2018

20- الأب جورج (مسّوح) غالب الموت – شفيق حيدر – العدد الرابع سنة 2018

 

الأب جورج مسّوح غالب الموت

شفيق حيدر

أين شوكتكَ يا موت؟

       مات جورج مسّوح! نبأٌ كنّا ننتظره لعلمنا أنّه يشكو من داء عضال خبرناه قاتلاً إذا ما ذاق المصاب به النكسات. خضع أخونا الأب الراحل لاستشفاء دقيق ولجأ إلى أحدث بروتوكولات العلاج. ورغم حدّة المرض ودقّة الاستشفاء كان للنبأ وقعٌ جَلل، لقد خلّف في النفوس غَصَصا وترك في العيون حَرَقا.

       صدمنا الفراق وعزّ علينا غياب الوجه والصوت، والرقة واللطف، والحدّة والجرأة. تذكّرنا أنّ قدسه ذهب إلى العلوم الطّبّيّة خضوعًا للعقل، العطيّة الثمينة التي خصّ الله بها الإنسان. ولكنّه ظلّ متيقّنًا أنّ الله وحده هو طبيب النفوس والأجساد. فصلّى وتضرّع، رجا أهله وأحبّاءه الكثر أن يرفعوا الأدعية ويكثّفوا الصلوات. فتحوّل الجميع، وسط لظى الألم ووهن الجبلّة، إلى جوق يرجو ليل نهار أن تمتدّ يد العليّ وتخفّف الأوجاع وتمسح الدموع وتزرع الرجاء.

       وهربًا من وطأة الخطب ووجعه، ومن الأذى الذي أصابنا من جرّاء غياب الحبيب، لذْنا براحلنا بالذات، عدنا إليه نشاركه لحظات صراعه الداء الخبيث، ومواجهته الموت الآتي، بصمود ثابت، وصبر جميل، وإيمان راسخ، وفرح منير. لم يخف راحلنا من موت تلمّس قربه. استقبله برضا، وأكاد أقول باغتباط، ونفض عنه حجارته الثقيلة ولسان حاله يردّد مع الذهبيّ الفم: "أين شوكتكَ يا موت؟ أين غلبتكِ يا جحيم؟ قام المسيح وأنتِ صُرِعْتِ..." (خطبة الفصح). صورة الأب جورج الصريع والصارع تبقى لنا درسًا ولا أفصح. علّم الكثيرين وقادهم إلى مناهل الخلاص، وها هو يغادر دنيانا الزائلة وهو يعلّم. القيامة  عنده خبرة وحياة.

من دروسه أيضًا     

       وإذا عدنا نستحضر حياة الأب جورج مسّوح، نستمع إليه، نرافقه، نتعلّم منه الكثير الكثير. إلى الدرس الأوّل الذي علّمنا إيّاه، ألا وهو أنّنا بالمسيح القائم من القبر ظافرون وغالبون الموت، نزيد درسًا ثانيًا وهو غيرته. "غيرة بيتك أكلتني" (مزمور68: 9). كانت حياة الراحل إخلاصًا أكيدًا لمسيح الإنجيل، وخضوعًا تامًّا للحبيب وكلمته. غار على وجه الإله، وجهد في سبيل أن يسطع بهاؤه، وتصدق إطلالته على الدنيا والعالمين. فها هو يتحلّى بجرأة كما إيليّا أمام كهنة البعل، وها هو يصدح ويعلو صوتُه كما الأنبياء والقدّيسون مؤنّبًا المسيحيّين الذين قادتهم أهواؤهم ومشتهيات أنفسهم إلى تشويه صورة الإله وتغريبه عن العالم. صرخ إزاء هذا التشويه المستشري: "أخذوا ربّي ولست أعلم أين وضعوه" (يوحنّا20: 13). اجتهد في مواعظه وأحاديثه ومقالاته أن يعيد السيّد بهيًّا برّاقًا وسط المسيحيّين وقد خانه العديد منهم.

       جورج مسّوح أعطانا درسًا في الإخلاص والصدق والجرأة والبذل والحبّ. سألته مرّة، وكان يرئس تحرير "مجلّة النور"، وكنْتُ قد دبّجت مقالة عنونتُها "تفشّي الداعشيّة"، والمقصود تفشّيها في أوساطنا الكنسيّة الأرثوذكسيّة أيضًا. سألتُه إذا كان يوافق على نشرها فما تردّد لحظة إذ رأى فيها فضحًا لاعوجاجات غريبة تسرّبت إلينا فشوّهت الإيمان وعطّلت شموليّة الخلاص وسرّبت ماكيافيلّيّةً إلى أذهان الكثيرين وجعلَتْ من العزّة الإلهيّة متراسًا نختبىء وراءه لفرض آرائنا وإرواء كبريائنا وتمادينا في الشرور.

       ومن دروسه الإقرار بألوهة الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، أي بأنّ الروح القدس إله تامّ، مساوٍ في الجوهر للآب والابن، وتاليًا هو حيّ ومحيٍ، لا يحصره عصر، يفعل فينا اليوم، كما عمل في الآباء والقدّيسين والمبشّرين، لنقل البشرى وإذاعة التعليم، وللعمل بقول المرنّم: "رتّلوا للربّ وباركوا اسمه وبشّروا بخلاصه من يوم إلى يوم، أعلنوا مجده بين الأمم وعجائبه بين الشعوب جميعها" (مزمور95: 2و3) .

       تحلّى راقدنا بالموسوعيّة. أقدم على العلوم وعبّ منها ليعمّدها. اطّلع على الأديان والحضارات وحاورها، من دون وجل، بثقة وإيمان. أبدى رأيه بصدق وأمانة. أحبّ العقل ونتاجه. هام بالمنطق وأقيسته. أمّا وقد استنار بنور المسيح فتلمّسه مضيئًا في علوم الدنيا، لامعًا في نتاج الإنسان. عكس المسيحيّة تعبيرًا فصيحًا فيما كان يعكسها حياة ولطفًا. وبسبب من تصرّفه العقلانيّ هذا تعلّم منه الكثيرون أن ينهجوا نهجه ويتبحّروا في العلم والمعرفة.

       وبإمكاني أن أتابع التعلّم منكَ يا أبتِ الحيّ إلى الأبد، ولكن حسبي الآن أن أكتفي بالقيامة التي جعلتك ظافرًا، والحكمة والقوّة اللتين أظهرْتَ في نقلك الكلمة الإلهيّة بحدّة وجرأة وصدق، وسعيِك الدؤوب في تنقية الإيمان من شوائب لحقَتْ به في التاريخ، وإيمانك الراسخ بالروح القدس إلهًا حيًّا، وموسوعيّةٍ عقلانيّةٍ مكنتْكَ من إشاعة النور الذي نعمْتَ به في دياجير العالم.

       إذهب عنّا مطمئنًّا وانعم في عليائك إذ تلاحظ شريكة حياتك ورفيقة دربك ونزيلة قلبك مع زهراتك اليانعات وأحبّائك الآسفين العديدين يصرخون، في التصرّف والحياة، وبأعلى الصوت: "أمّا وقد ذقنا قيامة المسيح فالعزيز جورج قائمٌ معه حيًّا إلى الأبد".  

 

            

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search