2018

14- جورج مسّوح عينٌ تخترق لجاجة الاعتياد العظيم – مارلين كنعان – العدد الرابع سنة 2018 – العدد الرابع سنة 2018

 

جورج مسُّوح، عينٌ تخترق لجاجة الاعتياد العظيم

 

 مارلين كنعان[1]

 

ليس من شكّ في أنّ الأب جورج مسُّوح المتأصّل في إيمانه المسيحيّ وفي ثقافته المنفتحة على الآخر، لاسيّما على الإسلام والمسلمين، والذي ترأس مركز الدراسات المسيحيّة- الإسلاميّة، ودرّس في "برنامج الثقافات والحضارات" وفي معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ في جامعة البلمند، هو رجل علمٍ وإيمان. وقد حمل لواءهما، بعد أن وشّحه الله برسالة الحوار مع الآخر المختلف، الذي كرّس له بحثه العلميّ، هو المسيحيّ العقيدة والمعاملة والخلق. ولعلّ إيمانه العميق بضرورة الاختلاف و"كلمة سواء" هو الحبل السُّريّ الذي ربطه بالآخر وميّزه عن غيره ممّن تعاطوا مسائل الحوار والعلاقات بين الأديان.

 أتى جورج مسوُّح إلى الدراسات القرآنيّة التي تتعلّق بالمسيحيّة، وبالدراسات المسيحيّة التي تتعلّق بالإسلام من الرياضيّات واللاهوت الأرثوذكسيّ، بعد أن توغّل في دراستهما برصانة فكريّة مشهود لها، ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالموضوعيّة والمنطق الصارم. فبعد نيله الإجازة في الرياضيّات من الجامعة اللبنانيّة، والإجازة والماجستير في اللاهوت من معهد القدّيس سرجيوس في باريس، والدكتوراه من المعهد البابويّ للدراسات العربيّة والإسلاميّة في روما تحت إشراف الأب موريس بورمانس، مستشار المجلس البابويّ لحوار الأديان، وبعد أن بدأت، في هذه المعاهد الراقية، ثنائيّة العقل والإيمان تتشكّل في ذهنه لتحددّ مصيره والمسار، التحق الأب مسُّوح بجامعة البلمند، أستاذًا لموادّ تناولت أصول الأديان السماويّة وعقائدها ونصوصها الأساسيّة ومشتركاتها الثقافيّة والفكريّة، فضلاً عن مسائل النهضة العربيّة في "برنامج الثقافات والحضارات".

 كان عليّ بصفتي منسّقة البرنامج آنذاك، وبطلب من عميد كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، إجراء المقابلة الأولى معه، ولم يكن قد سيم بعدُ كاهنًا. لفتتني في الشاب معرفته الواسعة باللاهوت والآداب والفلسفة وتاريخ الأديان والحضارات، وقد استوقفته الجماليّات الفكريّة والفنّيّة والدينيّة أيًّا كان منبتها. ودار الحديث بيننا عن التعليم والكتب والروايات، لاسيّما رائعة غبريال غارسيا ماركيز "الحبّ في زمن الكوليرا"، وعن تفسير النصوصِ الآبائيّة اليونانيّة وعلاقتها بالفلسفة وعن التاريخ العربيّ الإسلاميّ، فاذا بي أمام مثقف لا يرى في المعرفة دغدغة عقليّة أو ترفًا مستقلاًّ عن الحياة اليوميّة، بل سبيلاً لفهم مسائل الكِيان والوجود.

 وبعد أن سيم كاهنًا باستحقاق، ها هو الأب جورج مسُّوح زميلاً عزيزًا، سرعان ما انغمس في مسالك التعليم والإدارة الأكاديميّة، مترئّسًا مركزًا للدراسات، منسّقًا المؤتمرات، ملقيًا المحاضرات ومشرفًا على عددٍ من المنشورات والرسائل والأطروحات الجامعيّة المرتبطة بمجال اختصاصه.

 ومع توالي السنين بدأ زميلي، إلى جانب دراساته الأكاديميّة، الإطلال على الكتابة الصحفيّة وعلى النقاشات الفكريّة الدائرة عندنا وحولنا، عبر مقالات وضعت على طريقة "صيد الخاطر" لابن الجوزيّ. تناولت هذه المقالات شتّى المواضيع السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة الراهنة، فجمعت حوله العديد من القرّاء، عاديّين وغير عاديّين، مسيحيّين وغير مسيحيّين، دمج فيها الحدث السياسيّ مع التاريخ واللاهوت والأدب في مسارٍ واحد، مشّكلاً بحسّه الأكاديميّ والكهنوتيّ مقالات ذات بعدين يوميّ ودينيّ- روحيّ.

فالأب جورج مسّوح، على غرار أسقفه جورج خضر، أديب مقالة، خطّ معظمها بلغة النبوءة العربيّة. مقالاته التي نشرها على مدى سنين في زاويته الأسبوعيّة على صفحات جريدة "النهار" اللبنانيّة، في نسختيها الورقيّة والإلكترونيّة، وإطلالاته التلفزيونيّة والإذاعيّة، حاربت الجهل والتجاهل والتسليم الأعمى والبلادة الفكريّة والسطحيّة التي تفتك بالإنسان الشرقيّ وفتحت بصر التفّكر لكثيرين.

 اتّخذت هذه المقالات من الالتزام جرسًا تقرعه للتائهين والضالّين في قضايا الكنيسة المشرقيّة وقضايا العالم العربيّ واللبنانيّ. كما عالجت بجرأة مسائل أثارت جدالات عميقة، طارحةً بعمق ووضوح إشكاليّات "الآن وهنا"، بعيدًا عن الشعبويّة واللغو والكلام المنمّق، متوسّلةً "كسر الجمود وعدم القبول الأعمى" بكلّ ما يقوله التقليد من كنسيّ واجتماعيّ وسياسيّ، منتقدةً عدم إعمال العقل والطائفيّة والأنانيّات المتحكّمة في الكنيسة والوطن، مدافعةً عن الإنسان والدولة المدنيّة وفصل الدين عن الدولة وعن قيم الحوار والسلام وقيام نهضة روحيّة. ولئن كان للمسيحيّة نصيب مرموق من هذه المقالات، كذلك كان للإسلام وهمّ تعامله مع المسيحيّة والمسيحيّين حصّة فيها.

لم تكن هذه المقالات النقديّة التي وقّعها جورج مسُّوح مرجرجة الفكر، وما كانت المواضيع التي عالجتها إلاّ فرضيّات إجابة غير مطمئنّة ولا مطمئِنة للسائد الفكريّ. فكاهن الله الواقف على باب إيمانه المفتوح على الماضي وعبق التراث واطمئنانه إلى صوت الأوّلين، والواقف أيضًا على باب الجامعة والعلم الحديث المفتوح على المستقبل والمساءلة وإعادة الاستماع إلى الأوّلين، انطلق إلى العالم بجِرابَيْ زاد معرفيّ أحدهما تراثيّ والآخر حداثيّ، وبرز في كليهما. فانطلق لسانه صدّاحًا في مقالات بعيدة عن المجاملة، لاذعة أحيانًا، لكنّها ثاقبة في موضوعيّتها وفي تركيزها على الإنسان. هذه المقالات التي نشرها وجمعها مبوّبة بحسب المواضيع في كتابين، شكّلت نوعًا من سوط، ساهم في إيقاظ كثيرين ممّن تخدّرت حواسّهم في جلسات طويلة ونقاشات لا تنتهي وسبات فكريّ عميق.

عرف الأب جورج مسُّوح أنّ الجهل وغياب الروح النقديّة في مجتمعاتنا هما أساس كلّ رذيلة. لذا،  حاول في جميع كتاباته التشبّع بالمعرفة الوثقى، وهي شرط التعارف، متجنّبًا ما كان يسمّيه سبينوزا المعرفة بالسمع. فنادرًا ما كان يترك الكتب، حتّى تلك المرميّة من عهد نوح، وقد اعتبرها مساحات سلام وتنفّس، بعد أن قرأ وتدارس العديد منها في شتّى الميادين، فتكشّفت له في أبهى معانيها. كتب من وحيها واستشهد بها، صائرًا هو نفسه كتابًا ومقرّ كلمة. لكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ ما كتبه وقاله صحيحٌ. ثمّة ما يناقش ويجب أن يناقش في مقالاته. لكنّ قراءته المتأنّية والنقديّة والشجاعة لتقليدنا وحاضرنا، فتحت الطريق لمثقّفي اليوم والغد للاستمرار في مسيرته، بعد أن علّمنا السير في مسالك التقليد كأنّه امتداد للمسيح وللتاريخ والزمن والوطن. وعلّمنا كذلك أن نرسم من داخل هذا التقليد وفي مساحاته الواسعة، مسالك نطرح عبرها قضايا العقل، حتّى نلج لبّ المعرفة اليقينيّة، تلك المعرفة المؤسّسة على أرضيّة صلبة والتي تجعل الأنا غير ناتئ، لعلّه يكتشف الأوثان التي تمنعه من التعاطي الصحيح مع الدين والدنيا.

 ويهمّني أن أشير، ههنا، إلى أنّ الأب جورج مسُّوح في كلّ ما كتب، لم يكن بحاجة إلى أن يثبت للقارئ شيئًا عن ذاته، بل كتب لكي يُقرَأ ويشهد للحقّ، وكان في غنى عن الادّعاء لأنّه حقيقيّ حقًّا. فهو لم يمدّد نفسه مفتخرًا إلى ما لا يقاس، بل ارتجى تبليغ ما يعرف إلى الآخرين.

من أراد أن يفهمه لا بدّ له من البدء من باب الإيمان، فالعقل، أو قل من باب العقل فالإيمان، إذ إنّه من هناك بدأ وإلى هناك انتهى وقد فاض في هواه بين الاثنين. الإيمان عند جورج مسّوح حال حرّيّة إنسانيّة راقية وحال معرفة منفتحة متلازمة مع العقل لا يعطّل أحدهما الآخر، وهو أيضا أفقٌ نفسيّ وأملٌ جميل في الآتي، اختاره ليكون حرًّا كإنسان، وعبدًا فقط للربّ الذي يجمع كلّ القيم المطلقة.

غضب على الظلم والجهل، ودافع عن الحقّ والعدل، وعلّم كلام الحياة لا كلام الموت. أطلّ على مشهدنا الاجتماعيّ والدينيّ والثقافيّ من شرفة الحرّيّة والمساواة بين البشر، وهي عنده أبجديّة المحبّة غير المشروطة التي يُفترضُ أن تجمعَ بين الناس، أيًّا كان معتقدها. تبصّر بجرأة في أحوالنا وفكّر وكتب ضدّ الأفكار البالية والغوغائيّة، وعلّمنا أن ما هو خارج ثقافتنا ومعتقدنا ليس ضلالاً، وما نحتسبه نحن حقيقة، إنّما هو حقيقتنا، علمًا أنّ الحقيقة ليست مبعثرة هنا وهناك.

 لن يُغيّبَ الموتُ جورج مسُّوح ولن يزيده ولا ينقصه. هو في رحاب عناق بهيٍّ مع الذي أحبّ. أعرف أنّ الفراق مديد، ولن ترأف بي الذاكرة. لكنّ غيابه حضور دائم ومقالاته عين تخترق لجاجة الاعتياد العظيم.

 

 

 

 

 

[1] - أستاذة الفلسفة والحضارات في جامعة البلمند.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search