2018

24- يوم رحل الشيخ، إلى الأب جورج الذي غادر باكرًا – أسعد إلياس قطّان – العدد الرابع سنة 2018

يوم رحل الشيخ

إلى الأب جورج الذي غادر باكرًا

أسعد الياس قطّان

 

 

بسط الفلاّح ذراعه وصوّب سبّابته إلى بيت يتكوّم فوق تلّة تشرف على سهل قمح: «هناك يسكن شيخ القرية أيّها الصديق».

لفت الرجل أنّ الفلاّح دعاه صديقًا رغم أنّه لا يعرفه. وإذا بمحدّثه يعاجله بسؤال: «هل لي أن أعرف، يا صاح، لماذا أتيت ديارنا وما هو السبب الذي يحملك على طلب شيخ القرية؟».

نظر الرجل إلى الأزرق المتربّع في كبد السماء كأنّه ينتظر منه جوابًا. بدا الامتداد كأنّه، لشدّة صفائه، لم يشهد مرور غيمة من ألف عام. ثمّ همهم: «أحمل له رسالةً».

«لقد حمي وطيس الشمس. ولكنّ الدرب ليس صعبًا»، هتف الفلاّح وقد ارتسمت على وجهه سيماء طمأنينة غير مألوفة. «ليس عليك سوى أن تتابع السير في محاذاة الزروع حتّى تصل إلى حقل القمح. ومن هناك تقصد التلّة. لئن يبدو تسلّقها شاقًّا، إلاّ أنّ الدرب إلى بيت الشيخ قليل التعرّج».

شكر الرجل صديقه الفلاّح، ثمّ انبرى يتقدّم في اتّجاه التلّة. لاح له البيت ذو الجدران البيض وكأنّه يتمطّى من شدّة الحرّ. ولكنّ هذالم يثنِهِ عن المضيّ. فشرع يحثّ خطاه صعودًا. حين قرع الباب، كان يتصبّب عرقًا.

«أهلاً وسهلاً أيّها الصديق، على الرحب والسعة. لم يكذب صوت قلبي. كان يحدّثني طوال الليل بأنّ ثمّة من سيصل اليوم. نسرين، يا نسرين، ضيفنا آتٍ من سفر بعيد. رافقيه إلى غرفة الضيوف وزوّديه بمنشفة كي يغتسل ويخلع عنه القيظ المتراكم على جلده. وقولي لوالدتك أنّ لدينا اليوم إلى مائدة الغداء من يسرّه بأن يتذوّق طعامها الشهيّ. لا شكّ في أنّك جائع جدًّا يا صاح».

لم يكن يتوقّع مثل هذا الاستقبال الحارّ. مرّة أخرى يحسّ بأنّ الكلمات الطيّبة قادرة على إلغاء الحواجز. دنت منه صبيّة مشرقة المحيّا، بسيطة الملبس، تنمّ حركاتها عن كثير من الدماثة، ودَعَته إلى مرافقتها.

«قولي لي، يا نسرين، هل من عادة والدك أن يفتح باب بيته ويستقبل زوّاره بنفسه؟».

لم يتأخّر الجواب. كانت كلمات الصبيّة تشي بذكاء مفرط يمتزج بشفافيّة آسرة: «حين يكون في البيت، هو يحرص على فتح الباب بنفسه لكلّ من يقرع. وهو غالبًا ما يردّد أنّ شيخ القوم يجب أن يبزّهم جميعًا في اللطف ومحبّة الغرباء. ولكنّ الوالد يغيب كثيرًا عن الدار بفعل انشغاله ومواظبته على الاهتمام بشؤون الناس. في مثل هذه الأحوال، نتولّى نحن هذه المهمّة».

أنصت الغريب إلى كلمات نسرين بانتباه، ثمّ سألها: «من تقصدين بكلمة نحن؟».

أجابت الفتاة باستحياء: «والدتي وبناتها الثلاث».

دقّت ساعة الطعام. فاتّكأ شيخ القرية مع عائلته وضيفه إلى مائدةٍ تجمع بين البساطة والذوق الرفيع. أخذ الضيف يروي حكاية لقائه بالفلاّح وكيف أحسّ بأنّه في قرية لا ينظر أهلوها إلى الغرباء شزرًا، بل يحتضونهم بلا جزع، وذلك بخلاف كثير من القرى والنواحي المجاورة حيث تستفحل الكراهية تجاه الوافدين من وراء الحدود بفعل الحرب وضيق الأرض. حين تكلّم الشيخ، رحّب بضيفه ثانيةً ودعاه إلى المبيت في بيته. ثمّ استفاض في التعبير عن قلقه من البغضاء التي باتت تهيمن على كثير من العقول لا في صفوف الجهلة فحسب، بل لدى العارفين أيضًا، ما يدلّ على أنّ المعرفة وحدها لا تقي بالضرورة من خطر الاستعلاء والاستغلاق.

ما كاد ينفرط عقد المتحلّقين حول المائدة، حتّى عبّر الغريب عن رغبته في الاختلاء بالشيخ.

«ترتاح قليلاً، يا صديقي، في حجرة الضيوف من تعب السفر، وتأخذ لنفسك قسطًا من النوم. ثمّ نتكلّم. هل أنت مستعجل؟».

أجاب الضيف وقد ارتسمت على وجهه معالم قلق دفين: «لم أخطّط للمبيت ههنا. والحقّ أنّي على عجلة من أمري. ولكنّي لا أرى مفرًّا من طاعة شيخ القرية».

«الشيخ يطيع الله»، قال المضيف بنبرة واثقة، «والله أوصى بضيافة الغرباء».

لم يخلد الغريب إلى النوم. فالأفكار التي كان تتطاحن في رأسه حالت دون استسلامه للرقاد. كان جموح الحرّ يضاعف من وخزها.

بعد القيلولة المزعومة، اصطحب الشيخ ضيفه إلى شرفة واسعة تطلّ على حقول القرية. كان سهل القمح يتلوّن في جماع الشمس بشيء من قوس قزح.

«ماذا وراءك يا صاح؟»، سأل الشيخ بحشريّة.

«المعلّم يطلبك أيّها الشيخ»، أجاب الغريب وهو يسرّح ناظريه بين الأرض والسماء.

راح الشيخ يتأمّل سحنة ضيفه محاولاً اختراق صمت نظراته، ثمّ هتف بارتباك: «وكيف أعرف أنّه هو مَن أرسلك؟».

بحث الغريب عن مكان يُسند إليه محجريه اللذين تلطّخا بخيط من عرق ودمع. ثمّ استقرّ ناظراه على بلاط الشرفة: «هو يعرفك منذ رآك تحت التينة».

أطرق شيخ القرية هنيهةً ثمّ دمدم كَمَن يسأل ذاته: «كيف أترك الفقراء والغرباء في هذه الناحية؟ كيف أترك الفلاّحين والكرّامين؟ كيف أترك القمح والأشجار؟ ألم يقل لك ماذا يريد منّي؟».

كاد الغريب يتلعثم فيما هو يتفوّه ببضع كلمات: «لم يسرّ لي بأيّ أمر آخر».

«غدًا نرحل»، قال الشيخ بلهجة ملتبسة.

ولكنّ الضيف الغريب استدرك: «بل الآن... وفورًا. لن يكون لديك متّسع من الوقت لتودّع أحدًا. هذه رغبته. هو يريدك اليوم في داره. لا شكّ في أنّ الأمر مهمّ جدًّا ولا يحتمل التأجيل».

في ذلك اليوم، أبصر أهل القرية شيخهم والضيف الغريب يخترقان الحقول في اتّجاه الشرق. كانت الشمس تتهيّأ للسفر إلى بقعة الظلام والأزاهير تقفل أوراقها استعدادًا لمخاض الليل.

أمّا في البعيد، على شرفة بيت التلّة، فكانت نسرين تغطّي مقلتيها براحتيها السمراوين فيما حقل القمح يتوهّج بلون ذهبيّ قال بعضهم إنّهم لم يروا مثله قبل ذلك اليوم الذي رحل فيه الشيخ.

 

 

 

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search