الخدمة الكنسيّة
بين الروح والمؤسّسة
جان توما
خاض الكرسيّ الأنطاكيّ منذ العام 1942 تجارب متعدّدة في مأسسة النشاطات الكنسيّة خدمة لرعاياه، فتنوّعت هذه التجارب المؤسّساتيّة ما بين مؤسّسات تعليميّة واستشفائيّة وخدماتيّة وغيرها، في محاولة لترجمة الإيمان بالتزام شؤون الأرض. ومن المفيد خضوع هذه التجارب العملانيّة إلى التقويم ووضع جدول تصنيف لعملها لتحديد المؤسّسة الكنسيّة وتجديدها وحضور سيّدها فيها لخدمة أحبّته، بخاصّة وأنّ كلّ مؤسّسة خاضعة لمراقبة أسقف الأبرشيّة بحسب قوانين الكنيسة، وتاليًا هو المسؤول عن كلّ تدبير والمُساءَل بآن عن الوزنات من باب: «لقد رأى الروح».
- في النظام السياسيّ العامّ:
حاولت «الطوباويّة» الأرثوذكسيّة في مطلع الخمسينيّات أن تنسحب من وحل العمل المذهبيّ أو الطائفيّ معلنة «وطنـيّـة» عمل مؤسّساتها، سابحة عكس تيّار المنطقة فأخفقت، إذ من الملاحظ أنّها دخلت أخيرًا خلايا النظام الطائفيّ، ولبست لبوسه مع سعيها إلى فتح بعض المنافذ، هنا وثمّة، لشهادة على حساب تأمين فرص عمل لأبنائها، وفي عيش متناقض لمسيرة المؤسّسات العاملة طائفيًّا في البلد. اليوم وفي ظلّ العمل القائم سياسيًّا على تأصّل أصول العمل المذهبيّ عملانيًّا والتسويق له، اتّسعت الهوّة بين المؤمن الأرثوذكسيّ ومؤسّسته الوطنيّة «التي تبحث عن هويّة وطنيّة» غير متوافرة طبيعيًّا في ظلّ التيّار المذهبيّ التعصّبيّ الطائفيّ المهيمن على المنطقة.
- في القوانين الكنسيّة العامّة:
تفرمَل عمل المؤسّسة الكنسيّة الرسميّة في تطبيق نظام مجالس الرعايا الصادر العام 1973 والمعدّل في العام 1993، وظهر تراجع من صيغة «تشارك» الكاهن (نصّ 1973) إلى صيغة «تعاون» الكاهن (نصّ 1993 المعدّل)، كما بدا واضحًا غياب روح المشاركة والتعاون بين العلمانيّين والإكليروس واتّسع الشرخ، فيما غابت المجالس التي كان يمكن لها أن تحقّق هذا الحضور التشاركيّ الإيمانيّ. في غياب هذه الهيكليّة التنظيميّة برز «التسلّط» بدلاً من «السلطة»، هنا وهناك، وساد الحضور الإكليريكيّ الطاغي كما الحضور السياسيّ في القرارات العامّة.
هذا الغياب الهيكليّ للمؤسّسات جوّف مجالس الرعايا وجعل أمورها تقتصر على تأمين المخصّصات الماليّة للكهنة، في غياب خطّة عمليّة في الأبرشيّات لتأمين أبسط مقوّمات حياة الكاهن المتزوّج، أو دعم طلاّب اللاهوت المتروكين لأقدارهم بعد تخرّجهم. كما عمل بعض العلمانيّين من أصحاب المال والنفوذ على التحكّم في مفاصل بعض أمور الرعيّة، وانصراف المجالس إلى التفكير في المال لاستقامة العمل الرعائيّ، حسبما يرون انطلاقًا من أنّ المادّيّات في خدمة الروحيّات، وفي هذا خطورة إذا جنح فيه البعض، وما أكثرهم، إلى أنّ المال أهمّ من الإنسان، وأنّ المعبد أهمّ من المعبود، وأنّ المؤسّسة أهمّ من المخدوم فيها. حين تنتفخ المؤسّسة بنفسها يعني أنّ اللَّه صار خارجًا إذ لا ترى نفسها منتفخة إلاّ به وبشهادتها له، فلا عجب إن خرج «طاغور» إلى البرّيّة حيث إلهه الذي لم يجده في المعابد العظيمة البناء.
- في واقع المؤسّسات:
تنصرف بعض المؤسّسات الكنسيّة اليوم إلى منابع الواردات، تصلّفًا أحيانًا، من أجل بقائها واستمرارها، كما تبرّر، في غياب ما يجمع مؤسّسات الأبرشيّات على صعيد الاختصاص الواحد.
- على صعيد المدارس الأرثوذكسيّة:
أين مكتب المدارس الأرثوذكسيّة الذي أطلقه المثلّث الرحمة البطريرك أغناطيوس الرابع (هزيم) (1920- 2012)، (بطريركًا 1979- 2012) لبلورة الفكر التربويّ المطلوب من الكنيسة خدمة وعِلمًا؟ من يضع السياسة التربويّة في الكرسيّ الأنطاكيّ؟ هل من سياسة عامّة على صعيد الكرسيّ أم تقوم كلّ أبرشيّة بهذا التنسيق المطلوب؟ وهل تقوم الأبرشيّات بذلك؟ هل مفهوم إقامة المدارس يخضع فقط لمنطق التربية، أم هناك أهداف أخرى كتأمين فرص عمل لأبناء الرعايا ليبقوا في أرضهم ووقف نزف النزوح والهجرة؟ هل ما وهبه الأجداد والآباء من أوقاف لقيام مدارس يخضع لمقياس تكديس المال أم لنشر العلم وتطوير البيئة؟
- على صعيد الجامعات الأرثوذكسيّة:
سوف تنشأ بحكم الواقع الذي يعيشه كرسيّنا، بغياب الرؤية المؤسّساتية الواحدة، جامعات أرثوذكسيّة متعدّدة خاصّة كما تفعل الرهبانيّات في الكنائس الأخرى، ما يستدعي منذ الآن وضع ترتيب بروتوكوليّ مستقبليّ جامعيّ أرثوذكسيّ. وقد انتشرت المعاهد الجامعيّة والتقنيّة منها في مختلف الأبرشيّات وامتدّت إلى خارج لبنان. هذه شهادة جديدة ولج إليها الكرسيّ الأنطاكيّ العام 1988 مع المثلّث الرحمة البطريرك أغناطيوس (هزيم) في تأسيسه جامعة البلمند ويتابعها غبطة البطريرك الحاليّ يوحنّا العاشر (يازجي) (انتخب بطريركًا العام 2012). تتوسّع الخدمة الجامعيّة اليوم مع مطران أبرشيّة بيروت سيادة المتروبوليت إلياس (عودة) (انتخب مطرانًا العام 1980) في جامعة القدّيس جاورجيوس الأرثوذكسيّة في بيروت، وغدًا مع غيرهما في ظلّ حرّيّة التعليم الجامعيّ في لبنان.
- على صعيد المستشفيات والمراكز الصحّيّة:
استطاع مستشفى القدّيس جاورجيوس (تأسّس العام 1878) أن يصبح من المستشفيات الرائدة على صعيد الخدمات الطبّيّة المتطوّرة. غدًا سيحذو حذوه مستشفى سيّدة البلمند الجامعيّ العتيد، إضافة إلى عشرات المستوصفات الصحّيّة التي ترعاها الأبرشيّات في الرعايا المتنوّعة، إما باستقلاليّة أو بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعيّة. ولكن أين هي الخطّة الصحّيّة الشاملة المعتمدة على صعيد الكرسيّ لهذا البرنامج الطبّيّ الرائد الذي تقوده الكنيسة؟
- على صعيد بيوت المسنّين:
تنتشر بيوت الراحة للمسنّين في مختلف الأبرشيّات ولكن ما هي البرامج المعتمدة في رعايتهم وفي توفير أساليب الرعاية الناشطة؟ هل تخضع بيوت الراحة الأرثوذكسيّة لمساءلات من المختصّين والعاملين في طبّ الشيخوخة؟ هل تستفيد هذه البيوت من التطوّرات وخدمات المعالجة النفسيّة والفيزيائيّة ومختلف المعالجات في عمليّة الرعاية المختصّة؟ هل تستفيد الهيئات العاملة في هذه البيوت مع بعضها البعض من مختلف الأبرشيّات من خبراتها المتراكمة، لتوضيح الصورة الأوضح في هذه الرعاية الأساسيّة التي تصدّت لها الكنيسة لتخفيف وجع الشيخوخة ولحياة كريمة؟
6- على صعيد المياتم:
هل بقي عندنا في الكرسيّ مياتم؟ وهل تواكب في حال وجودها التطوّر الحضاريّ والإنسانيّ في رعاية من فقد والديه؟ هل تستفيد مؤسّساتنا من تجارب «قرى الأطفال» وغيرها على هذا الصعيد؟ من يهتمّ بهؤلاء وهم كثر في أبرشيّاتنا بخاصّة بعد الحروب والتهجير وما شابه من حالات اجتماعيّة صعبة؟
- على صعيد التجديد:
كيف تقول كنيستنا الرسميّة لشبابها: «إنّي معكم في كلّ أوقاتكم: في وسائل اتّصالاتكم الاجتماعيّة؟ التويتر؟ الانستغرام وغيرها؟». ما هي البرامج الكنسيّة الواعدة بلغة الشباب؟ من يجيب الشباب عن تساؤلاتهم وتحدّياتهم المعاصرة اليوميّة؟ هل من خطّ كنسيّ ساخن يتّصل به الشباب ليقفوا على رأي كنسيّ في ما اختصّ بالتحدّيات الكاسحة؟
هل تعمد الكنيسة الرسميّة إلى تأليف لجان تتفهّم قضايا الأطفال والشباب؟ لماذا لا نضع طقسًا لاحتفاليّة مجّانيّة في كلّ رعية أو أبرشيّة لطالبي سرّ المعموديّة؟ لماذا لا تعمد الكنيسة إلى وضع ترتيب طقسيّ تقليديّ للراغبين في أن يفتتحوا موائد أفراحهم لمناسبة الزواج ببركة الكنيسة، كيلا تغيب عن لقاء الجماعة الاجتماعيّ بعدما تمّ سرّ الزواج المقدّس في بناء الكنيسة وفقًا لقرارات المجمع المقدّس؟ لماذا لا تعمد الكنيسة إلى تنظيم أعراس جماعيّة دعمًا لزواج الشباب في هذه الضائقة الاقتصاديّة، إن لم نتحدّث عن المساهمة في بناء بيوت لبناء عائلات مؤمنة؟ وماذا عن تشجيع الكنيسة الرسميّة لقيام رهبنات متجدّدة خارج الأديار لخدمة الأرامل والعجزة والعائلات في البيئة الرعائيّة؟ وماذا عن دعم استعادة رتبة الشمّاسات والشمامسة التاريخيّة العاملين والمكرّسين لخدمة المتألّمين ورعايتهم؟
صحيح أنّ العمل كثير والفعلة قليلون، ولكنّ الأمل وحده لا يكفي في غياب التكامل بين الراعي والرعيّة، بل في قبول الآراء المتعدّدة بحرّيّة والابتعاد عن الإيمان بأنّ «الجبّة» وحدها تصنع قدّيسين، وأنّ الزّي العلمانيّ يطوّب لابسه ملاكًا، وهنا يصحّ قول خليل رامز سركيس في المطران جورج (خضر): «الرجل لم تصنعه جبّته».
قد لا يكون هذا المقال قد أتى بجديد، فهو أفكار مكرّرة في الأدب الحركيّ المنشور، وستبقى تتكرّر كيلا يخفت الصوت النبويّ وكي يبدو الأمل، كما يقول أدونيس، «خيّاطًا يفتّق الليل ويرتق النهار». n