2018

28- من أجل الإنسان: أضواء من الآن وهنا – د. جورج معلولي – العدد الرابع سنة 2018

من أجل الإنسان: أضواء من الآن وهنا

د. جورج معلولي[1]

 

          يتوجّه المفتّش الأكبر، في رواية الإخوة كارامازوف، إلى المسيح الآتي بخفر، قائلًا: "إنّ الإنسان يؤثر هدوء نفسه، بل ويفضل الموت على أن تكون له قدرة على حرّيّة الاختيار... لا شيء في الواقع يعذّب الإنسان أكثر ممّا تعذّبه هذه الحرّيّة... أنت أردت أن يمنحك البشر حبهم أحرارًا، وأن يتبعوك بإرادتهم. فأصبح على الإنسان أن يميّز بين الخير والشرّ بنفسه مستلهمًا حكم قلبه ومسترشدًا بصورتك أمام عينيه. أفلم تتنبّأ بأنّ البشر سينؤون تحت هذا الحمل الرهيب فإذا هم في آخر الأمر ينبذون صورتك ويشكّكون في حقيقتك وتعاليمك؟ إنّك لم تنزل عن الصليب حين دعاك الجمهور صائحًا: انزل عن الصليب فنصدّق أنّه أنت... إنّك لم تنزل؛ لأنّك مرّة أخرى لم تشأ أن تستعبد البشر بمعجزات، وإنّما أردتهم أن يجيئوا إليك بتأثير الإيمان الحرّ لا بتأثير إيمان تلده العجائب. كنت تريد أن يهبوا لك محبّتهم أحرارًا لا أن ينصاعو لك عبيدًا أذهلهم جبروتك. هنا أيضًا، أسرفت في تقدير البشر وأعطيتهم منزلة أعلى من منزلتهم؛ فالبشر عبيد رغم أنّهم مفطورون على التمرّد. انظر حولك؛ ماذا أصبح البشر بعد انقضاء خمسة عشر قرنًا؟ ما عدد أولئك الذين رفعتهم لمستواك؟ أحلفُ لك أنّ الإنسان أضعف وأسوأ ممّا ظننت... إنّك حين احترمته كلّ ذلك الاحترام قد تصرّفت بدون رأفة به؛ لأنّك سألته فوق ما يطيق...(نحن) أصلحنا خطأك... وابتهج الناس إذ رأوا أنفسهم يتحرّرون من هبة الحرّيّة المشؤومة التي وهبتها لهم فكانت مصدر كلّ أنواع عذاباتهم". في نهاية هذا الحوار المظلم والفاضح في آن  يقبّل يسوع المفتّش الأكبر على شفتيه الباردتين و يختفي...

          قبلة الحبّ المجروح والمتألّم لآلام البشر وجهلهم تظهر تحت ريشة  الأب جورج (مسّوح) في مقالاته المجموعة في كتاب "الآن وهنا". وكأنّ يسوع يقبّل بكلمات الأب جورج هذيانات البشر في الكنيسة والمجتمع في عصرنا هذا. فيسأل الكاتب ابن مريم : "هل تعلم... أنّك لو أتيت اليوم لقتلك أبناء دينك من المسيحيّين كما قتلك منذ ألفي سنة أبناء قومك... لأنّك لست في مستوى تطلّعاتهم القوميّة والوطنيّة؟ يا لسذاجتك التي قضت عليك، لأنّك ظننت أنّ الشعور الإنسانيّ قد يغلب على الانتماء القبليّ الانعزاليّ. كيف سوّلت لك نفسك التبشير بالقضاء على التعصّب القوميّ لحساب الأخوّة الإنسانيّة؟ أنت ارحل عنّا وحسب، وابق مشرّدًا كما شئت". المسيح هو الغريب، يقول الأب جورج، و الذي "بما أنّه غريب ليس له أين يسند رأسه". هل "ما زال الشيطان رئيس هذا العالم"؟ يتربّع هذا المتسلّط (وأعوانه) سعيدًا "لأنّه استطاع أن يجعل البعض خدّامًا طائعين له ولإغواءاته". كأنّ المسيح لم يأت! يعنون الكاتب إحدى مقالاته، لأنّ يعقوب ويوحنّا (وهما نموذجان) كانا "ينتظران أن يدخلا ملكوت المسيح لكنّهما لم ينتظرا الذهاب إلى الصليب والموت".

          هل تولد الكلمات من الجرح؟ إنّ النفس التي عاشرت الإنجيل معاشرة طويلة تتجمّل بمحبّة يسوع ووداعته فيظهر النور صافيًا فضّاحًا. ليست هذه نبوءة قتّالة. فلا يسوغ استعمال الكلمة سيفًا ضدّ كهنة البعل.  بين "إيليّا القاتل وإيليّا التائب"، يختار الأب جورج إيليّا الجالس في الصحراء "منتظرًا الغربان" تأتيه بالطعام من لدن الله. لقد اكتشف النبيّ إيليّا أنّ الله لا يحبّ العنف. ويأتي الله كالنسيم العليل ليلطّف خشونة إيليّا وعنف نفسه المتشنّجة وبيثّ فيها الثقة والأمان. تتنقّى شجاعة إيليّا من شوائب العنف فيظهر الذهب ساطعًا تحت قلم الكاتب القائل: "من يدرك أنّه واقف أمام الله لا يخشى البتّة أن يقول الحقّ ولو كان أمام سلطان جائر". يستشهد الكاتب بالقدّيس أمبروسيوس ليقول: "هناك سيف روحيّ لتبيع ما لك وتشتري الكلمة التي تكسو أعماق الفكر" معلّقًا على قول يسوع "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا". إن كانت كلمة الله سيفًا فهي تعمل في النفس "لننفصل عن أصل خطايانا و منشئها" ( استشهاد من القدّيس هيلاريون أسقف بواتيه).

          بالتوازي مع روح إيليّا الناريّة العاملة في يوحنّا المعمدان والأنبياء تظهر مريم كما في أيقونة الشفاعة وجهًا للرحمة الإلهيّة وصورة للكلام العفيف المنبثق من القلب. فيحلو للكاتب أن يستلّ من التراث الإسلاميّ هذه الصورة المريميّة: "طلب الله من مريم، وفق الآية القرآنيّة، أن يكون صومها محصورًا في الصوم عن الكلام"، ويستنتج: "ما أحوجنا إلى صوم نجاهد فيه أنفسنا ضدّ البغض والكراهية والفتنة كي يعمّ الخير والسلام في ديارنا". ولكنّ مريم أيقونة الحرّيّة عند الأب جورج. فيشدّد: "حرّيّة مريم مصونة حتّى أمام قدرة الله العليّ. هو لم يلزمها بولادة المسيح، بل احترم الله حرّيّتها التي هو نفسه من وهبها إيّاها".  الأب جورج نقيض المفتّش الأكبر وأشباهه في المجتمع و الكنيسة. فهو يكتب لتكون الحياة للإنسان وافرة مزدهرة ضدّ كلّ ما يهدّدها من أهواء البشر وأنواء الظروف. و الحياة متّصلة اتّصالاً وثيقًا بهذه الحرّيّة التي تختم طبيعة الإنسان كصورة إلهيّة.

في مناخ المحبّة المجروحة التي تدمغ مقالات الأب جورج (مسّوح) تظهر لآلئ من الإنجيل منثورة بغزارة لتسائل القارئ في قضايا كثيرة. غالبًا ما يكون الله سؤالاً ملحاحًا لأجاباتنا المعلبة. يكشف الأب جورج أنّ حمل النبوءة لا يقتصر على أفراد بل تحملها الجماعة المؤمنة أيضًا. هذه نبوءة غايتها معرفة مواعيد الله ورحمته ومحبّته لشعبه وشدّه إلى المحبّة. لذلك يدفع الأب جورج المؤمنين والمسؤولين في الكنيسة والمجتمع إلى أن يضعوا نفسهم في حالة إصغاء، في انفتاح  لما يقوله الروح للكنيسة والعالم. كيف لا يطفئ المسيحيّون الروح ليكونوا على صورة سيّدهم الذي لا يطفئ الفتيلة المدخّنة ولا يكسر القصبة المرضوضة؟ هذا السؤال يطرحه الأب جورج، الآن وهنا، علّ الملكوت يخمر زماننا، من أجل حياة الإنسان.  

   

 

[1]- طبيب وعضو في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search