مرافَقةٌ في نور
رينه أنطون
الأنبياءُ مُزعجون. صُراخُهم لا تألفه الآذان. كلماتهم تُنزِف الضمائر. جرأتُهم تهزّ الكيان وتَفضح الخنوع. يأتيكَ هؤلاء مُكلَّفين من فوق. يمرّون بكَ وَمضًا يُنذر برَعدِ الله فيك. يُقلقون راحتكَ ويزعزعون ارتياحكَ إلى ما اعتدتَه من عادات ومفاهيم. يُذكّرونك بأنّك في الأرض مولود من سيرة الرسل ومخبوز بوهج السماء، بأنّك ما وجدت لتحابي وجهًا بل لتحبّ وتصرخ بالحقّ في الوجوه، بأنَّ ما من شأن يعنيك غير أن تنقش حروف الكتاب في صخر النفوس، ولا مفاهيم تخصّك غير تلك التي تُتخمك بمشهد المصلوب منثورًا في القلوب وملكوته ممدودًا في الجروح. الأب جورج مسّوح، كلّما استباح ذاكرتي، حضرني هذا وعاينته معزوفةً بها ختَم الله فصلاً من فصول كنيسته فيها الكثير من تقاسيم الأنبياء.
فمَن عرف الأب مسّوح شهد لهذه التقاسيم نافرة في سماته. لم ينتم إلى أحدٍ غير الله. كلّ تصنيفٍ للرجل في هذا المصفّ أو ذاك خارج حصريّة هذا الانتماء هو جهل به. فهو أينما وُجد وعمِل، وإلى أيّة حالةٍ أو مؤسّسةٍ انتَسب، وأيًّا كان مَن أحبَّ ورافق وصادق وعاشر ورعى، لم يعنِه غير أن يكون صوتًا أمينًا لكتاب الله. من رحم هذه الأمانة، من التعلّق بها وحدها، وُلِدت حدّة تعبيره وجرأة طرحه. ليس من جرأةٍ تصدّركَ عنيدًا حادًّا في الحقّ، بمواجهة كلّ مَن تقتضي مواجهته، من دون أن تحابي رئيسًا أو رفيقًا أو أخًا أو صديقًا غير تلك المُكتَسَبة من كونك "لا تحبّ أبًا أو أمًّا أو أخًا أو ابنًا أكثر منه". هي الجرأة التي لم تخفت لدى الأب جورج يومًا لظرفٍ أو سبب، والحدّة التي، إن خَلَفت، لم يصنك من سهامها الإنجيليّة أن تكون معه في ساحة جهاد، ومبادئ، واحدة. ذلك بأنّ جورج مسّوح لم ينتسب إلى غير أثر الله في كلّ مبدأ ولم يرافق ويصادق غير هذا الأثر إن وُجدَ فيك. هذا لم يناقض تأصّله، الملحوظ، بالمحبّة وطاعة الأخوة وتعلّقه بهما. فإن مَنَّ الله عليه بأن يمقت المحاباة تميّز، كذلك، بفَهمٍ للمحبّة، عميقٍ، مَشبوكٍ بغاية محبّة الله للبشر، أي بالخلاص. لهذا ترى محبّته سمَت فوق الأشكال والقشور ونشدَت، بإصرار، أن تَرفعك الى المقام الذي يخدم خلاصك، أن تَصير بك ابن الكلمة صديق الأنبياء، أن تحرّرك من الخوف والتملّق والمسايرة والانحياز الى ما يُبعدك عن وجه الله، الحقّ، فيك. وإن شعر أنَّ بذور محبّته سقطت، لسبب أو لآخر ولظرفٍ أو موجبات، على صخرٍ فيك كانَ أن تألّقت طاعته للأخوّة صَمتًا وانكفاءً. وهذا، إن حَدث، ليس احتجابًا عنك بل إطلالة عليك من موقعٍ آخر، من نافذة الصلاة، عسى الأسباب تزول وتعود أنت تلميذ نبيّ. ليس أنت وحسب، بل كلّ من يحتاج إلى هذه العودة. جمَعتني به يومَا حلقة حوار، برئاسة راعي أبرشيّته، حول شأنٍ كتابيّ شكّل موضوع خلاف كبير. خالف مطرانه، المعلّم الذي يعشق، الرأي، قاطعه، وانبرى مدافعًا عن رأيه. بقدر ما أذهلني إصغاء المعلّم لتجلّي التلميذ وغناه اللاهوتيّ التعليميّ، أذهلتني، إلى ذلك، تلك الشجاعة والإصرار. وحين عاتبته، في أسلوبه، خارجًا أجابني الربّ لا يشاؤنا مُقيَّدين مُحابين لرؤسائنا ومعلّمينا بل أحرارًا مُحبّين.
لهذا فإنَّ أمرًا لم يغيّر من قناعة جورج مسّوح بحاجة حياة الكنيسة الدائمة إلى صرخة الله العالية فيها ومن يقينه لأنّ الله أوجدنا، نحن المسيحيّين، لنلقّح الأرض بفكره ونمدّ أثره في الكون. كما أنّ شأنًا، مهما عظم، لم يُفتِر حماسه لهذه المهمَّة. نحن تعلَّمنا من كوستي بندلي أنّ كلّما زرعنا هذا الأثر في حياة الأرض ونمّينا ثماره كلّما ارتاح الله فيها واقترب منّا الملكوت، ومِن جورج مسّوح تعلّمنا كيفَ بفنِّ النبوءة أمكن أن ننمّي هذه الثمار ونصوغها، بعيون البشر، لؤلؤة حقّ يتكيَّف بريقها مع كلّ قضيّة ووجه حياة تُزرَع فيه. لاقى هذا الأب نفسه هنا وتألّق هنا، في هذه الصياغة التي يتجنّبها الأكثرون. لاقى نفسه في أن يحمل الكلمة صرخةً في كلّ شأنٍ وقضيّة. لهذا لم تفُته قضيّة عيش ولا أزمة شعب ولا حالة ظلم ولا موضوع حياة إلاّ وصرخ بالكلمة فيه وإن أحيانًا، وحيدًا، أواجَه بصراخه الكلّ أم لاقاهم. ولعلّ الأهمّ الذي لم يفُته هو حراسة صورة ربّه وفكر إنجيله ولامحدوديّة فدائه، فانبرى لما يشوّهه ويحصره بمحدوديّة البشر وضعفاتهم لتَراه يجُنّ بالدلالة إلى مطلاّت جماله ونكهة فدائه، التي عَمَت العيون عنها، في هذا الفكر أو تلك العقيدة أو ذاك من الناس.
جورج مسّوح، إن شئتَ قراءته فلا تُصيب ما لم تتحرّر أنت من سطحيّة المظاهر وتنزَع عنك ركاكة الخزف لتغوص إلى عُمق الأثر. حينها تتجلّى حقيقته لك، وجهَ أبٍ وابنٍ نثرَ شذراتٍ من غضبِ أبيه في هيكلٍ ما زالَ يحتاج إلى الغضب، ومِن صُدقه في كثافة الرياء، ومِن فدائه في جماعةٍ ما زالت تتوه ما بين الأرض والسماء، ومِن حبّه في عالمٍ تأخذه الأحقاد، ومِن عدالته في شعبٍ ينحني للظلم، ومِن مجّانيّته في كونٍ تحكمه الأثمان. إن تحرّرت تجلّى لك جورج مسّوح تلميذًا لم يُنكر سيّده لحظة التجربة بل انجرف بحبّه حتّى الموت. فما معنى أن تستسخف الموت وأنتَ على أدراجه صاعدًا غير أنّك تُسحَر بما ستصل إليه، بأن تكون وجهًا من نوره.
يقول الأب إيليّا متري: "الوجه لا يُختَصر". الأب جورج مسّوح وجهٌ لن يُختَصر لأنّه امتدَّ في تقاسيم حياتنا أوتارًا من آلة ذاك الكتاب، على عزفها سنُطرَب، أبدًا، بالآتي.