"يا فلاّح الأرض" (المطران جورج)
نقولا أبو مراد
هكذا ناداك من نشأنا على كلماته وأنت على عتبة الملكوت تلجه. ومعلّمنا يعلم حقّ العلم أنّ الإنسان إنّما خلقه ربّه ليكون حارثًا للأرض. تلك هي مهمّته الأولى والأخيرة. ففي الكتاب العزيز أنّ الربّ الإله جعل بين يدي الإنسان عين اليابسة التي كان هو قبلاً قد ألفاها بكلمته خليقةً جديدة. حتّى إذا ما حرثها وفلحها تتحوّل بحراثته والمطر الذي ينزله الله عليها سقيًا، إلى الجدّة التي جعلها الله أمامه مثالاً، فيغدو الإنسان، حينذاك، "صورة الله". بهذا يكون الخلق الأوّل، فعل الله، صراطًا للإنسان يسير عليه لعلّ اليباس الذي في هذه الدنيا وفينا يتحوّل بالكلمّة المنزّلة عليه حياةً كما شاءها ربّنا.
غير أنّ الإنسان، كما يعلّمنا الكتاب، شاء غير ذلك. ترك حراثة الأرض التي عهدها الله إليه وفلاحتها، ليرتمي في كبريائه إذ أغراه أن يكون عظيمًا متى قيّض له أن يفصل هو بين خيرٍ وشرّ، لا أن يستقي ممّن انتشله من ترابيّته "كلمات الحياة". كذا صارت اليابسة المعهودة إليه قفرًا يخرج "شوكًا وحسكًا"، بدلاً من أن تزهر اخضرارًا وتنمو وتصير بيتًا "بمنازل كثيرة". هدمت المنازل، وقتل الأخ أخاه، واستكبر البشر حتّى صاروا في أعين ذواتهم أنصاف آلهة أو آلهة، وشاؤوا لعمل أيديهم وجرمهم أن يعلو ويرتفع إلى السماء لعلّهم يجلسون هم على عرش الإله. أمّا الله الذي، لصلاحه، "لم يمقت جبلّته ولم ينس عمل يديه"، كما يقول باسيليوس في قدّاسه الإلهيّ، عاد فاقتاد الإنسان إلى القفر وعلّمه هناك أنّ الحياة لا تأتي إلاّ منه ولو استحالت في نظره، فأثمر إبراهيم اليابس إثمارًا إلى المنتهى، حتّى كان له الوعد بأبوّة الأمم كلّها، وهو بعد مطروحٌ في عقمه وشيخوخته ووحدته. وقد جعل الكتاب أمام أعيننا مثالاً لتحقّق هذا في من رذل من نسله على يد إخوته وأقصي، أمّا الله فأعطى به الحياة للكون كلّه، بفلاحة يوسف العبد البارّ، في عقر دار المستكبر الأوّل، ليعلم ذاك ونعلم نحن، ألاّ مناص من العودة إلى الدعوة الأولى، إلى فلاحة الأرض.
ما يقصّه علينا التكوين ليس ماضيًا عبر، بل هو واقع تاريخنا إذ نخالف الدعوة كلّ يومٍ، لقحطٍ في أنفسنا، وقد أهملنا حسن الأرض التي وضعها الله نصب أعيننا، وتعدّدت وسائل إهمالنا. والذي دعاك "فلّاح الأرض"، عرف أنّك قد رأيت أنت هذا الواقع، ووعيت الدعوة، وأيقنت ألاّ مفرّ أمامك من أن تحمل الكلمة، وتضع يديك على المحراث، ولا تنظر إلى الوراء. ورأيت اليباس في إقصاء الناس بعضهم لبعض في الدين والمواطنة والسياسة، وتآكل الحرّيّة واشتداد الاستعباد باسم هذه وتلك من الأفكار المظلمة، التي لا تعكس إلاّ استكبار البشر وأنانيّتهم واعتدادهم بذواتهم، وأنت عالمٌ أنّ ذلك بغيض في عيني سيّدك. وقد آلمك كثيرًا أن يكون أصحاب الدعوة هم أكثر من يسقط منها، إذ أشرت إلى ما يخالف الدعوة إلى أن نكون على ملء قامة المسيح، في ما بدا في كنائسنا وعند أصحاب المقامات من استغلال للدين لفرض هذه أو تلك من الممارسات التي فضحت أنت تفاهتها. ومن أكثر ما قلت فيه كلام الحقّ وقوع المسيحيّين في الشرق في زواريب قوميّات متنافرة، وكنت ترفض رفضًا لا هوادة فيه أن يسرب الشقاق القوميّ البغيض إلى كنيستك، واحتملت الكثير في أن تسمع هنا وهناك من مواطنيك ما ينمّ عن عنصريّة قصوى بين الإخوة. لعلّ الإنسان لا يريد أن يعيش على هذه الأرض إلاّ في أنانيّته يحياها في ما يعي وفي ما لا يعي.
غبت والشرور تزداد. والمستكبرون في هذه الدنيا يتحاربون والمساكين يسحقون. وتستأثر بالبشر النزعة إلى التسلّط، ويسمّر المسيح على الصليب كلّ يوم في وجوهٍ في هذا الشرق وفي نواحٍ أخرى كثيرة، فوجه المسيح المألوم لا يعرف دينًا أو طائفة أو عرقًا أو جنسًا أو قامة اجتماعيّة، وأنت علّمت هذا. وكأنّ قدر الإنسان أن يعيق زرع الكلمات المحيية، ليزرع هو في الأرض الخبث والظلم والقتل والإقصاء. ومع ذلك يبقى قول الربّ ثابتًا، "الحصاد كثير والفعلة قليلون". كنت أنت من القليلين الذين هبّوا إلى العمل مدركين عظم الحمل.
غير أنّ أجلّ ما فيك وأنت فلاّح تحرث وتبذر الكلمات أنّك تعلم أنّ الله هو الذي ينمّيها، لا أنت. فبقيت على تواضعك، لأنّه لم يغب عن بالك، ولا في أيّ لحظة، أنّ الإنسان هو أرض نفسه يدعها تحرث بالكلمات عينها فيما هو يحرث الآخرين، إذ إنّ الفلاحة هي فلاحة الله، وهو أيضًا لله كما هم. لم تبرّر نفسك في عينيك، بل تركت لله أن يرى برّك أو لا يراه. ولم تحسب ما عند غيرك من ضعفات وهفواتٍ سببًا لإقصائهم، ذلك بأنّك تعي أنّ ما عهد به إليك إنّما هو جفاف ويباس، وقد جعل بين يديك لأنّ الله يحبّه حبًّا عظيمًا. ولم تنس لحيظةً أنّك إنمّا أنت كرّام في كرم الله لا في كرمٍ لك. أحببت لأنّ التواضع يحبّ، أمّا الكبرياء فتبغض. يتسلّل إلى الكثيرين منّا وكأنّه "ملاك من نور"، إذ يظنّ البعض فينا أنّ برّهم لا يماسّ من يظنّون أنّهم دونهم فيه، وقد نسوا أو تناسوا أنّ المعلّم سكن إلى خطايانا وجعلها على منكبيه، وقال عن "الصغار"، الصغار في كلّ شيء، إنّ لمثلهم الملكوت. كنت أنت كبيرًا في تواضعك. وكنت تعرف أنّ كثرة العلم وعظم الشأن لا يمكن أن يحجبا عن عينيك صورة المسيح مصلوبًا. لم تدن من الشجرة التي نهاك الله عنها ونهانا، بل تركت يد الله تضع في فمك الغذاء الحقّ، كتاب كلماته التي صارت في جوفك وفي أسماع المتعلّمين منك وقلوبهم حلاوةً لا مثيل لها.
ولأنّه لم يغب عن نظرك السيّد المرفوع على الصليب احتملت بصبرٍ كبيرٍ آلامًا ممّا في هذه الدنيا من شرورٍ، وآلامًا من جسدك. لم يغلبك المرض بل غلبته، لأنّك تعرف أنّ الجسد ضعيف، أمّا الروح فعلى استعداد. هو الروح الإلهيّ المستعدّ على الدوام، وشراراته المرميّة فينا هي التي تقيمنا إلى استعدادٍ في انتظار دخول الختن إلى العرس. طوبى لك لأنّك كنت تحمل زيتًا يكفي لمصابيحك. رأيناك تدخل معه. أمّا نحن المطروحون في هذه الدنيا، فلا نزال نسعى هنا وهناك بحثًا عن نقطة من زيت لعلّنا نضيء الفتيل المنطفئ. سألك معلّمنا في وداعك أن "أذكرنا لأننّا ضعاف، أذكرنا لكي ينتشلنا الله واحدًا واحدًا من هذه الأرض". الأرض التي أشار إليها هي ترابيّتنا، ضعفنا، الجفاف الذي فينا وما فينا من هفوات. ختامًا لكلامي هذا إليك، وأنا قد كلّمتك في الجسد للمرّة الأخيرة، وكنت تعافيت من مرضك قليلاً، وكان وجهك يشعّ نورًا وفيك من الهدوء ما لا يقاس، إلى هذا الوجه أكرّر سؤال المعلّم أن أذكرنا دومًا، لعلّ الله ينير أمامنا الطريق، فينعم علينا بسيرٍ في إثرك وانضمامٍ إليك. ألا رحمنا من رحمك.