مهما نأيت ستدنو
محمود درويش
طارق متري
توطّدت معرفتي به، وصداقتنا، أيّام دراساته العليا في باريس وروما. أدعو ألاّ يقطعها رحيله عنّا. فالله أكرمني بها وما زال. بالأمس رأيت صورة له معلّقة على جدار القاعة المجاورة لكنيسة عاليه. أعادتني إلى لقائنا الأوّل ابتسامته الرزينة كما الجرأة في عينيه، وهما كنافذة على عوالمه الداخليّة وعلامة واحدة على طرائق خدمته المتعدّدة.
كثيرًا ما جهد، في غير مجال، من أجل تجاوز الثنائيّات العقيمة التي تطبع وجوه حياتنا العامّة كافّة. حاذر الاكتفاء بفضائه، فضاء جماعته الخاصّة وانتمائه الأوّل وآرائه وخياراته، ولم ينزع إلى الانكفاء عند مقاساة الألم والخيبة. لم تصرفه الروحانيّة عن العقلانيّة. بل سعى إلى التأليف بينهما حيثما دعته قواعد النزاهة وروح المسؤوليّة. وشدّد على التمييز بينهما عند اختلاط الدوافع والمسوّغات في نواحي الحياة المحاطة بالغشاوة. ولم يرتض قطّ مراعاة الذين يحسبون أنّ طلب الفضائل الكبيرة خير من التمسّك بالفضائل "الصغيرة" وأنّ الإكثار من التديّن يعفي المؤمن من الالتزام بمكارم الأخلاق، الفرديّة والجماعيّة، وبلطف المشاركة في العيش معًا.
ولم تنفصل هموم الرعاية عنده عن مشقّات التفكّر والكتابة والبحث العلميّ وحلاوتها. ولم يهرب من هذه إلى تلك، استسهالاً أو إعراضًا عن الخوض في المسائل الشائكة. ولم يغنه الانكباب على تراث كنيسته الخاصّ عن الرغبة في معرفة تراثات الكنائس والأديان الأخرى، والنظر في قديمها وحديثها، فضلاً عن تذوّق الجمالات في خبرة مؤمنيها وكتّابها. وآلمه جنوح البعض إلى التضييق على مآرب الله الخلاصيّة في حدود جماعاتهم التاريخيّة وكأنّهم يملكون الحقّ في نفي سواهم بعيدًا من ملكوت الآب.
في كلّ ذلك، قال بالحرّيّة، لا شغفًا بالتمايز والتفرّد بل لاعتبارها صنوًا للصدق وشرطًا للشهادة الحقّ. وجازف، غير مرّة في حياته الجامعيّة، بعدم الانسياق وراء المألوف أو الظاهر من الوعي بمصالح الجماعة المفترضة. وفي غير حالة، آثر الإحجام عن الانصياع إلى الرأي السائد إن لم يكن سديدًا، حين يميل أهل السلطة أو اصحاب القرار إلى الاستنساب أو التسلّط.
جدّد معرفته بالتقليد الأرثوذكسيّ الحيّ، مستلهمًا عناصر الجدّة التي تنفذ إلى أعماق الإنسان المعاصر، من دون أن يقع في حبائل تلك الأرثوذكسيّة التقليدويّة التي لا تستحضر الماضي قدر ما تعيد تشكيله أمام أعيننا لكي تتوسّله في سياسات الهويّة. ورفع قيم الإنجيل فوق هواجس الهويّة الطائفيّة بل واجه ضغوط الثانية بالطاقة الروحيّة التي تولد من رحم الأولى. وتبصّر في مخاطر الانزلاق إلى تغليب الخصوصيّة الطائفيّة على الوعي الكنسيّ، كما نرى عند فئة من السياسيّين والدينيّين ومعهم بعض الطامحين إلى الوجاهة، والانشغال عن المضمون واستعبار التاريخ برسم الحدود مع الآخرين عوضًا من بناء الجسور إليهم. وما غرّه يومًا الحديث الملتبس عن "الوجدان الأرثوذكسيّ" ومعه التفجّع الأقلّويّ الذي يبرّر عند أصحابه سكوتهم عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الناس وعن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة وإدارة ظهورهم لتوق الأكثريّات والأقلّيّات، معًا أو بالتوازي، إلى العدالة والحرّيّة. بتضامنه مع الضحايا، على اختلاف انتماءاتهم، ظلّت عينه مشدودة إلى المحبّة الإنجيليّة التي لا حدود لها. وتطلّعت عينه الأخرى إلى المصيريّات، في ما يتعدّى الحسابات الصغيرة والقصيرة النظر، تاركًا "اللحى للحلاقين" حسب قول البطريرك بطرس الأنطاكيّ عند الخلاف مع روما.
سلام عليه في حضوره وسلام عليه في غيابه. نقول له بكلمات محمود درويش " اقترب منّا لنعرفك، ابتعد عنّا لنعرفك"