2018

1. الافتتاحيّة: المسيحيّة والسياسة تعارض أو شهادة؟ - الأب ميخائيل (الدبس) – العدد السادس سنة 2018

المسيحيّة والسياسة،

تعارض أو شهادة؟

الأب ميخائيل الدبس

 

 

يكمن السبب الأوّل لأزمة المسيحيّة والمجتمع، من جهة تدهور الإيمان، في التعامل مع المسيحيّة كديانة يقتصر عملها على الخلاص الشخصيّ. من المستحيل أن تُحلّ مسألة العلاقات بين الإنسان ومجتمعه على قاعدة هذا المفهوم. هذه المسألة المقلقة لن تجد لها حلًّا إلّا عبر نشوء وعي جديد في المسيحيّة، وعي لا يعتبر المسيحيّة ديانة تحوّل شخصيّ فحسب بل اجتماعيّ وكونيّ أيضًا، أي عبر تمتين العنصر المسيانيّ والنبويّ في الوعي المسيحيّ».

نيكولا بردياييف

عند أفلاطون، في جمهوريّته، حاكم المدينة – الدولة هو الفيلسوف الذي يُعتبر، عنده، نخبة الجنس البشريّ. السياسة، عنده، عمل راق وعلى من يعمل بها أن يكون على درجة عالية من الرقيّ والحكمة. بحسب أرسطو، السياسة محاولات يقوم بها الحاكم مع الجماعة لبلوغ «حياة جيّدة - ζωή Kαλή». الصفة التي يستعملها أرسطو هي «Kαλή» ولها معان عدّة: جميل، جيّد، طيّب... بغضّ النظر عن المعاني التي حمّلتها المدارسُ الفلسفيّة لهذه العبارة، فالسياسة هي التي تقود المجتمعات إلى حياة تحدَّد صفاتُها تبعًا للمذهب الفلسفيّ أو الدينيّ الذي يعطي هذه الصفة مضمونَها.

لغويًّا، عبارة سياسة من فعل ساس ومعناه قاد أو وجّه. تستعمل في عالم الحيوان الذي كان يُستخدم كوسيلة انتقال وسفر. السائس هو القادر على التحكّم في الحيوان ليكبح جماحه ويبلغ به غاية مسيرته وسفره. فالسياسيّ هو الذي يقود الجماعة وينسّق مسيرتها ويمنعها من الانحراف عن بلوغ هدفها الذي يتوافق، عادةً، ومعتقدات هذه الجماعة وقناعاتها.

السياسة، بعامّة، ليست قيادة مسيرةٍ عشوائيّة، بل هي قيادة هادفة تفترض جماعة بشريّة، حاكمًا سائسًا وهدفًا. وبمقدار وضوح الهدف والتزام السائس ببلوغه بمقدار ما تكون سياسته ناجحة. النجاح في السياسة يقاس بالهدف الذي وضعت لأجله هذه السياسة أو تلك. وبعبارة أخرى، معايير النجاح فيها مرتبطة بالمعتقدات التي يتحلّى بها السائس والتي توجّه سياسته نحو الهدف المتوافق مع هذه المعتقدات.

إنّ مماثلة ما قلناه بالمسيحيّة يوضح لنا، تحديدًا، غاية العمل السياسيّ من منظور مسيحيّ متوافق مع أهداف المسيحيّة، في ما خصّ حياة الإنسان ومآله في هذه الدنيا، أعني التحضّر في هذه الحياة الدنيا لملاقاة الربّ في ملكوته. بناء على ذلك تُحدَّد القواعد والأطر التي يجب أن يلتزمها كلّ مؤمن مسيحيّ في عمله السياسيّ.

هل السياسة تتعارض مع الدين؟ وتحديدًا مع الالتزام الإيمانيّ المسيحيّ؟ هل قيادة الجماعة، عبر السياسة، إلى هدف يتوافق مع المبادىء المسيحيّة أمر يتعارض معها وغريب عنها؟ هل للمسيحيّة أن تبقى غريبة عن إدارة شؤون الناس في هذه الدنيا؟ ربّ قائل إنّ التعارض قائم ما دام الهدف متعارضًا مع نظرة المسيحيّة إلى شؤون الناس وغاية وجودهم. لكن، مع وجود هذا التعارض، هل للمسيحيّة أن تنسحب، تحت ذريعة الأمانة لمعتقداتها، من هذه الوظيفة الأساسيّة في حياة المجتمعات؟ وأن تعتبر أنّ مهمّتها تنحصر في مجالات أخرى لا تتعارض ومبادئها بحجّة أن «ليس لنا هنا مدينة باقية إنّما ننتظر الآتية»؟ مشكلة هذا الموقف أنّه، إذا تحوّل إلى قاعدة سلوك، سينسحب، حتمًا، على كلّ قطاعات الحياة في هذا العالم التي يغيب عنها المعتقد المسيحيّ، فتغيب البشارة وتغدو المسيحيّة قطاعًا منعزلًا محصورًا داخل المعابد وطقوسها وفي الحياة الشخصيّة لكلّ مؤمن، على حسب قول بردياييف، ولن تكون لهذه الحياة امتدادات في الجماعات وأنظمتها وأهدافها. غياب المعتقد والهدف المسيحيَّين لا يسوق المؤمن إلى الانسحاب والتعفّف التقويّ الزاثف بل يحفِّزه لسعي صليبيّ محبّ لإحضارهما. وحضورهما مرتبط بحضور الشخص المسيحيّ الحامل إيّاهما داخل أطر الحياة. للخميرة أن توضع داخل العجين فهي خارجه فاسدة، قوّتها وفعاليّتها تكمنان داخل العجين.

إنّ الانسحاب الطهرويّ من العمل السياسيّ سيحوّل الأرض جحيمّا ولن يكون لنا، حينها، ملكوت في السماوات. إن لم نغرس الملكوت في الأرض بذورًا صالحة لن تكون لنا شجرة في السماوات يستظلّ بها كثيرون.

ينبغي للمسيحيّة أن تكون لها كلمتها في سياسة أمور هذه الدنيا لأنّ هذه الدنيا هي معبرنا إلى الملكوت. لا بدّ لرجالها من أن يكونوا ضمير العمل السياسيّ والصوت المسيانيّ في وجه السياسة اللإنسانيّة السائدة في عالمنا. فعل رجال الكنيسة هذا هو فعل سياسيّ ولو أنّه لا يدخل في أطر تعاطي السياسة، في علمها ومندرجاتها وتقنيّاتها. فلهذه الأخيرة مواهبيّوها وعلينا أن نصبغ العمل السياسيّ بالمواهبيّة المسيحيّة، شأنها شأن كلّ وظائف الحياة الدنيا والحياة في الروح. على الجماعة الكنسيّة أن تلحظ هذه الموهبة عند أبنائها الذين يمضغون الكتاب المقدّس والتراث المسيحيّ ويستبطنونهما حتّى إنّ مسالكهم الدمويّة والعصبيّة قد غدت محمّلة بهما، أبناء تزوّدوا بعلم السياسة والاقتصاد وعمّدوه بالروح الكامن فيهم. لماذا نعيب على مثل هؤلاء العمل السياسيّ ونُخليه لمن لا يعرف  من السياسة إلّا الكسب والتسلّط والاستزلام؟ على الجماعة الكنسيّة أن تشجّع هؤلاء على الانخراط في العمل السياسيّ وأن تبقى راعية لهم لحفظهم من الانزلاق في مهاوي السياسيّين الفاسدين. كثيرون من المؤمنين الصادقين يعملون في عالم السياسة والاقتصاد والمال لكنّهم، من حيث  يدرون أو لا يدرون، يُرمَون في معصرة السياسة الماليّة الجائرة فتُستغلّ قدراتُهم كوقود في مصانع الفقر في العالم.

متى ستمسحن الكنيسة العلوم السياسيّة والاقتصاديّة؟ يُدرّس في معاهد اللاهوت علم النفس المسيحيّ وعلم الاجتماع المسيحيّ وعلم التربية المسيحيّة على أنّها علوم إنسانيّة. لماذا نصرّ على نزع الصفة الإنسانيّة عن العلوم السياسيّة والاقتصاديّة ولا نزوّد طلّابنا في معاهد اللاهوت بشيء منهما؟ إنّ التوزيع الجائر لخيرات الأرض وانتشار الجوع والحروب يأتي ثمرة تشريعات اقتصاديّة– اجتماعيّة– ضريبيّة تعكس مفاهيم وقناعات مناقضة لكلّ ما هو مسيحيّ، تشريعات لم ينزلها اللَّه تتعارض وحضور الملكوت في هذا العالم، تشريعات ليست قدرًا مكتوبًا لا حول لنا ولا قوّة تجاهه. الحلّ يكمن  في تشريعات مغايرة. تشريعات كهذه لن تضعها الكنيسة كمؤسّسة لأنّها غير مؤهّلة لهذه المهمّة. بل يضعها أبناء لها ألهمتهم الكنيسة ورجالها ليكونوا شهودًا لها في عالم السياسة والاقتصاد. كيف لكنيسة، زعيمها المسيح وكتابها الإنجيل ورجالها باسيليوس الكبير ويوحنّا الذهبيّ الفم ويوحنّا الرحيم وغيرهم، أن تبقى هانئة في عالم يسحق فيه الفقرُ إنسانيّة ستّين بالمئة  من سكّانه؟

وأخيرًا، ليس المطلوب أن تتحوّل المؤسّسة الكنسيّة إلى دولة بل من حقّ أبنائها، أقلّه، أن يستشرفوا من الجماعة الكنسيّة، وبإمامة رعاتها، باكورة مجتمع يشحّ فيه البؤس والفقر ليكون ومضةً قياميّةً في ظلمة سقطات هذا الدهر. n                                                                                                        

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search