خرج الزارع ليزرع، "الآن وهنا":
قراءة في مقالات الأب جورج مسّوح
بيرج طرابلسي[1]
قبل أن يغادرنا الأب جورج مسّوح بالجسد ويعبر بالروح إلى الحياة الجديدة، صدر عن تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع م.م. (2018) كتابٌ بعنوان "الآن وهنا"، صغير الحجمِ من 255 صفحة، يتضمّن مجموعة مقالات قصيرة ومختارة وُضعت في عشرة أبواب رغم تشابكها وتواردها في العديد من الأحيان. إذ كان الأب مسّوح يشارك أفكاره مع قرّائه في وسائل إعلاميّة محلّيّة، منها صحيفة "النهار اللبنانيّة"، وموقع "ليبانون فايلز"، وموقع "النهار"، ليعيد نشرها لاحقًا، هو وآخرون، عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ ومنها الفايسبوك، بين العامين 2010 و2017. اختار الأب مسّوح بتأنٍ عنوان كتابه من كلمتين، "الآن وهنا"، واللتين تشكّلان عبارة لاهوتيّة شائعة الاستعمال "تفيد الزمان والمكان الراهنين". أراد الكاتب عبر كلماته المكتوبة "الاجتهاد" والتعاطي بشجاعة مع تحدّيات متعدّدة يواجهها الإنسان في زمننا الحاليّ، ضمن سياق راهن لا يمكن تجاهله، وذلك بخطوة تشبه خطى آباء الكنيسة ومعلّميها، كما أراد بذر أفكار لاهوتيّة-اجتماعيّة كان يراها أساسيّة لخدمة الإنسان والمجتمع، عساه بذلك يصوّب بوصلتهما في هذا العالم فيُؤسَّس لحياة مستقيمة تقوم على أركان أربعة وهي "التواضع والتوبة والمحبّة والغفران"، ولمواطنة تامّة ضمن شراكة مع الآخر في الحقوق والواجبات. كان هدف الأب مسوّح عبر إنتاجه الفكريّ الغزير والمتواصل "العبور" إلى ما هو أفضل، و"كسر الجمود" عبر "عدم القبول الأعمى" و"المساءلة المستقيمة الدائمة" لكلّ ما يُقال ويُكتب، على قواعد استعمال العقل و"الأمانة للإيمان المستقيم" وتعاليم الكتاب المقدّس والتراث الكنسيّ، وبالطبع حقوق الإنسان وبخاصّة حرّيّة الرأي والفكر والتعبير، حتّى لو تسبّبت أفكاره بمواجهة من يخالفه في آرائه ومقارباته بشكل عامّ، والمغالين من التقليديّين والانفعاليّين، أو حتّى التكفيريّين، بشكل خاصّ.
حسناً فعل الأب مسّوح في اختيار مقالة "ما بين التقليد والاجتهاد" (31 تمّوز 2013) لتكون مقدّمة كتابه. هذه المقالة، تصلح، بتقديري، لتكون خاتمته الغائبة إذ تلخّص لبّ فكر الكاتب ومنهجيّته القائمة على (أ) "تأوين" فكر الكنيسة "بما يتوافق مع الظروف"، و(ب) "التمييز" بين ما هو ثابت في التقليد، أي أسس الإيمان الجوهريّة (كالكتاب المقدّس والعقيدة) وما هو قابل للتعديل (كالقوانين والطقوس والفنون) –هذا "إذا ارتأت الكنيسة" ذلك، و(ج) "الاجتهاد" واستعمال العقل بهدف مواكبة المتغيّرات. وعليه، يعتبر الأب مسّوح أنّه "يتوجّب على الكنيسة أن تتجدّد دائما من دون تردّد أو خوف بذريعة الحرص على التقليد، بما أنّ الكنز فيها". قد يكون من الصعب وضع قاعدة واحدة وواضحة في مقالات الأب مسّوح المتعدّدة لتنوّع مواضيعها التي كان الحافز من كتابتها مخاطبته وتفاعله مع مواضيع الساعة، أكانت لاهوتيّة أم دينيّة أم اجتماعيّة أم سياسيّة، إلاّ أنّ القاسم المشترك فيها استشهاده بالآيات الكتابيّة واقتباسه تعاليم آبائيّة وتفضيله العقل والمنطق على المشاعر والعواطف. كان الأب مسّوح يختبر تجاوب القارئ مع أفكاره أو حتّى ردّ فعله قبل كتابته ونشره مقالاته، إذ كان يعتمد أسلوب الصدمة عبر العبارات والعناوين والأفكار التي كان يدوّنها على صفحته الفايسبوكيّة.
تطرّق الأب مسّوح في مقالات "الآن وهنا" إلى مواضيع عدّة لن نعمد إلى تلخيصها في قراءتنا هذه، بل سنترك للقارئ مطالعتها وتذوّق لغتها وتفنيد حججها ومن ثمّ تقويم معالجتها. وعليه، سنكتفي بانتقاء ثلاثة محاور رئيسة حاول الكاتب معالجتها رغم تعقيداتها وتشعّباتها ومفارقاتها، وهي: الإنسان، والجماعة، والوطن.
- الإنسان: ينطلق الأب مسّوح من قاعدة أساسيّة وهي أنّ الإنسان أسمى مخلوقات الله و"يملك روحًا وقلبًا وعقلاً"، وأنّ الله خلقه "حرًّا، عاقلاً، ناطقًا"، وهو مدعوّ إلى أن يسكن الله فيه ليصير "أبهى من الهياكل والكنائس والمساجد". أمّا المسيحيّ المؤمن فهو "ابن القيامة" ومدعوّ إلى أن يقتدي بالمسيح في كلّ شيء وذلك عبر عيش "فعل المحبّة المطلقة" حتّى الصليب، ليُصبح في ما بعد "من أهل بيت الله". يرى الأب مسّوح أنّ لا بهاء للإنسان من دون محبّة كلّ إنسان وخدمته ورحمته، والتفاعل مع الغريب، وضيافة الفقير، والاهتمام بالمعوز والجائع والمهجّر والنازح والمحتاج، مقدّمًا الشركة المادّيّة على تلك الروحيّة، ومؤكّدًا أنّ تجاهلها هو "نوع من أنواع العنف". كما أنّ المسيحيّة، حسب الأب مسّوح، "ليست ديانة تقبل بالازدواجيّة السلوكيّة في الحياة وفق حاجيّات الحياة الدنيا"، بل هي تقوم على "القاعدة الذهبيّة للشريعة الجديدة"، والملخّصة بالمعاملة الإيجابيّة والاقتداء بالمسيح، كما وردت في إنجيل متّى (7: 21). وعليه، "المسيحيّ ليس بالاسم فقط بل بالفعل". أمّا ذروة الخطيئة، فهي في قتل النفس وفي قتل "الله" و"الإنسان" في الإنسان الآخر. ويبقى "السلّم إلى الله"، والذي تحدّث عنه القدّيس يوحنّا السلّميّ، البوصلة الحقيقيّة التي توجّه الإنسان للوصول إلى الله، مع إمكانيّة السقوط حتّى من أعلى درجاته، ما دام الإنسان على قيد الحياة ومعرّضًا في أيّة لحظة للتجارب.
- الجماعة: ينتقل الأب مسّوح في تعاطيه مع الجماعة المسيحيّة بين مستويين، الكنسيّ في بعديه اللاهوتيّ والاجتماعيّ والطائفيّ في بعديه السياسيّ والاجتماعيّ. ففيما أطلقت الكنيسة الأولى دعوتها إلى تبشير المسكونة قاطبة في يوم العنصرة، صارت العنصرة يومًا بعد يوم "حياة الكنيسة الدائمة" و"تذوّقًا مسبقًا للملكوت الآتي" والمتجدّدة بفعل الروح القدس. يذكر الأب مسّوح أنّ معظم تاريخ الكنيسة هو "تاريخ شهداء عانوا مرارة الاضطهاد، وثبتوا على الرجاء والإيمان والمحبّة"، كما يتمسّك بالقول إنّ "المسيحيّة تدوم بالجهاد"، و"إنّ عصر الكنيسة الذهبيّ لم يكن عصر تحالفها مع الدولة"، بل عندما كانت تُبشِّر في زمن الاضطهاد. يشدّد الأب مسّوح على أنّ "الكنيسة لا يجوز لها، خوفًا من أيّ أحد، أن تفقد صوتها النبويّ الصادع بالحقّ". ويدعو المسيحيّين إلى قراءة كتاب الرؤيا، هذا الكتاب الذي يعتبره "كتاب الرجاء... بالربّ لا بالحاكم ولا بالسلطة ولا بالقوّة"، و"كتاب الثورة ضدّ السلطات الغاشمة"، مستخلصًا منه بعض العبر ومنها أنّ المسيحيّين "لم يمارسوا التقيّة للحفاظ على أنفسهم".
أمّا في ما يتعلّق بمسألة الوحدة الكنسيّة، فيؤكّد الأب مسّوح "أنّ سمة الجسد هي التنوّع"، وأنّ الوحدة لا تنحصر في القدّاس الإلهيّ والمناولة أو حتّى بالرئاسة الكنسيّة، بل تقوم على "مبدأ التنوّع واحترام الفرادة"، بالشركة مع الفقير وتقاسم الأرزاق، منتقدًا عدم التعاون بين الكنائس والأبرشيّات و"الانفصام في الشهادة الذي تحياه المؤسّسات الكنسيّة، وبخاصّة الاستشفائيّة والتربويّة". من جهة أخرى، ينتقد الأب مسّوح تحالف رجال الدين ورجال الدنيا على الله ومسيحه، "فيهملون الدفاع عن الإنسان المقهور، ويتهافتون على خدمة السلطة القائمة". وانتقد أيضًا أولئك الذين يفضّلون إقامة الرموز الدينيّة وبناء دور العبادة الضخمة على خدمة المجتمع والاهتمام بقضايا الناس وبناء المدارس والمكتبات العامّة والمقامات الثقافيّة والعلميّة.
- الوطن: يؤكّد الأب مسّوح أنّ المسيح "لم يأت ليؤسّس دولة" ولم يتجسّد من أجل أيّة مدينة أرضيّة، ولم يختر "أن يصير ملكًا أو أميرًا أو قائدًا عسكريًّا" في هذا العالم، بل أتى "ليَخْدُم وليبذل نفسه فداء عن كثيرين" (مرقس 10: 42-45)، وأنّ أمجاد المدن والأمبراطوريّات المسيحيّة قد انتهى، وأنّ هذه الممالك المسيحيّة "ربّما قدّمت (...) النموذج الأكثر قبحًا بين الدول عبر ممارساتها الوحشيّة وارتكابها الفظائع"، وأنّ المسيحيّة "تسعى إلى عالم أفضل" لكنّها لا تؤمن بوجود حرب مقدّسة تحت أيّ مسمّى أو شعار أو هدف، كالدفاع عن الوجود المسيحيّ أو حماية الأقلّيّات، و"لا أراضٍ مقدّسة في مقابل أراضٍ غير مقدّسة. فالأرض كلّها مدعوّة إلى القداسة عبر سعي القاطنين عليها إلى تقديس ذواتهم". لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأب مسّوح يميّز بين منطق الإنجيل ومنطق الدولة: "الإنجيل يقول بالمسامحة والغفران والمحبّة والعطاء المجّانيّ، الدولة تقول بالقصاص والسجن والقانون والضرائب...". كما يرسم مفارقة بين أولئك الذين يهربون من الاضطهاد إلى الراحة، والرسل الذي هربوا من الراحة إلى الاضطهاد. أمّا في ما يتعلّق بالوجود المسيحيّ في بلادنا، فيؤكّد أنّه خضع للحاكم المسلم منذ القرن السابع، لكن استمرّ "بنعم الله وبركاته"، وليس "بفضل قوّة أرضيّة أو سلطة زمنيّة، بل بفضل الروح القدس، بفضل العنصرة الدائمة". أمّا في ما يخصّ مسألة الحرب والعنف والانتقام، فيرى الأب مسّوح أنّ "مبدأ المحبّة أقوى وأكثر فاعليّة من مبدأ السيف". ويوضح أنّ الكنيسة تصلّي من أجل الحكّام السالكين في كلّ عمل صالح، وتفضّل "أن يكون الحاكم قدّيسًا كي يكون حرًّا من إغراءات السلطة والمال، فلا يسقط في التجربة"، لكنّه يؤكّد أنّ التاريخ يشهد بأنّ مثل هؤلاء هم قلّة. من جهة أخرى، يشدّد الأب مسّوح على أنّ المسيحيّين "هم ليسوا أهل كتاب ولا أهل ذمّة، ولا يرضون أن يكونوا في ذمّة أحد". وعليه، نراه يدعو اللبنانيّين إلى التعارف وليس فقط إلى التجاور، وإلى إقامة "الدولة المدنيّة" و"دولة المواطنة والقانون" (بدلاً من إحياء نظام الملل العثمانيّ!)، دولة غير طائفيّة حيث تُسند الوظائف "على أساس الكفاءة وليس على أساس طائفيّ"، وذلك عبر "فصل حقيقيّ بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة"، دولة تحترم الإنسان، وتضمن حرّيّة الإيمان والاعتقاد والتعبير، وتحدّ من سيطرة المؤسّسات والتيّارات الدينيّة ونفوذها على المجتمع إذ إنّ "سياسة الحظر والمنع لا تليق بأهل الإيمان"، ودولة تحرّر "الأديان من فساد المستولين عليها والناطقين باسمها".
في الختام، كان الأب مسّوح صوتًا صارخًا في برّيّة هذا المشرق، يبذر أفكاره يمنة ويسرة، عساها تثمر يومًا ما في أرض صالحة. إلاّ أنّ العقبات كبيرة وكثيرة، ومسارات التغيير شائكة، والفاعلين في هذا الحقل هم قلّة غير مؤثّرة، والمبادئ الوطنيّة والكنسيّة التي نادى بها قد لا يتبنّاها الآخر لتكون أرضيّة مشتركة مع مكوّنات المجتمع اللبناني كافّة وصخرة تُبنى عليها الأوطان المدنيّة. قد يستشفّ القارئ من مطالعته كتاب "الآن وهنا" أنّ الأهداف التي وضعها الأب مسّوح ستبقى خاضعة لجدليّة التوفيق بين المبادئ الإسخاتولوجيّة والمثاليّات الطوباويّة من جهة، والواقعيّة السياسيّة والنسبيّة من جهة أخرى. أخيرًا، سنفتقد الأب مسّوح في إطلالاته الإعلاميّة وفي كتاباته الأسبوعيّة، إلاّ أنّ الاجتهاد والتجديد والإصلاح في الكنيسة ستبقى كلّها ما دام ثمّة أناس يؤمنون بالحقّ الذي يحرّر ويشهدون له في حياتهم.
[1] باحث وأستاذ جامعيّ