الكاهن الذي لبس المسيح قيافة
ج.غ.
قليلة هي المرّات التي التقيت فيها بالأب جورج مسّوح، لا بل معدودة. وكان معظمها إمّا في أروقة مطرانيّة جبل لبنان، أو في اجتماعات حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. جاءت هذه اللقاءات كلّها لتؤكّد لي الصورة التي تكوّنت في ذهني عنه بعد أن شاركت، صدفة، في القدّاس الإلهيّ يوم رسامته الشموسيّة في مدينة عاليه، ولفتتني العظة التي ألقاها المطران جورج (خضر) حيث توجّه آنذاك إلى "الحبيب جورج"، معتبرًا إيّاه من العلماء، ومكلّفًا إيّاه بأن تكون خدمته الخاصّة "أن يبلغ إنجيله في الكنيسة وخارج الكنيسة"، وطالبًا منه أن يكون "محاورًا للأمم... وأمينًا على إنجيل المسيح حيث نُطق بالعربيّة". وأذكر، بشكل خاصّ، زيارته مقرّ فرع الحركة في وادي شحرور، لمّا كان رئيسًا لمركز جبل، والفرح الذي بدا على وجهه، حين رأى أنّ مكتبة الفرع تضمّ كتبًا في الفلسفة والأدب والفن والسياسة إلى الكتب اللاهوتيّة والدينيّة.
وإذا كانت هذه اللقاءات العابرة لم تسمح لي بأن أتعرّف إلى الأب جورج عن كثب، فإنّ متابعتي كتاباته في مجلّة "النور" وفي جريدة "النهار" وعلى المواقع الإلكترونيّة، جعلتني أقدّر كثيرًا الفكر الذي يحمله هذا الرجل، لأنّني كنت أشعر أنّه كان يعالج الشؤون الإيمانيّة والكنسيّة والوطنيّة وفقًا للتقليد الأنطاكيّ المتأصّل الذي أطلقته حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، والذي أرساه البطريرك إغناطيوس الرابع والمطران جورج خضر وكوستي بندلي. وكانت إطلالاته تذكّرنا دائمًا بهؤلاء الكبار الذين تتلمذ عليهم ودرس نتاجهم، وتشبّع من إرثهم اللاهوتيّ والفكريّ.
رأيت في الأب جورج، الذي درس اللاهوت في معهد القدّيس سرجيوس، الذي أسّسه المهاجرون الروس في باريس، وعاصر عددًا من عمالقة اللاهوت الأحياء فيه، أمثال أوليفييه كليمان والأب بوريس بوبرينسكي، وتعمّق في معرفة كتابات الراحلين منهم أمثال فلاديمير لوسكي، وجورج فلوروفسكي، ونقولا أفاناسيف وألكسندر شميمين وغيرهم، امتدادًا لهذه المدرسة الباريسيّة ولفكرها العميق والمستنير والمنفتح في أنطاكية. وهذا جعل كتاباته تترجم إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة، ويقبل على قراءتها الكثيرون من داخل الكنيسة وخارجها.
ولعلّنا بغيابه، نقدّر أكثر الجدّيّة التي تميّز بها الأب جورج وإخلاصه للكلمة، ومثابرته على نشر الفكر الأرثوذكسيّ وتعميمه بانفتاح تامّ على الآخرين كلّ الآخرين، ومن دون أيّ تقوقع أو خوف. وإذ نعيد اكتشاف ما كتبه، ندرك أنّه في كتاباته قد أخلص إخلاصًا كاملًا للإيمان الأرثوذكسيّ وتأصّل فيه، متجاوزًا الحرف ومبتعدًا عن التزمّت في التفسير. فهو حرص في ما كتب، على احترام العلم والعلماء، لم يخف من الاعتراف بالبهاء الروحيّ وبالتجلّيات في الكنائس الأخرى والأديان. كان حسّاسًا لقضايا الإنسان المعاصر، ومناضلًا شرسًا ضدّ العنف والظلم واللاعدالة والفساد والطائفيّة والتعصّب الدينيّ والتطرّف والتمييز العنصريّ. وهذا جعل كتاباته تتجاوز في تأثيرها نطاق كنيسته وتخاطب الإنسان المتديّن وغير المتديّن.
ويلفت أيضًا في كتابات الأب جورج، الذي كان الكاهن الأرثوذكسيّ المحاور للمسلمين، تحسّسه العميق لقضاياهم، بالإضافة إلى التزامه المخلص بعلمانيّة الدولة وبالمواطنة وبحرّيّة الإنسان وحقوقه. والنضال الشرس من أجل القضية الفلسطينيّة، ومن أجل حرّيّة الشعب السوريّ، ومن أجل جميع المهمّشين في الأرض.
أتى الأب جورج من الكتاب المقدّس وتراث الآباء وليتورجيا كنيسته، وعمل على نقل فكر كنيسته إلى العالم بلغة حيّة محيّية تخاطب قلب إنسان اليوم وعقله. وميّز دائمًا بين السطح والعمق، بين الدائم والعابر، بين الحقيقة والتأويل، وبين الغثّ والسمين في تقليد كنيسته. وهو في كتاباته حاول أن يعبر بالمؤمنين من حالة الجمود إلى حالة من المساءلة المستقيمة الدائمة للتقليد. وحرص على أن يعالج القضايا الإيمانيّة التي يواجهها الإنسان المعاصر بلغة حيّة تخاطب إنسان اليوم وهمومه، وتقول له إنّ المسيحية ليست قوانين ومحرّمات بل هي "نار وخلق واستنارة".
كلفته شجاعته هذه، ومواجهته المُغالين في المحافظة التقليديّة على الشكل أكثر من المضمون، حملات ظالمة تعرّض لها حتّى أثناء مرضه. كما شوّهت هذه الحملات مضمون كتاباته، وتعرّضت له شخصيًّا. انطلق منتقدوه من أنّ "اللبوس هي التي تصنع القسوس"، متناسين أنّ هذا الكاهن ظلّ حتّى في أصعب أيّام مرضه، مخلصًا لنشر الكلمة بحدّتها وعريها ووضوحها ومنفتحًا على كلّ حوار بشأن ما يكتب.
واليوم إذ عبّر الأب جورج لملاقاة وجه يسوع الذي أخلص له، فإنّ كتاباته وتعاليمه ستظلّ أبديّة، وسيبقى هو في الوجدان الأنطاكيّ، كاهنًا أخلص لدعوته واعتبر العالم كنيسته وشهد للمسيح "هنا والآن".