2018

2. خاطرة: الربّ معنا! - الأب إيليّا (متري) – العدد السادس سنة 2018

 

الرب معنا

الأب إيليّا متري

 

فتاة غاية في الرصانة والاتّزان، أحبّت شابًّا حبًّا شديدًا، فارتبطت به. في أثناء خطوبتهما، اكتشفت أنّه عنيف (ضربها مرّتين!). ولكنّها لم تحاول أن تفكّ علاقتها به. قالت إنّ محبّتها له لا بدّ من أن تغيّره. بعد زواجهما، صدمها أنّه لم يبقَ هو إيّاه، بل زاد عنفًا! التزمته أمام اللَّه، صباح مساء. وزاد على صدمتها أنّ صلاتها لم تنفعه. أخذتْ موقفًا من اللَّه (الذي لم يساعدها على تغييره!). لم تقل، مثلاً، إنّه مَن أراني، قَبْلَ زواجنا، أنّني أحبّ رجلاً عنيفًا. لم تفحص إن كانت صلاتها واثقة. قالت: إنّ اللَّه هجرني!

هذه واحدة من قصص كثيرة تبيّن أنّنا لـمّا نرتقِ كلّنا بأجمعنا إلى وداعة المسيح. هنا، في هذه السطور، لن أتكلّم على شرّ العنف الغبيّ البارز في هذه القصّة، بل سأحصر نفسي في التعليق على هذه البدعة (المعروفة عمومًا) التي أظهرتها مَن ذكرت قصّتها بقولها تردادًا: «إنّ اللَّه هجرني».

أن نحسب أنّ اللَّه يهجرنا، أو أنّه المسؤول عن كلّ شرّ يصيبنا، هذا كثيرون باتوا يردّدونه بثقة جارحة. فكثيرون أخذوا يفسّرون اللَّه على هواهم. على هواهم، أي لا يأتون من تراثنا الحيّ وخبرة البرّ. وهذا، هجرًا حقيقيًّا، يرسم صورًا عن اللَّه لا علاقة له بها، وتاليًا يشوّه كلّ حياتنا في المسيح.

في تراثنا، ثمّة أمرٌ قامت عليه خبرة البرّ في التاريخ، أي أنّ: «الربّ معنا». هذا لا يحصره إيماننا بأنّ يسوع إلهنا مرّ من هنا في حياته في البشرة (تجسّده من مريم وحياته إلى موته وقيامته ورجوعه ممجّدًا إلى اللَّه أبيه). فالربّ معنا، أي إنّه، بفعل تنازله الخلاصيّ، بات رفيقنا الدائم على دروب حياتنا. وإن قلنا رفيقنا الدائم، لا نعني أنّه رفيق الصالحين بيننا والذين نحسبهم يستحقّون أن يكونوا معه، بل رفيق كلّ إنسان، أيًّا كانت علاقته باللَّه أو إيمانه به أو رأيه في تدبيره. فاللَّه قرّر أن يتنازل إلينا جميعنا. وهذا ينفي أن يرتضي (هو) أن يقبل بعضًا، ويأبى سواهم. وإذا دقّقنا في خبرة تراثنا، لَوجدنا أنّ اللَّه، إن أراد أن يقبل بعضًا قبولاً خاصًّا، لَاختار الذين يُحسَبون، في رأي معظم الناس، لا ينفعون شيئًا. ألم يُلقَّب يسوع بأنّه «صديق الخطأة والعشّارين» (لوقا 7: 34)؟ وألم يقل رسوله عن اختيارات اللَّه: «ما كان في العالم من حماقة، فذاك ما اختاره اللَّه ليخزي الحكماء. وما كان في العالم من ضعف، فذاك ما اختاره اللَّه ليخزي ما كان قويًّا. وما كان في العالم من غير حسب ونسب وكان محتقرًا، فذاك ما اختاره اللَّه» (1كورنثوس 1: 27 و28)؟!

لا أبتدع إن ذكرت أنّنا، إن شعرنا بأنّ اللَّه بعيد عنّا، فما يفيد قلوبنا كثيرًا أن نطرح سؤالنا عن غيابه على أنفسنا. أن نبادر إلى اتّهام اللَّه، هذا لا يستقبحه تراثنا فقط، بل يجعلنا قبيحين أيضًا. تراثنا يريد أن نبقى واعين أنّ اللَّه يذكّرنا بنفسه في غير حال، أي أن نعي أنّنا له، أي أنّه فوق الفحص دائمًا.

لِمَ اللَّه هو فوق الفحص دائمًا؟ الجواب هو: لأنّه أحبّنا حتّى الموت. فَمَن تنازل إلى أن يرسل ابنه الوحيد ليموت عنّا، عنّا جميعًا، لا نفحصه، أي لا نسأله إثباتًا جديدًا على حبّه لنا.

معنى ذلك أنّ اللَّه، الذي يظهر لنا أنّه لا ينفكّ يبادر إلينا (بأن يجعلنا نشعر بقربه أو ببعده)، إنّما يذكّرنا بنفسه، لنحوز وعيًا أبديًّا أنّنا لا شيء من دونه. هذا من مدى المعركة ضدّ الخطيئة التي قرّر اللَّه أن يخوضها، لنسترجع أنّنا له، وتغدو (أنّنا له)، في قلوبنا، قناعةً وحيدة. من مدى المعركة، أو مدى المحبّة، المعنى واحد. لا شيء، يعني اللَّه، يفوق أن نعرف أنّه يحبّنا. وهذه المحبّة الإلهيّة ليست مثلها محبّة، إن وعيناها فعلاً، تعطي حياتنا طَعمًا. وهل ثمّة ما يحيي غير وعينا أنّنا محبوبون؟ هذا نبع الخير في الكون.

هذا يمهّد إلى القول إنّ ثمّة، في تراثنا، فرقًا شاسعًا بين ما يعرفه اللَّه وما يريده. اللَّه كلّيّ المعرفة، ولكنّه لا يريد لنا سوى خلاصنا. أيًّا كان ما نشعر به في علاقتنا معه، يجب أن نعيده إلى هذه الإرادة فقط. يحبّنا، أي يريد لنا الخير كلّه. يحبّنا، أي يريد خلاصنا دائمًا. يحبّنا، أي لا يمكن أن يتنازل عن محبّته لنا، أيًّا كنّا، وأيًّا كان ما نشعر به نحوه، أو موقفنا منه. فاللَّه، الذي لا يمكن أن يعامل أولاده وفق ما يستحقّونه، لا يمكن أن يترك أحدًا منهم، ولا يمكن أن يهجر أحدًا منهم، أي لا يمكن أن يتخلّى عن أبوّته لأيّ سبب كان.

لا أجزم، بل أتكهّن أنّ اللَّه، إن رضي، مثلاً، أن ترتبط فتاة، سبق وصفها، برجل سبق وصفه، فربّما (أقول: ربّما)، ليعطيه فرصة أن يخلص، أي أن يترك العنف، ويختار السلام حياةً له. قلنا ما يعني أنّ اللَّه لا يمكن أن يغفو على أرائك الذين ثبت عنده إخلاصهم، بل يبقى يقلقه أمر أولاده الآخرين الذين باعوه لقاء لا شيء. وإن قلت، تكهّنًا هنا، إنّه يريد خيرًا لواحد من الذين باعوه، فلئلاّ ألزم أحدًا بأن يتحمّل العنف. كلّ ما في الحياة الجديدة، قرارٌ شخصيّ. إن حلا، إذًا، لواحد أن يقرأ موقف اللَّه وفق ما تكهّنته، فلا أحد يقدر على منعه! فاللَّه، الذي يصبر كُرمى لنصطلح، يحبّ كثيرًا أن نسعى، في حياتنا، إلى أن نتمثّل به. اللَّه يريدنا أن نقتنع بأنّ المحبّة، أي المحبّة الصادقة، هي التي تصنع، وحدها، إنسانًا جديدًا.

مرّةً، سمعت رجلاً يقول إنّه عانى آلامًا تفوق آلام المسيح! لم تزعجني، في هذا القول، فظاعة التبجّح بقدر جعله الربَّ واحدًا من الذين يتألّمون. فالربّ ليس واحدًا من المتألّمين، بل هو كلّ المتألّمين والمتروكين والمهمَلين. كيف نصالح أنّ الربّ معنا في غير حال؟ كيف نؤمن بأنّه يحملنا في أفراحنا وأحزاننا؟ وكيف نسعى، معه وبه، إلى أن نصحّح كلّ غباء ببلاغة المحبّة؟ هذا أعلى ما تقتضيه «الربّ معنا»! n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search