّه لم يتكلّم لغة أجنبيّة، لا يمكنني إلاّ أن أصف موقفه الخارجيّ الذي يدلّ على الإيمان.

الممارسون

أمّا الممارسون الذين التقيناهم في الكنائس، فيُكثرون المطّانيّات وإشارات الصليب، ويُظهرون تقوى ورعة. لكن شعرت مع ذلك، أنّه يوجد لديهم بعض التعلّق الجافّ بحرفيّة الطقوس بدون الولوج إلى ما توحي به في أعماقها. لا أدري إن كان هذا الشعور يعبّر عن الواقع، لكنّه إن صحّ فهو مقلق. أيجب على الكنيسة بعد الأوضاع المأساويّة التي عاشتها في الفترتين العثمانيّة والشيوعيّة والمرحلة الحديثة، أن تلتهي بفرض الحجاب على رؤوس المؤمنات داخل الكنيسة ومنعهنّ من لبس السراويل بل إجبارهنّ على التسربل بالتنانير الطويلة، علامات فارقة للتقوى، مشدّدة على القشور بدلاً من التركيز على سرّ التقوى العظيم «الذي ظهر في الجسد وتبرّر بالروح وروي من الملائكة وبُشّر به في الأمم وأومن به في العالم وارتفع إلى المجد» (1 تيموثاوس 3: 16). وغافلة أنّ مثل هذه التصرّفات، بعيدًا عن المحافظة على الحشمة، تُظهر الكنيسة كأنّها غريبة كلّ الغربة عن العصر الذي تعيش فيه.

الكنيسة والبشارة

لا أعرف ما تفعله الكنيسة الصربيّة تجاه مثل هؤلاء الناس الذين يمثّلون أكثريّة شعبها. ما لا شكّ فيه أنّها عرفت في الفترة الأخيرة رجال كنيسة كبارًا وقدّيسين، نذكر من بينهم، إضافة إلى البطريرك بافِل، المتروبوليت القدّيس نقولا فِليميروفيتش (1880- 1956) المدعو «الفم الذهبيّ الصربيّ»، واللاهوتيّ القدّيس يوستين بوبوفيتش (1894-1979) وعددًا من الرهبان الشيوخ، أمثال القدّيسين الستارتس تدّاوس (1914-2003) وسمعان من دجالبابيه (1854- 1941) وغيرهما. لكن كما قالت لنا إحدى الراهبتين المذكورتين أعلاه، إنّ معظم الآباء الروحيّين الذين عرفتهم أصبحوا الآن مطارنة، وما عاد لهم الوقت الكافي لإرشاد الناس، وإنّ الآباء الروحيّين الأصيلين الحاليّين قلّة. وما لا شكّ فيه أيضًا أنّه يوجد كمّ كبير من الكتب الكنسيّة الصادرة باللغة الصربيّة، يُستشفّ من صور غلافاتها أنّ معظمها يخصّ رهبانًا كبارًا. ما عدا كنيسة ألبانيا، حيث وجدنا كتبًا ومنشورات تخصّ معظم أمور الحياة واهتمامات الأولاد والشباب، لا يبدو أنّ كنائس المنطقة الأخرى تهتمّ بذلك، إذ إنّ همّها الأساس التركيز على ما يُسمّى «الحياة الروحيّة» والمحافظة الصارمة على الأصوام والقوانين الكنسيّة. مع الاعتراف بأهمّيّة هذه الأمور، لا يمكن للمرء إلاّ أن يتساءل إذا كان مثل هذا التشدّد وهذه الأدبيّات تخاطب وحدها جيلاً لا يعرف شيئًا عن الإلهيّات ويعيش في لامبالاة تامّة تجاهها؟

قلّة الكنائس والعلامات المسيحيّة الظاهرة

إلى ذلك، لاحظتُ قلّة عدد الكنائس في عاصمة مثل بلغراد، ولم أرَ دومًا كنائس أثناء تجوالنا عبر القرى، كما هو الحال في رومانيا واليونان وحتّى في روسيا، بينما يوجد في كلّ تجمّع إسلاميّ جامع واحد أو أكثر، يبدو أنّ تركيا والعربيّة السعوديّة تموّلان تشييدها، كما أنّهما تهتمّان بالتعليم ونشر مواقفهما من الإسلام المتشدّد. لا بدّ من أنّ قلّة الكنائس تشير إلى شبه انعدام الممارسة الدينيّة لدى كثيرين. وتؤكّد ذلك ظاهرة أخرى هي، خلافًا لما شاهدناه في رومانيا واليونان وروسيا، عدم اعتماد النساء الصليب حول عنقهنّ.

الموقف من الإسلام المتشدّد

يقف الأرثوذكسيّون الذين التقيت تجاه ظاهرة التشدّد الإسلاميّ موقف اللامبالاة، على أساس أنّ مسلمي منطقتهم سلافيّون في الأصل مثلهم، ولا يمكن أن ينقلبوا ضدّ أهل أمّتهم. لكن، مع ذلك، بدأت تظهر هنا وهناك سيّدات محجّبات خلافًا للعادات المحلّيّة، التي طالما حرّمت مثل هذه الممارسات، كما تحرّم وضع الصلبان حول الأعناق! فلينجّهم اللَّه من الأعظم!

7- مع ذلك كلّه تشييد الكنائس الضخمة!

لا بدّ من التوقّف عند ظاهرة تتّسم بها كلّ عواصم المنطقة، ألا وهي تشييد في كلّ منها كنائس كاتدرائيّات تفوق حجمًا وعظمة معظم الكنائس الأرثوذكسيّة في العالم. فيتمّ تشييد في بلغراد، عاصمة صربيا، كاتدرائيّة القدّيس سابا الصربيّ، التي لم تكتمل زينتها الداخليّة بعد، المقامة في المكان الذي حرق فيه العثمانيّون رفات القدّيس سابا السنة 1594. وتسهم الدولة في تمويلها.

من وجهة النظر المنطقيّة، لا يتناسب حجم هذه الكنائس الجديدة مع انحسار الممارسة الدينيّة التي تعيشها هذه الكنائس. تُرى، أليس تشييدها «فشّة خلق»، وتأكيدًا على الهويّة القوميّة، وتخليدًا عبر المبنى الكنسيّ للدور الذي قامت به الكنيسة في تحرير البلاد، وتاليًا إشارة أخرى إلى الفخر القوميّ أكثر من كونها رجوعًا إلى القيم الدينيّة؟ لا يحقّ لنا الانتقاد، بل فقط الملاحظة أنّ الناس المبتعدين عن الإيمان ربّما يبحثون عن كنيسة متواضعة مثل سيّدها، لا «تشمّر عن زنودها» لتظهر عظمتها! بخاصّة أنّ بناء مثل هذه الكنائس يثير منافسة بين الأديان. فلدى الكاثوليك كاتدرائيّة في تيرانا توازي عظمة الكاتدرائيّة الأرثوذكسيّة، وقد بُنيت قبلها. أمّا المسلمون فإنّهم يشيّدون جامعًا ضخمًا مع ملحقات كبيرة، تموّله تركيا!

8- ظاهرة الانقسامات الكنسيّة الناتجة عن مفهوم مغلوط للإكليزيولوجيا الأرثوذكسيّة الراهنة

مع تحرّر الدول البلقانيّة والحصول على استقلالها، بدأت تظهر عواقب تحويل مبدأ الكنيسة المحلّيّة المرتبطة بالأرض، إلى كنيسة وطنيّة مرتبطة بالعرق. فأضحت في المفهوم الرئج (المهرطق) الكنيسة الصربيّة مثلاً كنيسة الصرب وليس كنيسة صربيا، تمتدّ رعايتها إلى كلّ الصرب حيثما قطنوا. وهكذا دواليك مع الكنيسة الروسيّة والكنيسة الرومانيّة والكنيسة اليونانيّة (بواسطة البطريركيّة المسكونيّة). رأت هذه الكنائس أن تتمسّك بالمناطق التي يسكنها أهل عرقها، ناسية أنّه لا يوجد في المسيح يونانيّ ولا أمميّ ولا عبد ولا حرّ، ومتجاهلة أنّ بعض هؤلاء موجدون في بلدان تحلّت بالاستقلال وتطالب باستقلالها الكنسيّ. فهكذا لا تعترف مجمل الكنائس الأرثوذكسيّة، مراعاة للكنيسة الصربيّة، باستقلال الكنيسة الأرثوكسية في جمهوريّة مكيدونيا التي أُعلنت السنة 1967. وربّما أيضًا مراعاة للذين يعترضون على اتّخاذ هذه الجمهوريّة اسم مكيدونيا الذي يرجع «حصرًا» إلى اليونان!

وكلك ظهرت السنة 1994 في الجبل الأسود (مونتِنيغرو)، ضمن الكنيسة الصربية أيضًا، جماعة طالبت باستقلاها الكنسيّ وإنشاء كنيسة مستقلّة هي المرجعيّة الأرثوذكسيّة في بعض المناطق منذ 2001، بينما تبقى المناطق الأخرى تابعة للكنيسة الصربيّة.

ويظهر هذا «الشطط» الإكليزيولوجيّ بخاصّة في بلاد الانتشار، حيث لكلّ «عرق» كنيسته. ولا تريد، الكنائس الأرثوذكسيّة المختلفة الاتّحاد في كنيسة محلّيّة واحدة تحافظ على جامعيّة الكنيسة وخصوصيّة كلّ أبنائها. والمؤسف المبكيّ أنّ كنيسة أنطاكية التي طالما نادت باحترام القوانين، وكانت في الماضي القريب في طليعة من نادى بقيام كنائس محلّيّة في بلاد الانتشار، دخلت في اللعبة «العرقيّة»، وخسرت ميزتها التاريخيّة في المصالحة والتقارب بين المضادّين!

بهذا ننهي الملاحظات العامّة التي تنطبق على كنائس المنطقة كافّة، في ماضيها وحاضرها وبعض تطلّعاتها إلى المستقبل. سنتوقّف في مقالة ثانية عند مظاهر الفنّ الكنسيّ في العمارة والجداريّات والأيقونات، ونلحظ كم حافظت على النمط الفنّيّ البيزنطيّ لكن مع إدخال معالم عبقريّتها الخاصّة. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search