تحقيق
الأب جورج مسّوح، قصّة عشق
إعداد النور
من قرية التوت والكرمة والزيتون،
من قرية سرحت في غاباتها النمور،
من سلالة السلوقيّين والفينيقيّين والآشوريّين،
من حبّنمرة التي تقع على طريق الحرير التي تصل الداخل بمدينة عرقا اللبنانيّة،
من حبّنمرة الجبليّة في وادي النصارى،
من حبّنمرة التي سكنها الرهبان وبنوا فيها الأديرة،
من حبّنمرة التي كثرت فيها الكنائس والأديرة، جاء إبراهيم إلى لبنان العام 1943 أملاً بمستقبل أفضل وبغد واعد، وكان عمره حينها ثماني عشرة سنة.
تنقّل في لبنان وتعرّف إلى جورجيت الفتاة العكّاريّة الهادئة الرقيقة فأخذت بمجامع قلبه، وكان زواج أرثوذكسيّ العام 1958 جاءت ثمرته ثلاثة أولاد وثلاث بنات.
في حيّ الزعيتريّة المختلط عاشت العائلة أيّامًا سعيدة في جوّ من المحبّة والسلام رغم الظروف الاقتصاديّة الصعبة.
وامتلك إبراهيم دكّانًا داست عتبته أقدام المسلمين والمسيحيّين على السواء، وكان المعلّم إبراهيم الدكّنجيّ المسالم والمحبّ للجميع من دون أيّ تمييز. حتّى إنّه عندما كان المسلمون في حيّ الزعيتريّة يجمعون التبرّعات لبناء جامع كان إبراهيم أوّل المتبرّعين.
من هذه الخلفيّة المفعمة بعبق التاريخ، ومن هذه البيئة المختلطة جاء جورج إبراهيم مسّوح، فمن هو؟
توجّهت مجلّة النور إلى شقيقه الأكبر جوزيف محاولة رسم ملامح شخصيّة الطفل والشابّ جورج.
أبصر جورج، كما تصرّ والدته على تسميته رغم انتقاله إلى الأخدار السماويّة، في سدّ البوشريّة، ساحل المتن الشماليّ، في الثاني من كانون الأوّل 1963 في يوم ذكرى النبيّ حبقوق والقدّيس بورفيريوس الرائيّ. ومع الأيّام اكتسب جورج، على شاكلة حبقوق النبيّ، محبّة القريب والبعيد فلم يقبل بالظلم أيًّا كان شكله ومصدره، وندّد بالعدوّ الخارجيّ بخاصّة في ما يتعلّق بفلسطين المحتلّة.
تعرّف إلى الإسلام وإلى المسلمين من حيّ الزعيتريّة فنشأ على عدم التعصّب، والفضل في ذلك لأبيه إبراهيم الذي كان مثالاً حيًّا في التعايش.
منذ صغرة عشق الكتاب والعلم، ففي حين كان أولاد الحيّ يلعبون ويلهون كان جورج منغمسًا في القراءة. كان بعيدًا كلّ البعد عن شقاوة الأطفال وعرف الجميع أنّ توجّهه كان مغايرًا، وأنّه كان جدّيًّا في الدراسة في ثانويّة الجديدة أوًلاً، وفي ما بعد في كلّيّة العلوم في الجامعة اللبنانيّة في المنصوريّة، وهو لم يأبه بتعليقات رفاقه الذين كانوا يسخرون من التزامه العلميّ. ورغم الحرب اللبنانيّة الأهليّة لم يحمل جورج السلاح ولم ينتم إلى أيّ حزب بل كان يمجّ الاقتتال بين الأخوة، كما نلاحظ في ما كتبه في مقالاته لاحقًا.
لا شكّ في أنّ جورج الشابّ تأثّر بوالده وأخذ عنه حبّ الاطّلاع والمطالعة. فأبوه كان قارئ صحف من الدرجة الأولى وكان يتابع الأوضاع السياسيّة في البلاد عبر جريدة النهار التي كانت تصل إلى الدكّان كلّ يوم. قرأ جورج النهار، في الدكّان حيث كان يساعد والده، وكان بعد في السابعة عشرة من عمره، وقاده فضوله إلى المزيد من المعرفة فواظب على قراءة مجلّة الحوادث. كان قارئًا نهمًا للروايات العالميّة وأسّس مكتبة في المنزل، خصّص له شقيقه جوزيف رفوفًا خشبيّة كادت تهوي من ثقل الكتب عليها.
انتقل إلى كلّيّة العلوم في الجامعة اللبنانيّة وتخرّج منها حاملاً إجازة في الرياضيّات العام 1987. في الجامعة انخرط جورج في نشاطات الشبيبة، ومن هناك انتقل إلى العمل الحركيّ في مطلع الثمانينات، فأصبح رئيس فرع الجديدة ولاحقًا رئيسًا لمركز جبل لبنان.
لم تكن العائلة مواظبة على القدّاس الإلهيّ في كنيسة مار يوحنّا الجديدة، قبل مجيء الأب نقولا حدّاد. لاحظ الأب نقولا حماسة جورج في خدمة الكنيسة والشباب فشجّعه على الكهنوت لكنّ جورج رفض. إلاّ أنّ إرادة الله كانت هي الأقوى، ففي محاضرة للمطران جورج خضر قال سيادته إن الكنيسة بحاجة إلى رجال دين متعلّمين ولا مكان بعد الآن لكهنة جاهلين. تأثّر جورج الشابّ بهذا المطران وبكلامه، فتوجّه إلى برمانا وقابل المطران جورج ودار بينهما هذا الحديث:
- جورج: أريد أن أصبح كاهنًا.
- المطران: ماذا تحمل من شهادات؟
- جورج: أنا أحضّر إجازة في الرياضيّات، وأريد أن أذهب إلى معهد اللاهوت في البلمند.
- المطران: أكمل الإجازة ثمّ تعال.
أنجز جورج تحصيله العلميّ وعاد إلى برمّانا لكنّ المطران جورج، بدلاً من معهد اللاهوت في البلمند، أرسل الشابّ جورج إلى معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في فرنسا، ربمّا لأنّ سيادته توسّم فيه خيرًا للكنيسة.
في العام 1991 حاز جورج إجازة في اللاهوت من معهد القدّيس سرجيوس، أتبعها في العام 1992 بشهادة الماجيستير.
ترك باريس إلى العاصمة الإيطاليّة روما حيث حاز شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلاميّة المسيحيّة، من المعهد البابويّ للدراسات العربيّة والإسلاميّة عن أطروحته التي حملت عنوان "المواضيع المسيحيّة في أعمال رجال الدين المسلمين في لبنان بين 1975 و 1996". في روما عاش جورج في دير الآباء البيض مدّة سنتين، وكما ذكر لشقيقه جوزيف إنّه يتعجّب من هؤلاء الآباء الذين لم يطلبوا منه ولا مرّة أن يتناول القرابين المقدّسة في كنيستهم رغم أنّه كان يحضر القدّاس الإلهيّ معهم. وكان ليتناول القربان المقدّس في الكنيسة الأرثوذكسيّة كان يضطرّ إلى قطع مسافة طويلة. وفي روما أيضًا اقتنع بالزواج وبضرورة أن يكون الكاهن متزوّجًا حفاظًا على عفّته وسلامه.
في كلّ هذه المرحلة كان جورج يصر على العودة كلّ صيف إلى لبنان، حيث ينهمك بالإرشاد وتنظيم الندوات والمحاضرات. وغدت فكرة الكهنوت تدغدغ مخيّلته، شجّعه على ذلك رفاقه في الحركة والكهنة من جهة، ومن جهة والده رغم رفض الوالدة.
في فرع الحازميّة كان مرشدًا لفرقة العاملين، وهناك التقى رفيقة دربه وحبّ حياته ماغي وهبه، وقاده هذا الحبّ إلى الارتباط بحبيته وإلى الزواج في كنيسة رقاد والدة الإله في المحيدثة العام 1995. ورزق بثلاث بنات رزان ونور ورنا فكنّ بهجة حياته.
في العام ذاته تولّى منصب المدير المسؤول في مجلّة النور التي تصدرها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة حتّى العام 2006، ولا نخفي سرًّا إن قلنا إنّه بقي مسؤولاً عنها معنويًّا، وبقي يرحّب باجتماعات أسرتها في منزله بعاليه حتّى في أدقّ مراحل مرضه، وبقي يزيّن، صفحاتها بمقالاته حتّى آخر رمق.
وفي العام 1995 أيضًا عيّن مدير مركز الدراسات الإسلاميّة- المسيحيّة في جامعة البلمند، واستقال من هذا المنصب العام 2009، بعد أن نظّم المؤتمرات والندوات وأصدر الكتب والمقالات التي تعنى بالعلاقات بين الديانتين، ولا سبيل إلى ذكرها هنا لسبب كثرتها.
وتحقّق حلمه بحما رسالة الكهنوت حين رُسم كاهنًا على رعيّة القدّيس جاورجيوس في عاليه العام 1997، فكان الكاهن الذي شجّع على عودة المسيحيّين إلى الجبل بعد الحرب المدمّرة، وعمل على ترميم الكنيسة المتداعية والتي أصبحت أجمل ممّا كانت عليه. وكان أيضًا الكاهن الذي آلف بين القلوب وحرّض على المحبّة بين أبناء الجبل، وبذل الغالي والنفيس في سبيل التعايش الصادق.
بين 1995 و1997 عمل أستاذًا محاضرًا في جامعة البلمند،
بين 1997 و2010 أصبح أستاذًا مساعدًا في جامعة البلمند،
بين 2010 و2014 غدا أستاذًا مشاركًا في جامعة البلمند.
في هذه السنوات كلّها خرّج أفواجًا من الطلاّب ليس فقط في الجامعة المذكورة إنّما في جامعات ومعاهد أخرى. فمنح سنوات عمره يزرع في طلاّبه حبّ المعرفة وعدم التعصّب والانفتاح على الآخر ويحثّهم على المحبّة والدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته في أيّ بلد وجد وإلى أيّ دين انتمى.
وبعد أن كان قارئًا لجريدة النهار أصبح أحد المحرّرين فيها منذ العام 2004، فكانت له مقالة أسبوعيًّا تعنى بالشؤون الدينيّة والثقافيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وكانت له مواقف مشرّفة في المجالات كافّة، وظلّ يرسل مقالته إلى جريدّة النهار حتّى في غرفة المستشفى.
لم يتعب الأب جورج من المشاركة في المؤتمرات العلميّة والدينيّة في لبنان والخارج، وترك لنا إرثًا كبيرًا، على كلّ محبّ للكنيسة أن يتبحّر به. كما حفر اسمه في سجلّ كنيسة أنطاكية كواحد من عظمائها.
أبونا جورج جاء والدك من حبّنمرة ولم يدرك أنّه أنجب نمرًا، كنت نمرًا في كلّ مواقفك، ولم تخش شيئًا ولا أحدًا، بل كنت مدافعًا عن الحقّ دائمًا.
أبونا جورج سنظلّ نكحّل عينينا بجمال قلمك وعباراتك، ونردّد مع حبقوق النبيّ "أمّا البارّ فبأمانته يحيا". عشقت كنيسة الربّ وترجمت قصص عشقك بين رعيّتك وطلاّبك ورفاقك في الحركة، فكنت العاشق الأكبر. وقلت مع حبقوق:
"أمّا أنا فأتهلّل بالربّ وأبتهج بإله خلاصي وهو يجعل قدميّ كالأيائل".