تَيَتّمْتُ مرّتين
لولو إلياس صيبعة
منذ سبع سنوات وستّة أشهر عشت اليتم أوّل مرّة عندما غادر هذه الفانية إلى ديار الحقّ والدي ووالدتي في غضون أسبوع واحد. خلت حينها أنّ هذه كانت خاتمة أحزاني، وأنّني لن أحزن في ما بعد على فقدان أيّ إنسان مثلما حزنت على من "ربّياني صغيرا".
كان يوم عيد بشارة والدة الإله، عيد انطلاق بشارة الخلاص، في ذلك النهار أدركت أنّي تيتّمت مرّتين، حين صدمت برقاد صديق صدوق ورفيق درب في دنيا الإيمان والفكر والقلم. في كنيسة القدّيس نيقولاوس الأشرفيّة علمت أنّ القلم الحرّ انكسر، رحل من كان وفيًّا لمعلّمه، رحل المحارب الصنديد، رحل من كان لكلمة الله عشيرًا، رحل صاحب اليد البيضاء التي كلّما سألتها معونة لم تكن تتردّد في تلبية طلبي. ترجّل الفارس عن صهوة الحقّ والخير والجمال. رحل من كان بوقًا للحقيقة، صمت الصوت الجريء الذي لا يخشى سوى الله. رحل الخوري جورج مسّوح.
رحلت أيّها الحارث عن أنطاكية فجفّت الأرض لأنّ من كان يرويها بعرقه وعلمه ومعرفته انتقل عنها إلى ديار الخلود.
كرزت بالإنجيل فأبدعت. على مثال شفيعك حاربت ونلت أكاليل الظفر. خرّجت أجيالاً من الطلاّب إلى دروب الحياة، في أكثر من معهد وجامعة.
تيتّمت أنطاكية. صوت من سيعلو مدافعًا عن الحقّ، عن الفقير، عن الأرملة، عن فلسطين، عن سورية، عن لبنان، أما عنونت إحدى مقالاتك بأنّ "قول الحقّ واجب"[1]؟ واعتبرت أنّ كلمة الحقّ "في هذا الزمن القهّار تأتينا من فلسطين. هي كلمة حقّ تشبه تلك التي نادى بها يوحنّا المعمدان "الصارخ في البرّيّة". فلسطين تحوّلت إلى برّيّة وشعبها الصامد أضحى كلّه يوحنّا. شعب يصرخ إلى الله رجائه الوحيد بعد أن انعدم الضمير الإنسانيّ..."[2].
كنت النبراس الذي يضيء ليل أنطاكية.
حملت المشعل فكنت للحوار بين الأديان قائدًا، وشهدت لك المنابر على اختلافها بانفتاحك الصادق غير الموارب. شجبت الطائفيّة واعتبرتها "العائق الأكبر في شهادة الجماعة الأرثوذكسيّة. إذ إنّ هذه الشهادة تفترض أن يكون كلّ واحد منّا مدافعًا حقيقيًّا عن الحرّيّة التي قال فيها الآباء إنّها صورة الله في الإنسان، وقد يكون في مواقف الأرثوذكس طائفيًّا بعض من الشهادة ضدّ المسيح..."[3].
كنت اليراع الذي لا ينكسر أمام النفاق المستشري.
كنت راعيًا خلوقًا محبًّا، بذلت نفسك لرعيّتك في عاليه وفي الجبل الأشمّ على امتداده، مشجّعًا على العودة وعلى العيش المشترك، فعرفت الخراف صوتك وأصغت إليك.
حملت هموم الكنيسة في قلبك وعقلك من لبنان وسورية إلى أقصى الأرض، وعملت بموجب وصيّة الربّ فصدح صوتك في أرجاء المعمورة وفي المنتديات العلميّة والدينيّة. واجهت التقاليد الوثنيّة المنتشرة بين المؤمنين بخاصّة في الأعياد، وكان لعيد ميلاد الربّ له المجد وللعادات المرافقة له حصّة وبخاصّة لمن كنت تلقّبه بالمهرّج أو "بابا نويل". فالمسيح "ولد في مذود حقير، فلماذا نحن نسلبه حقّه الطبيعيّ في أن يولد مع الفقراء؟... يلبّسون الشجر والناس عراة، وأحبّاء يسوع أي الفقراء بلا أضواء وعراة يلسعهم البرد..."[4].
حملت هموم الوطن فالتزمت تطبيق وثيقة التزام شؤون الأرض التي أصدرتها حبيبتك حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. تألّمت مع المريض ودافعت عن الظلم والقهر في أيّ بلد كان، همّك أن تصان كرامة الإنسان مطلق إنسان. ومن هنا رأيت أنّ "العنصريّة داء مميت على الصعيدين الإنسانيّ والروحيّ، لمن غضّ الطرف عنه. والعنصريّة هي التجسيد الأقوى لخطيئة الكبرياء، والإنسان العنصريّ مريض بالسلطة والقوّة ويمارس العنف المادّيّ والمعنويّ على الآخر المختلف عنه. كلّ الناس خُلقوا على صورة الله ومثاله فنحترم الله فيهم كلّهم"[5].
كنت المنارة التي تشعّ إيمانًا صادقًا حرًّا من قيود الطائفيّة البغيضة، وترجمت هذا الإيمان في مقالاتك التي نشرتها في مجلّة النور وفي جريدة النهار وغيرهما. ثملت بكلمة الله وانتشيت وأبيت إلاّ أن تنقلها إلى كلّ إنسان.
اقتديت بالربّ وسرت في الدرب الصعب وفهمت مشيئة معشوقك فامتلأت بالروح، وعبدت الربّ بخشية، فتوكّلت على رحمته وابتهج قلبك بخلاصه، فكان راعيك ولم يعوزك شيء، وها أنت تسكن في بيته، وقد أعدّ لك مائدة وبالزيت طيّب رأسك.
بالربّ إلهك اعتصمت وألقيت ترسك عليه وحدّثت بجميع عجائبه، وعلى مدى أكثر من عشرين سنة ردّدت بين جدران كنيسة القدّيس جاورجيوس قم يا الله واحكم في الأرض، فسمع صوتك من هيكله وبلغ صراخك مسمعه. عرّفك طرقه وسبله علّمك، فسكنت نفسك في الخير، وكنت خير معين لكلّ قاصد، وعاضدًا وناصرًا للفقراء على غرار شفيعك.
طوباك لأنّك لم تسر على مشورة الأشرار ولم تتوقّف في طريق الخاطئين بل في شريعة الربّ كان هواك.
طوباك يا خليل الله، فها أنت الآن ترتع بين يديه بعد أن تحرّرت من عبوديّة الجسد. افترشت السماء والتحفت بالضياء الإلهيّ، وتركتنا يتامى وعطشى إلى كلمة الحقّ الصادرة من استقامة رأيك.
على الأرض تركت كلّ شيء ولحقت بالناصريّ، وها أنت تترك كلّ شيء وتطفر إليه كالإيل وتغمض عينيك تائقًا إلى رؤية الله وجهًا بوجه.
نبضات قلبك التي أنهكها المرض كانت تلهج على الدوام بصلاة يسوع. وأنت لم تتكلّم يومًا من نفسك بل كنت تطلب مجد الله وتحدّث به، وكان حبّه أطيب من الخمر.
فاض قلبك بالصلاة ولسانك بالترنيم، فيا طوباك ويا بشراك فالربّ صخرتك وميناؤك.
أبونا جورج أذكرنا في صلواتك وانظر إلينا من عل وتشفّع فينا لدى الباري سبحانه وتعالى.
ماذا أقول فيك بعد وقد خانتني العبارات وخنقتني العبرات؟ أرقد بسلام وتنعّم بالحقّ والخير والجمال بجوار من عشقت منذ الطفوليّة، مخلصًا له الدين وله كره الكافرون.
[1] - مجلّة النور، افتتاحيّة العدد الثامن، السنة 2004.
[2] - جريدة النهار، 14 آذار، 2010.
[3] - مجلّة النور، افتتاحيّة العدد الرابع، السنة 2000.
[4] - مجلّة النور، افتتاحيّة العدد الثامن، السنة 2001.
[5] - مجلّة النور، افتتاحيّة العدد السابع، السنة 2001.