2018

31- جورج مسّوح: كاهن الألوان – يوسف الحاجّ – العدد الرابع سنة 2018

جورج مسّوح: كاهن الألوان

 

يوسف الحاجّ[1]

 

لست أغالي إن قلت، وأنا أبحث في ذاكرتي عن لقاءاتي به، إنّي لم أسمعه مرّة يتحدّث في موضوع يمتُّ إلى أبواب الإيمان الأرثوذكسيّ أو نوافذه، أنا الذي لا ينتمي إلى رعيّته الكنسيّة. لقائي الأوّل به كان في إطار ورشة نظّمتها أسرة الجامعيّين في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وكان موضوعنا في تعريف الثقافة وكيف يكوّن الإنسان ثقافته. الذكرى الفذّة التي بقيت عالقة في ذهني بعد هذا اللقاء كانت مشهد كاهن حليق الذقن، ممشوق القامة بقمبازه الطويل، مرفوع الرأس، يخطو واثقًا، يعتلي المنبر بابتسامة لا تُفسَّر، يجلس على كرسيّ، يعدّل الميكروفون بعلوّ فمه، يجول بطرفه علينا نحن الجالسين الشاخصين ويقول: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ثمّ يبتسم ابتسامةً لا تفسَّر وينظر الدهشة المرتسمة على وجوهنا. نظرنا نحن الجالسين إلى بعضنا البعض وبدأت وشوشات الاستغراب تبرق بين الحاضرين وقطبت جباه البعض. كان الكاهن من على منبره يراقب البلبلة بابتسامة لا تفسّر. أمّا نحن فكان لسان حالنا: "ما هذا الذي نسمعه في لقاء لشباب أرثوذكسيّ مؤمن؟ كاهن يفتتح حديثه بعبارة للمسلمين!!؟؟"

 

تعدّدت اللقاءات بعدها وكان حضوره غالبًا رديف عمامةٍ أو حجابٍ أو شروال. يفتتح قوله بعربيّة سليمةٍ رصينةٍ، غالبًا ما يستشهد، عن ظهر قلبٍ، بقولٍ من التراث الإسلاميّ أو من الشعر العربيّ. لا أخفي سرًّا إن قلت إنّي لم أستسغْه في البدء. لم يكن حضور جورج مسّوح حضورًا خفرًا. شخصه فذٌّ، لا يهادن، ينتقد بشدّة في المواضيع التي تعنيه كثيرًا. لا يساوم على قضيّة الانفتاح وقبول الآخر، لا يساوم على قضيّة التمييز العنصريّ ولا على شؤون الدولة المدنيّة. قضاياه ليست قضايا الكاهن الأرثوذكسيّ التقليديّ. هل تمادى في الدفاع عن آرائه ومعتقداته؟ كنّا نحن، رفاقه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، نشعر أنّه يغالي أحيانًا ويذهب في تعبيره إلى ما وراء الحدود التي اعتدناها. لا تمرّ عنده القضايا مرور الكرام. هو حاضر دائمًا للمواجهة بما أتيح له من سبلٍ: ينشط على مواقع التواصل الاجتماعيّ ويدخل زواريبها، يعتلي المنابر ويجاهر، يعظ من عل، يستهزئ أحيانًا بالآراء التي يعتبرها متخلّفة أو تقول عكس ما يعتقد. ثمّ يختلي، يشحذ قلمه ويخطّ مقالاً يفنّد فيه، بدقّة أهل العلم، كلّ البنود التي يعتبر إيضاحها ملزمًا. هكذا يكرّس، في قلب الجنون الحاصل وعادة انجراف البشر مع التيّارات، استقامةً فكريّة ومعارضة شرسة للشذوذ الذي أصبح نهجًا عامًّا. يأتي مقاله رفيعًا، بديعًا، لاذعًا، صحيحًا، أنيقًا كأناقة روما تتخطّر على ضفاف التيبر وتلهم العالم نهضةً وإبداعًا ومنطقًا. هو سكن روما فترة لكنّها سكنته كلّ الفترات.

 

كان الأب جورج يلبس في أغلب الأحيان قميصًا ملوّنًا، كثير الخطوط، تتقاطع لتشكّل مربّعات صغيرة على امتداد النسيج، وحين يرتدي فوقه القمباز، كانت قبّة القميص وأكمامه تبقى بارزة بشكل خفر. أعتقد أنّه عاش حياته وعمل على نسقِ ما كان يرتدي: جمع في علمه وثقافته مكوّنات عديدة، فسلك مناهج الرياضيّات وأبحر في اللاهوت المسيحيّ وتخصّص في الدراسات الإسلاميّة، وسار دروب التعليم وأسّس عائلة ورعى كنيسةً وحاور مجموعات مختلفة، وألّف مقالات ودراسات، هذه كلّها خطوط تقاطعت وشكّلت منه فسيفساء ملوّنة فريدة جعلت منه ظاهرة بين عارفيه. وما كان ارتداؤه الثوب الدينيّ الأسود ليخفي كلّيًّا فسيفساء الألوان التي صارها، بل بقيت بادية ترشد الناس إلى التنوّع وتنزع عن الدين فكرة المحدوديّة. دين جورج مسّوح يقبل بالألوان ويسعى وراء الفرح ويعلّي قيمة الإنسان فوق كلّ قيمة.

لعلّ أبرز ما لفتني في أقوال الرثاء التي تلت رحيله عبارة واحدة كتبها على الفايسبوك شاب ينتقد الأديان وطوائفها، ويمقت التصنيفات المجتمعيّة الصنميّة، ويثور على الأفكار المعلّبة والسياسة المقيتة التي تحكمنا في هذا البلد. كتب، في اليوم الذي كانت تصدر فيه مقالة جورج مسّوح: "في الليلة الظلماء يفتقد جورج مسّوح." استلّ هذا الشاب عبارته مستِدًا إلى رائيّة أبي فراس الحمدانيّ التي يقول فيها:

"سَيَذْكُرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهُمْ،  وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ".  

كما تحدّث عدد كبير من الفاعلين في مجال حقوق الإنسان والمناضلين من أجل إحقاق العلمانيّة وفصل الدين عن الدولة عن خسارتهم الكبيرة بموته. كان المسّوح (كما كان يحلو له أن يسمّي نفسه) بدرًا في ظلامنا المتمدّد، نذكره ونفتقده كلّما حلك هذا الليل الذي صار طويلاّ جدًّا.

 

[1] - عضو في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search