أنطاكية
نقولا أبو مراد
كانت الحرب اللبنانيّة في أصعب مراحلها حين بدأت أعي الحياة في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي. كانت بقعتي الآمنة لا تتجاوز حدود قرية صغيرة على سفوح جبل لبنان. لم أكن أعرف، وأنا في مستهلّ مراهقتي، سوى طريقين: الطريق إلى كنيسة يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في وسط البلدة، والطريق إلى بيت جدّي من جهة أمّي. أبي أرثوذكسيّ وأمّي مارونيّة. وبحسب عادات الشرق، نشأت على مذهب والدي. في ذلك الحين، لم أكن أعرف عن الروم سوى أنّهم أقرباء أبي، وعن الموارنة سوى أنّهم أقرباء أمّي. هذه أوّل فُرقَةٍ بين الناس تسرّبت إليّ وأنا وَلَد.
رغم المداعبات المغيظة لهذا أو ذاك من أقرباء أمّي وأبي من جهة «طبيعتي الطائفيّة الهجينة»، كانت أجمل لحظاتي، والتي لا أزال إلى اليوم إذا افتكرت بها، أستعيد تلك المشاعر الطفوليّة الكثيفة، أن أقف إلى جانب جدّتي لأبي في خدمة مديح العذراء، التي تقام كلّ يوم جمعة خلال الصوم الكبير، غارقًا في تموّجات التراتيل وبحرٍ من عطر البخور الشرقيّ، وإلى جانب أمّي في كنيسة مار أنطونيوس للموارنة يومَ الجمعة العظيمة تسحرني بساطة التراتيل وجماليّتها، إلى أن شدّتني الموسيقى الكنسيّة واستحوذت عليّ.
فتعلّمت، وأنا في السابعة من عمري، أسسَ الموسيقى البيزنطيّة، وهكذا بدأ مشوار لا أزال فيه في جماليّات الشرق المسيحيّ في أبعاده البيزنطيّة وغير البيزنطيّة، أخذني من الموسيقى إلى مدارس الأحد، فدراسة اللاهوت والكتاب المقدّس، فالتعليم اللاهوتيّ.
لم يكن أمامنا، أنا وأترابي في القرية، إبّان تلك الحرب المقيتة، إلاّ أن نذهب إلى الكنيسة ونملأ حياتنا بما كنّا نقوم به في ساحتها. فيها كنّا نلعب صغارًا ويافعين. وفيها كنّا نلتقي فرقًا لنسمع إرشاد مَن قرأ قبلنا كتابًا دينيًّا. ومنها أيضًا كنّا ليلاً نراقب الخطوط الحمراء التي كانت ترسمها الطلقات الناريّة في السماء بين جبهة وأخرى، في منطقةٍ ليست أوسع من أن يسيرها إنسان في ساعات، ولكنّ البعد بين المتقاتلين فيها كان يُقاس بالسنوات الضوئيّة. والواقعُ أنّه لا الحربُ اللبنانيّة ولا الخوف الذي كان يخيّم علينا يوميًّا، لم يتمكّنا من أن يُطفئا غيرةً تولّدت لدينا وقد انضمّينا إلى صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وأنشطتها، ولا سيّما فرق مدارس الأحد التي فيها تعلّمنا ألف باء التعليم الكنسيّ. كان جورج خضر، مطران جبل لبنان حتّى أشهر خلت، وأحد ألمع مفكّري الكنيسة الأرثوذكسيّة والمسيحيّة المشرقيّة في القرن العشرين، قد أسّس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مع بعضٍ من رفاقه في كلّيّة الحقوق في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، بدء أربعينيّات القرن الماضي. وكان أساس مبادرتهم ما عرفوه، شبابًا، من تقهقهر في كنيستهم على صُعُدٍ شتّى، رعائيّة وتعليميّة واجتماعيّة وسياسيّة. لم تكن حقبة الاحتلال العثمانيّ لبلدان الشرق الأوسط سهلةً على كنيسة أنطاكيّة الأرثوذكسيّة. فقد عَرَفَت فيها، رغم التماعاتٍ هنا وثمّة في أديارها، وعند بعض أبنائها، آثارَ التبشير الغربيّ وتدخّلات دول الغرب، ولا سيّما فرنسا وبريطانيا، في أحوال الأمبراطوريّة العثمانيّة إلى حين سقوطها. ففي القرن الثامن عشر انفصل بعض رعاتها لتنشأ معهم كنيسة الروم المتّحدة بالبابويّة، وفي القرن التاسع عشر، تمكّنت الإرساليّات البروتستانتيّة من انتزاع عدد لا بأس به من أبنائها.
وكان هذا طبيعيًّا في ظلّ جمود فكريّ ورعائيّ ينسبه كثيرون من قرّاء تلك الحقبة، جزئيًّا، إلى سيطرة الإكليروس اليونانيّ على أبرشيّات أنطاكيّة في سورية ولبنان، ما خلق تباعدًا ثقافيًّا وسبّب توتّرًا في العلاقة بين الرعاة والرعيّة. ورغم اعتلاء أسقف محلّي عرش أنطاكية السنة 1899 للمرّة الأولى بعد قرون، لم تسمح الحربان العالميّتان، وما نتج من واقع سياسيّ استجدّ بعد سقوط السلطان العثمانيّ، لكنيسة الروم بأن تنهضَ كما نهضت غيرها من الكنائس بدعم دول أوروبّا وبعثاتها القنصليّة وإرساليّاتها الدينيّة ومساندتها، تجسّدا في إنشاء كبرى جامعات لبنان، جامعة القدّيس يوسف الكاثوليكيّة، وجامعة بيروت الأميركيّة البروتستانتيّة. وكان اكتشاف شبيبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، ومنهم جورج خضر، واقع كنيستهم مقارنةً بما عرفوه عند الكنائس الأخرى وخبروه من غنى معرفيّ وعلميّ وحضور اجتماعيّ، هو الذي دفعهم إلى أن يعملوا على إعادة اكتشاف تراثٍ كبير وغنيّ ميّز كنيستهم في عصورها السابقة. تأسّست فرق دراسيّة في الرعايا. وقرأ الشباب الكتاب المقدّس، وعادوا إلى أدبيّات آباء الكنيسة، وأدركوا غنى الليتورجيّات الحاملة في أشكالها وتعابيرها قلب التعليم الكنسيّ. استلهموا لاهوتيّين أرثوذكسيّين معاصرين من المهاجرين الروس في فرنسا وأميركا ولاهوتيّين من رومانيا. وبسرعةٍ استطاعت حركتهم أن تُحدِث تغييرًا في واقع الكنيسة. تكثّف في الرعايا التعليم الكنسيّ. وخرج رعاة يعظون. وكبرت الحماسة عند الناس على المشاركة في الخدم. وعرفت الستّينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي انفتاح أنطاكية المسكونيّ بتأسيسها وانضمامها إلى الحركة المسكونيّة في مجلس الكنائس العالميّ، وتعاضد حركتها الشبيبيّة مع حركات أخرى مماثلة في العالم الأرثوذكسيّ. وبعدَ فترة طويلة من غياب أيّ تنشئة جدّيّة للكهنة واللاهوتيّين في أنطاكية، تأسّس معهد لاهوتيّ على مستوى جامعيّ في دير البلمند التاريخيّ أواخر الستّينيّات، وكان وراء تأسيسه مَن طَبَعتهم النهضة الشبيبيّة بروحها، وطبعوها هم بغيرتهم وأمانتهم لما أرادوا تحقيقه، أي ألاّ تكون الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة مركبًا متروكًا لأمواج الحداثة بأبعادها الشتّى، بل أن تضع هي أيضًا بصماتها على بنيان الحداثة هذا لما لها من إرثٍ، يعود حتّى إلى الكتاب المقدّس، حيث القول إنّ التلاميذ سمّوا فيها مسيحيّين أوّلاً (أعمال 11: 26).
أخذتنا فِرَقُ حركة الشبيبة من قريتي اللبنانيّة الصغيرة إلى مطارح واسعة. عرفنا أديار الكنيسة الأنطاكيّة في لبنان وسورية. وبعد طول انقطاعٍ في الحياة الرهبانيّة التي ميّزت المسيحيّة المشرقيّة في تاريخها، رافَقَنَا في الأديار آباء روحيّون تعلّمنا منهم الكثير. أديار مهجورة ومهدّمة عادت إلى الحياة، وجديدةٌ أُنشِئَت. وشهدنا هذه العودة في صبانا. لم تكن فقط عودة بشرٍ إلى أبنية، بل عودة روح وتراث إلى جسدٍ أرهقته الرتابة الشكليّة. تردّدتُ كثيرًا ولسنوات إلى ديرٍ في أعالي جبل لبنان يحتضنه صخر عابق برائحة ورق الصنوبر اليابس والصعتر البرّيّ وإكليل الجبل، نسكَ فيه بعد هجرٍ طويلٍ راهبان. في قلّاية صغيرة خُصّصت لي قرأت الأدب الروحيّ لرهبانٍ لمعوا في سورية والعراق في الألف الأوّل. وكان أحد الناسكَين يرافق قراءتي، ورافق إطلالاتي الأولى على حياة الكنيسة. كنت واحدًا من كثيرين مثلي وفي سنّي سحرهم النُسْكُ، وكان لهم نافذةً منها تتراءى أمام أعينهم مسيحيّةٌ يحلمون بأن يحيوها حتّى الصميم. مارسنا الصومَ. وكنّا نتهافت إلى حضور سهرانيّاتٍ في هذا أو ذاك من الأديرة نتلمّس فيها حلاوة الشعر الليتورجيّ ممزوجًا بألحانٍ من بيزنطية القديمة، وأصواتٍ خاشعة، وناقوسٍ شرقيّ يقرع بين الحين والآخر. هذا الذي أحسسناه حينها أَسَرَنا حتّى الامتلاك، ولا يزال.
وقادتني بعد ذلك الطريق التي مرّت بدير مار ميخائيل إلى شمال لبنان، إلى منطقةٍ اسمها الكورة، ارتبط اسمها بدير البلمند التاريخيّ الذي بناه رهبان السيسترسيان في زمن الحروب الصليبيّة. بعد هزيمة الصليبيّين في الشرق، خلا الديرُ قرونًا. ثمّ انتقل إلى الرهبان الأرثوذكس في القرن السابع عشر. تمّ توسيعه وإغناؤه بمكتبة كبيرة وبأولى المطابع في لبنان والمنطقة. تُرجمَت فيه كتابات آبائيّة. وخُطَّت مخطوطات ليتورجيّة. واشتمل الدير على مجموعة غنيّة من أيقونات رسمها فنّانون محلّيّون من حلب، شكّلت مدرسةً للرسم الأيقونيّ تميّزت بخطوطها وألوانها وموضوعاتها. إلى جانب هذا نشأت حول الدير وعلى امتداد محيطه حركة اقتصاديّة أساسها إنتاج الزيت والزيتون أفادت المزارعين المسيحيّين منهم والمسلمين الآتين من الكورة وطرابلس. في التقسيمات الإداريّة كما وضعها العثمانيّون، كانت منطقة الكورة أكبر تجمّع أرثوذكسيّ في لبنان. اللافت في مثال دير البلمند أنّه شاهد في آنٍ معًا على سقوط الحروب الصليبيّة التي كانت عواقبها سلبيّة على الشرق بمسيحيّيه وغير مسيحيّيه، وعلى أنّ ما ينبغي أن يبقى في التاريخ ليست آثار العداء بل بصمات الفعل الثقافيّ والحضاريّ التي لا يتركها إلاّ مَن شاؤوا للإنسان أن ينمو في الغنى الروحيّ والثقافيّ.
هُجِرَ دير البلمند بين الحربين العالميّتين وبعدهما، إلى أن أتاه في الستّينيّات أسقف اسمه إغناطيوس، صار في ما بعد بطريرك أنطاكية (1979 – 2012). أعاد بناء الدير. افتتح فيه مدرسة إكليريكيّة سرعان ما أصبحت مركزًا لتدريب الكهنة والعاملين في الحقل الكنسيّ في الشرق. وبهمّة هذا الأسقف صاحب الرؤية التربويّة غير المسبوقة في التاريخ الحديث، أُنشِئ معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ، ثمّ جامعة البلمند، التي أرادها البطريرك المؤسّس أن تشهد للإيمان الأرثوذكسيّ في تعبيره الأنطاكيّ، ليس بالبشارة بمعناها الكلاسيكيّ، بل في إهداء أبناء الشرق على اختلاف انتمائهم صرحًا علميًّا يحثّهم على التعايش والسلام والانفتاح على الآخر. كان هذا حلمه بالأقلّ. ذلك بأنّ هذا البطريرك الطالع من حلقات حركة الشبيبة، خرج كرفيقه جورج خضر، من محدوديّة الطائفيّة والملّة كما فرضتها السلطنة العثمانيّة على مذاهب الشرق وفئاته المجتمعيّة والإثنيّة، إلى الإنسان بكونه إنسانًا. للمرّة الأولى ينشأ، في أرجاء دير البلمند، خطابٌ يعلو على الطائفيّة والمذهبيّة والفئويّة التي أشعلت لبنان، ولا تزال تشعل بلدان الشرق الأوسط برمّتها. الأديان لقاءٌ وليست تباعدًا. هكذا قال البطريرك الأنطاكيّ، وعلى هذا الأساس تصرّف. تحدّث عن حوار الحياة، الذي يسمو ويتجاوز حوار الفكر والعقيدة. حوار الحياة أن تلتقي والإنسان الآخر، إلى أيّ دين أو طائفة انتمى على هموم الحياة ومشكلاتها، لتسير أنت وهو على سبل السلام والحقّ والعدل، ليشرق اللَّه في عملكما وتعايشكما.
التحقت بمعهد البلمند اللاهوتيّ في السنة عينها التي تأسّست فيها جامعة البلمند (1988). حضور البطريرك الكثيف ومرافقته لبناء الجامعة أتاحا لي ولأترابي فرصة الالتقاء بصاحب رؤية ونحن في مطلع الشباب ونتعلّم منه ومن تواضع حياته معنى أن يكون الإنسان عظيمًا، إلى أن افتقده اللَّه شيخًا تدين له أنطاكية بأنوارٍ مسحت جبينها في تاريخها الحديث. عُدنا في الفكر إلى أنطاكية القرن الرابع. إلى مدرسة التفسير الكتابيّ المتميّزة بنظرتها إلى الإنسان في وجوده وتخبّطه في تاريخه بتعرّجاته، كما أرسى أسسها الذهبيّ الفم وثيوذوروس وثيوذوريتس وإسحق السريانيّ وغيرهم من الكبار. لا تشهد تأسيس صرح علميّ كلّ يوم. كَبُرَ الصرح وكنّا نكبر معه، ونرى فيه كلّ يوم ما نراه في أنفسنا من جدّة، ورأينا فيه أيضًا ما نراه في أنفسنا من ضعفات. درسنا على مؤسّسي معهد اللاهوت وجيل خرّيجيه الأوّل. تعرّفنا عبرهم على ما يدور في العالم اللاهوتيّ من نقاشات. انطبعت شخصيًّا بمدرّسي الكتاب المقدّس. منهم أطللت على المدارس التفسيريّة الحديثة بتشعّباتها وروّادها من المفسّرين، وبغثّها وسمينها. أمور سمعناها للمرّة الأولى. كسرت فينا الرتابة وحرّكت فضولاً لمعرفة المزيد. أوّل احتكاك مع التنوير الأوروبّيّ في أرثوذكسيّة تتلمّس طريقها نحو مخاطبة الإنسان بلغته وعصرنته.
خلال الدراسة عرفنا المسكونيّات. في إطار مجلس كنائس الشرق الأوسط ورابطة كلّيّات اللاهوت في الشرق الأوسط التقينا نظراءنا من الطوائف الأخرى. اجتمعنا على مواضيع. وصلّينا معًا ورتّلنا في مناسبات. أدركنا أنّ المسيرة لا تسيرها وحدك، بل مع آخرين. ذلك قدر الشرق، صليبه وغناه في آن. لم أرَ حقيقة أخرى إلى الآن ولن أرى. وزادت قناعتي بعد إقامتين دراسيّتين طويلتين في بريطانيا وألمانيا نلت في نهايتهما شهادة الدكتوراه في اختصاص العهد القديم في جامعة بروتستانتيّة في ألمانيا. هناك حضرَت أنطاكية القديمة والحديثة في حياتي اليوميّة. إحدى الكنائس المحلّيّة البروتستانتيّة التي استضافت دراستي أقامت علاقة صداقة مع كنيستي الأنطاكيّة. في إطار هذه الصداقة تحدّثت في لقاءات إلى أصدقائنا الألمان عن ليتورجيّتنا وتاريخنا وعلاقتنا بالإسلام وخبرتنا في التعايش في علوّه وهبوطه.
في اهتمامهم ومحبّتهم تعلّمت أنّ ما نسمّيه تباعدًا بين المذاهب ينشئه كبرياء الإنسان وأنانيّته. دعوتنا أن نحقّق وحدة في تنوّعنا، فالوحدة تصير تماهيًا فارغًا لو خلت من عناصر الاختلاف والتنوّع والتعدّد. على أن ينظر في المسائل العقائديّة بمحبّة كبيرة وحوار صادق ومنفتح إلى أقصى الحدود، أن تكون أرثوذكسيًّا أو بروتستانتيًّا أو كاثوليكيًّا لا يعني أن تدّعي امتلاك الحقيقة، بل أن تحيا وفقها وأن تسعى إليها وتبقى هي أمام عينيك دعوةً إلى المنتهى. في مسعاك تلتقي بالآخر المختلف وتحبّه ويحبّك كما أحبّ المسيح كنيسته ورفعها من غضنها لتصير له عروسًا. الكنيسة العروس هي تلك التي ينشئها الله من محبّيه والعاملين بكلمته أيًّا كانوا وإلى أيّ مشرب انتموا، ولا ننشئها نحن من ذواتنا دون الآخرين. قال يوستينوس الشهيد في القرن الثاني إنّ الحقّ مزروع كلماتٍ متناثرة في الناس، تحيا إن هم حيوا. ودعانا جورج خضر إلى أن نوقظ المسيح النائم في ليل الحضارات، فنرى في الجماليّات المنزّلة على الإنسان في الكون كلّه وجه الله والمسيح المصلوب. تلك هي الدعوة.
في ألمانيا وبعدها واصلت قراءة الكتاب الإلهيّ الذي بدأت قراءته وأنا طفل في نسخة دفعها إليّ جدّي تكبرني بسنوات. وفي الكتاب عينه قرأت بعد عودتي إلى البلمند أستاذًا للعهد القديم، لأخاطب من حلّوا على مقاعدي ومقاعد أترابي لـمّا كنّا تلاميذ. عبرهم أخاطب نفسي وأسمع ويسمعون أنّ هذه الدعوة إلى إنسانيّة على صورة الله دعوة تغلب الفرقة وتعلو على الجراح التي سبّبها الإنسان في مسيرته التاريخيّة المفعمة بالغرور والكبرياء والعداء والحروب. قرأت وإيّاهم ما قصده لوقا حين قال في أعمال الرسل: «إنّ التلاميذ دعوا مسيحيّين في أنطاكية أوّلاً». أنطاكية في أعمال الرسل هي المدينة التي خرج إليها التلاميذ بعد اضطهادهم واستشهاد إستفانوس. وعلى أساس هذا الاضطهاد وشهادة إستفانوس بشّروا من فيها من يهود ويونانيّين الذين التقوا على كلمة الله يسمعونها ويعملون بها دونما تمييز بينهم أو عداء. ومنها أطلّوا على فقراء أورشليم يعزّونهم بمعوناتٍ في زمن الضيق. منها أيضًا خرجت البشارة إلى الأرض وأقاصيها. أنطاكية إذًا ليست جغرافيا. أنطاكية الكتابيّة دعوة إلينا وإلى المسيحيّين في كلّ الأمداء وإلى البشر أجمعين ليخرجوا من أنانيّتهم وفئاتهم وعنصريّاتهم، ويلتقوا على محبّة الآخر المعذّب. عندئذٍ يصير الإنسان إنسانًا وتتحقّق فيه صورة الله الذي أحبّ العالم حتّى الموت، وتجلّى في آخر الزمان في صورة الحمل المذبوح.
كيف نحقّق هذه الدعوة اليوم، والشرق يتعذّب ووجه المسيح مجروح كلّ يوم في وجوه من يُقتَلون ويُهجَّرون وتستباح حرّيّاتهم وحياتهم في بلادنا. ليس المسيحيّ الشرقيّ وحده بحاجة إلى الحبّ، بل كلّ إنسان في الشرق. والعالم بحاجة إلى أن يتعلّم الحبّ. والحبّ الحقيقيّ أن تخضع نفسك للحقّ والعدل والرحمة. هذه تأتي من اللَّه الذي عرفناه في وجه المعلّق على خشبة. كلّ حركة المسيحيّة في شرقها وغربها ومذاهبها إن لم ترَ في الصليب غايتها حركة فارغة.
ما رويته لكم ليس تاريخ كنيسة أنطاكية، بل مشواري الذي لم يكتمل على بعض دروبها. كلّنا يحمل على كتفيه إرثًا كبيرًا نعتزّ به. غير أنّ مسيحنا حمل صليبه إرثًا، حمله عنّا. نحمله عنه نحن هنيهات حتّى تكتمل الدعوة، ونرى المسيح آتيًا من الشرق كالشمس ليضيء ظلمات تواريخنا ويرفعنا إلى مجد وجهه الأزليّ.n