2018

29- ضميري الذي يعاتبني – جورج تامر – العدد الرابع سنة 2018

ضميري الذي يعاتبني

 

جورج تامر

 

لم أعرف جورج مسّوح إلاّ من بعد أن التحق بجامعة البلمند. لا أذكر زمان لقائنا الأوّل ومكانه. ربّما كان في إطار أحد النشاطات التي كان يقيمها مركز الدراسات المسيحيّة-الإسلاميّة الذي كان يديره هناك. انتظمت وتيرة لقائنا بعد ذلك، فكنّا نجتمع، كلَّ مرّة أزور فيها لبنان، تقريبًا. كان اجتماعنا يطول أحيانًا، ومواضيع الحديث تتشعّب، وبيننا الكثير من الاهتمامات العلميّة والكنسيّة المشتركة. واشتركنا في العديد من الندوات والمؤتمرات والحلقات الدراسيّة، فتناقشنا في شتّى الأمور. كنت أحرص على أن أقرأ ما كان يكتبه في جريدة النهار وسواها من وسائل الإعلام. وكثيرًا ما راسلته بعد مقال، إمّا مثنيًا على ما كتب، أو لافتًا نظره إلى أمرٍ لم يرضِني، بسبب حدّة في التعبير أو تطرّف في الرأي، من وجهة نظري. ما كنّا نتَّفق على كلّ شيء. وهذا بدهيّ، فلكلّ منّا مواقفه وآراؤه الخاصّة، ولم تكن تتوافق كلّ مرّة. لكنّ الحوار بيننا لم ينقطع قطّ. لم نتوقّف لحظة أثناء زمننا المشترك عن أن يقدّر كلّ منّا رأي الآخر، ولم نشعر مرّة بنقص بالمحبّة التي كنّا نكنّها الواحد للآخر بصدق، لا غشّ فيه. كنّا نعرف أنّنا ربينا على الحرّيّة، وهي القاعدة الصلبة التي بنينا عليها محبّتنا المتبادلة وصداقتنا الفكريّة. 

أجل، جمعنا اقتناعنا التامّ بأنّ لا بدّ من الحرّيّة في الإيمان والاعتقاد والقول والعمل، لتستقيم الأمور في الكنيسة والوطن. ولا قيد للحرّيّة إلاّ المحبّة، والالتزام الحرّ بالسعي البنّاء. وخير ما يُبنى هو النفوس. ما فاتنا لحظةً أنّ صنو الحرّيّة الشجاعةُ. الشجاعة في استثمار الحرّيّة في خدمة الحقّ، مهما كان الثمن؛ والشجاعة في قبول مواقف وآراء مضادّة يأخذها آخرون، عرفوا عناق الحرّيّة ولذّتها، فما عادوا يستبدلون شيئًا بها. الإيمان بالحرّيّة لا يتّفق وحصرَها بالذات، أو بفئة من الناس، دون سواهم. إمّا تكون لكلّ من له الطاقة على حملها، أو لا تكون. همٌّ كبير كان يشغلنا، هو كيف يمكننا أن نُسهم، كلٌّ في موقعه، وبما عنده من طاقات، في أن ينشأ الشباب في كنيستنا الأنطاكيّة الحبيبة على الحرّيّة، في أن يعوا ماهيّتها في المسيح، في أن يتدرّبوا عليها ويمارسوها، بمسؤوليّة المحبّة. فلا نهضة في الكنيسة، حقّ، إلاّ بالحرّيّة. والكنيسة، جسد المسيح الممتدّ في العالم، امتدادٌ لحرّيّة المسيح ذاتها، وبها قبل الصلب طوعًا. لا حبّ بلا حرّيّة. ولا خلاص بلا حرّيّة. القيامة ثمرة تزاوج الحبّ والحرّيّة في فعل يسوع. والقيامة تكون للمؤمنين به وبالخلاص الذي أنجزه، إذا كانوا في إيمانهم وحبّهم أحرارًا.

الحرّية عنصر أساس من عناصر الفكر الأرثوذكسيّ الصحيح. وهي ليست نقيض الطاعة، إذا كانت الطاعة فعلاً حرًّا، لا لبس فيه، ولا خداع. أمّا الأفكار التي يشوّهها التسلّط والاستبداد والتفرّد والتشدّد والتطرّف والإقصاء والتكفير فليست على نقاء أرثوذكسيّ، مهما ادّعى ذلك أصحابها، ومهما أظهروا من تقوى. فالأرثوذكسيّة لا تؤمن بإله يشتهي سجدات العبيد، بل بإله أحبّ حتّى الموت الذي ذاقه اختيارًا، فكان صليبه جسرًا من الموت إلى الحياة، ومن الاستعباد إلى التحرّر. سيّد القبر الفارغ أوّل المتحرِّرين والمحرِّرين من سلطان الموت. وهو الموجِد حرّيّة الحياة التي لا مكان فيها للعبوديّة، من بعد. أحرار الإيمان بالقيامة لا يحتاجون إلى دلائل مادّيّة ليؤمنوا. هم طوعًا، بثقة ونضوج روحيّ وفكريّ، يؤمنون، ويفقهون أن طوبى لمن لم يروا وآمنوا. هؤلاء قلوبهم مشتعلة بنار حبّ المسيح، ومستنيرة بنور قيامته، فليسوا بحاجة إلى إيّ نار ونور من الخارج، أيًّا كان المصدر. 

هذا ما كان جورج مسّوح مؤمنًا به إيمانًا صميميًّا. في هذا الإيمان كنّا نلتقي، وإن اختلفت العبارة، من حين إلى حين.

الهمّ الآخر الذي كان يشغلنا وجودًا وعلمًا ووجدانًا هو الإسلام. والمسلمون، عندنا، شركاء في المواطنة والثقافة والحضارة والسعي إلى العلم. عبر عمل جورج مسّوح في جامعة البلمند وإطلالاته الكتابيّة والشفويّة في وسائل الإعلام، قوّى الجسور الممدودة بين المسيحيّين والمسلمين. شارك بقوّة في إحياء الحوار بين المنتمين إلى الدينين في لبنان والعالم العربيّ. جرأته على قول ما يعتقده بصدق، من دون مواربة ومداهنة ولياقة كاذبة، جلبت له قدرًا كبيرًا من الإعجاب والتقدير، من أترابه المسلمين الساكنين، هم أيضًا، إلى كلمة الحقّ. وكنّا كلانا مقتنعين بألاّ بديل من الحوار بين أتباع الدينين، من أجل أن تكون لهم جميعًا حياة، وتكون لهم أفضل؛ وأنّ الحوار هذا يقتضي الصدق في المعاملة، والجرأة على قول الأشياء كما هي، والتواضع في التوجّه إلى الآخر وقبوله كما هو، والمثابرة على التوعية في هذا الجانب وذاك. فالمعرفة الواسعة المتبادَلة عن الذات والآخر هي أسلم الطرائق للتقرّب إليه. وما من عدوّ أخطر من الجهل، يهدّد القربى بين المسيحيّين والمسلمين؛ الجهل بالذات والجهل بالآخر، على حدٍّ سواء. معرفة الذات والآخر، معًا، تحرّر من الخوف، من الأحكام المسبَقة والعشوائيّة، من التجنّي، ومن الدجل. وما أكثرها، اليوم، في المحافل الحواريّة. والتوجّه الحواريّ الصادق إلى الآخر، الثابتُ صلبًا في ما هو للذات، هو، بالعمق، اتّجاه إلى الله، وبه يلتقي المؤمنون الحقيقيّون، أيًّا كان شرعهم. رحلة الحوار بين المسيحيّين والمسلمين سياحةٌ على دروب الربّ، سفرٌ إليه، حجٌّ إلى وجهه، وهو يُرى في كلّ الوجوه. 

قلت له مرّة: "هل تعرف أنّك الشخص الوحيد في العالم، الذي يجعلني أشعر بتوبيخ الضمير؟" فاجأه كلامي واستفسر عمّا أعنيه. فأخبرته أنّني كثيرًا ما أشعر بتأنيب الضمير، حين أقرأ ما يكتبه، مكافحًا ضدّ الجهل والآفات المستشرية في لبنان، قاطعًا باستقامة كلام الحقّ، فيما أنا أتمتّع بترف العلم والبحث والتدريس في ألمانيا. وكم كنتُ أتمنّى لو كنتُ شريكه في الجهاد. وكلٌّ منّا له في شفيعه قدوةً، أن يقتل التنّين. وما من تنّين أخطر من تنّين الجهل، وهو لا يضجر. ولا بأس في استعارة المعقول، أي ما هو للعقل، من الأساطير. فضحك من كلامي، وعزّاني، وكلانا على مرح.

صوت الضمير هذا الذي كان جورج مسّوح يوقظه فيّ بصوته، لن يموت. هو حيّ أبدًا، ما دام الحقّ. ولن يموت صوت جورج مسّوح، فهو من مكوّنات أبديّة، استمدّها من كلام سيّده المسيح الذي لا سلطان للموت عليه. كلامه حياة، وهو مانح الحياة. وكلّ ما هو فيه ومنه وإليه حياة، وطاقة حياة. 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search