2018

13- الأب جورج (مسّوح) والتحاور اللاهوتيّ الصادق! – مشير باسيل عون – العدد الرابع سنة 2018

الأب جورج مسّوح والتحاور اللاهوتيّ الصادق !

 

 

مشير باسيل عون[1]

 

 

نشأ الأب جورج مسّوح في بيئة لاهوتيّة أرثوذكسيّة ورثت من أدبيّات التحاور المسيحيّ الإسلاميّ المعرفة الوجدانيّة، والمراس الحياتيّ، والجرأة اللاهوتيّة، والحسّ النقديّ المتطلّب. هي خصالُ اللاهوت الحواريّ الأنطاكيّ المشرقيّ الذي جسّد أفضلَ مثال له في الأزمنة العربيّة المعاصرة المطران جورج خضر، معلِّمُ الأب مسّوح وأستاذُه وراعيه ومُلهمُه. في ضعة المتعلِّم النبيه، أكبّ الأب مسّوح يتبصّر في ما أفرجت عنه قرائحُ كبار المحاورين اللاهوتيّين المسيحيّين في لبنان في القرن العشرين، وفي طليعتهم الأب يوسف درّة الحدّاد والأب جورج فاخوري والمطران جورج خضر والأب عادل تيودور خوري والأب يواكيم مبارك والأب ميشال الحايك والأب سمير خليل سمير. وعقد العزم على استثمار مكانز مكتسباتهم اللاهوتيّة الحواريّة ورفدها بما كان يأمل أن يبنيه هو من إسهام لاهوتيّ خاصّ، يأتينا به من موقع اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ الملتزم المناضل المستشرف، الذي يدرك أنّ تراكم البناءات اللاهوتيّة الحواريّة هو الذي يسعف العقل اللاهوتيّ المسيحيّ المشرقيّ العربيّ على تطوير مفاهيم التحاور المسيحيّ الإسلاميّ، وصقل مقولاته، وتهذيب اندفاعاته، وتصويب فتوحاته. ويقينه في هذا كلّه أنّه لن يستطيع أن يحمل لواء الجيل الجديد من كبار لاهوتيّي التحاور إلاّ إذا اعتصم بما أبدعه الجيلُ السابق، فدفع به إلى الارتقاء في التطلّب والجرأة في الابتكار.

في تبصّر العارفين كان الأب مسّوح يدرك أنّ محاورة المسلمين في مجتمعات الشرق العربيّ هي من أشدّ ضروب النضال الفكريّ إرهاقًا واستثارةً وتحدّيًا. وكان أيضًا يعلم علم اليقين أنّ كلّ واحد من هؤلاء اللاهوتيّين، وقد أفنى ذاته في فهم الدين الإسلاميّ الفهم الموضوعيّ الصحيح، انتهج لنفسه سبيلاً فريدًا في تناول هذا الدين، وتأوُّل حقائقه، وتدبُّر مطالبه، وتعيين طرائق المعايشة الحقّ في قرائن المعيّة المشرقيّة العربيّة اليهوديّة المسيحيّة الإسلاميّة العَلمانيّة.

عاين الأب مسّوح في تنوّع النظرات اللاهوتيّة المعاصرة إلى الإسلام مصدرًا للغنى الفكريّ، ودليلاً على الحيويّة المسيحيّة الحواريّة، وموضعًا سنيًّا من مواضع التفكّر اللاهوتيّ النقديّ البنّاء. فاللاهوت النصّيّ الجداليّ الذي كان يروم استخراج حقيقة الإسلام من معين النصوص القرآنيّة والتفسيريّة والكلاميّة أفضى بالأبوين يوسف درّة الحدّاد وجورج فاخوري إلى تصوّر الإسلام في صورة الفرقة النصرانيّة المنشقّة عن المسيحيّة القويمة. واللاهوت الروحيّ المبنيّ على انبثاث بذور الكلمة في تضاعيف الحضارات الإنسانيّة دفع بالمطران جورج خضر إلى نشدان المسيح الراقد في ليل الأديان، وربط الإسلام والمسلمين بتدبير الافتداء الأعظم الذي أنجزه الله في شخص يسوع المسيح. واللاهوت التوحيديّ الإبراهيميّ أملى على الأب يواكيم مبارك أن يجعل الإيمان الإبراهيميّ هو الأصل الأوّل المشترك الذي نهضت عليه اختباراتُ اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. وهو اللاهوت التوحيديّ الإبراهيميّ عينه الذي ألهم الأب ميشال حايك أن يتأوّل العهد الذي قطعه الله مع إسماعيل تأوّلاً يضع الإسلام في مرتبة الشعب المحبوب الذي يسير في صحبة الشعب اليهوديّ صوب المصالحة الكونيّة الشاملة المتحقّقة في شخص السيّد المسيح. واللاهوت الشموليّ الاحتوائيّ الذي نادى به المجمعُ الفاتيكانيّ الثاني حثّ الأب سمير خليل سمير على استعادة الاختبارات الحواريّة المسيحيّة الإسلاميّة الوسيطيّة واستثمار مكتسباتها اللاهوتيّة في سبيل توطيد القيم الروحيّة المشتركة بين المسيحيّة والإسلام، ومن أجل احترام الاختلافات اللاهوتيّة الخطيرة بين الديانتين، ورعايتها وتدبّرها في روح الانفتاح الصادق والمعايشة الحرّة. وهو اللاهوت الفاتيكانيّ عينه الذي شجّع الأب عادل تيودور خوري على نذر نفسه من أجل نقل مكانز التراث الإسلاميّ إلى الوعي الغربيّ، ولاسيّما الألمانيّ منه، ومن أجل بناء معيّة إنسانيّة تنطلق في أساس صياغاتها والتزاماتها من تصوّر الهويّة الإنسانيّة فعلاً تشاركيًّا أصليًّا يجعل جميع المتحاورين يبنون معًا إنسانيّة القرن الحادي والعشرين.

في سياق مثل هذه الإنجازات اللاهوتيّة الحواريّة المسيحيّة المعاصرة كان الأب مسّوح يروم أن يجتهد هو أيضًا في استنباط سبيل جديد من التأصيل اللاهوتيّ يستند إليه في تسويغ التحاور الدينيّ والمعايشة الإنسانيّة بين المسيحيّين والمسلمين، ولاسيّما في مجتمعات العالم العربيّ التي تئنّ من آلام التخلّف الحضاريّ. فأخذ في بادئ الأمر يتأمّل في طبيعة هذه المكتسبات اللاهوتيّة ويقيسها بمقياس الفهم اللاهوتيّ المسيحيّ المتجدّد حتّى يصون فيها ما هو صالحٌ للبناء، ويُعرض عمّا هو مخالفٌ لمقاصد المعايشة الإنسانيّة العربيّة المشرقيّة. ومضى، من بعد ذلك، إلى التبصّر النقديّ في العمارة اللاهوتيّة المسيحيّة والعمارة الكلاميّة الإسلاميّة حيث تبيّن له أنّ أفضل سبيل للتحاور الصادق إنّما يستوجب الشروع في النقد الذاتيّ، وتصويب الانحرافات، وتقويم المسالك. وبما أنّ النقد الأصدق هو الذي يمارسه المرء في فكره الخاصّ وفي مسلكه الخاصّ وفي أنظومته الخاصّة، طفق الأب مسّوح يتفحّص الثغرات والشوائب والهفوات في المسيحيّات المشرقيّة، فينتقد في صدقٍ بعض الالتواءات، ويحثّ في أمانةٍ على النهوض والإصلاح والتجديد. فلم يسترهب، على سبيل المثال، أن يندّد ببعضٍ من الغلوّ في مجاري التقوى الشعبيّة التي تنسب انبعاث النور في كنيسة القيامة إلى الأتون الإلهيّ الأصليّ. ذلك أنّ يقينه الأرسخ هو أنّ التجسّد الإلهيّ يظلّ المعجزة الأصدق التي عليها ينهض الإيمانُ المسيحيّ برمّته. فلا حاجة بالمسيحيّ إلى البحث عن ضروب أخرى من الخوارق يسند بها تعثّراته الوجوديّة. يكفيه أن يعتصم بالموهبة الخلاصيّة المنبثقة من قيامة السيّد المسيح. ما خلا ذلك تقويّاتٌ واهيةٌ تُربك الإيمان وتُشتّت الالتزام.

من بعد التأمّل في المكتسبات والنقد الذاتيّ، يمضي الأب مسّوح إلى بناء الأساسيّات اللاهوتيّة التي ينبغي للمسيحيّ أن يستند إليها في إقباله على الغيريّات الدينيّة ومحاورته أهل الأديان الأخرى. رأس هذه الأساسيّات ما يقوله في المنتخبات التي ضمّها كتابُه الخيرات الآتية (جامعة البلمند، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة، 2003، ص 23-26) في شأن حرّيّة الروح الإلهيّ الذي يهبّ حيث يشاء. من صميم هذه الحرّيّة تنبعث حرّيّةُ الإنسان في اختبار اعتلانات الحياة الإلهيّة والحكمة الإلهيّة في تضاعيف الحضارات الإنسانيّة، أقدمِها وأحدثها. من هذه الأساسيّات أيضًا أنّ الاختلاف بين الأديان لا يمكن أن تُبطله محكمةٌ لاهوتيّةٌ كونيّةٌ عليا، بل هو ناشبٌ في ناموس التنوّع البشريّ. ومن ثمّ، ينبغي لأهل الأديان أن يتسابقوا إلى الفوز بالخيرات الآتية، عوضًا من الاحتراب في تسويغ أعظميّة الأنظومة الدينيّة الذاتيّة في كلّ دين على حدة. فالتخلّق بالأخلاق الشريفة أنفع للناس من التزاحم على الإمساك بحقائق الغيب والماوراء والإلهيّات والنشوريّات.

هذا في الأساسيّات. أمّا بناء التصوّر اللاهوتيّ المسيحيّة المشرقيّ العربيّ الخليق بتجديد المعيّة المسيحيّة الإسلاميّة، فاجتهادٌ خطيرٌ كان الأب مسّوح يُعدّ العدّة له في تأنّي العارفين وصبر المبصرين. فلم يتسرّع أو يتهوّر، بل آثر التروّي على الارتجال، والإنضاج الذاتيّ على التعثّر في الصياغة اللاهوتيّة الفتّاحة. ظنّي به أنّ الاختبارات الحواريّة والمنتديات اللاهوتيّة والمقابسات الفكريّة التي كان ينخرط فيها انخراط اللاهوتيّ المقدام كانت ستهيّئ له عناصر الابتكار الضروريّة لمثل هذا البناء. فاطّلاعه على التراث الدينيّ الإسلاميّ في تفاسيره وفقهيّاته واجتهاداته الكلاميّة، وتضلّعه من علوم اللاهوت المسيحيّ، ولاسيّما في شقّها الأرثوذكسيّ المشرقيّ والمسكونيّ، كانا سيمهّدان له السبيل إلى فتح لاهوتيّ حواريّ فذّ أنبأت به جرأتُه الصريحة في تدبّر النصوص الاجتهاديّة الإسلاميّة المعاصرة، وفي تقويم إسهاماتها، واستخراج خلاصاتها البنّاءة، وانتقاد معايبها ومسكوتاتها. والدليل الأبلغ على هذا التدبّر الحصيف ما أتى به من تقويم لوثيقة الأزهر التي ظنّ الناسُ فيها أنّها تُعصرن الإسلام وتُسلكه توًّا في معارج الانتماء الصريح إلى شرعة حقوق الإنسان الكونيّة. والحال أنّ بصيرة الأب مسّوح كانت تعاين فيها بعضًا من التردّد والتلبّث والتهيّب والتراجع. ومن فضائل قراءته اللاهوتيّة أنّه استطاع أن يبيّن في هذه الوثيقة وفي غيرها ما لم يتهيّأ للفكر الدينيّ الإسلاميّ أن يُنضجه من تحوّل ثقافيّ جذريّ عميق شامل.

بغياب الأب جورج مسّوح فقدت المسيحيّةُ المشرقيّةُ العربيّة المعاصرة لاهوتيًّا حواريًّا صادقًا احترف فنّ التلاقي والتحاور والتقابس، وأتقن صناعة التحرّي النقديّ الصبور، لا مأرب له غير خدمة الحقائق ومن ورائها خدمة الإنسان في عراء كينونته المحتاجة. في المشهد الثقافيّ الأرثوذكسيّ المشرقيّ الأنطاكيّ كانت ترتسم على مسلك الأب مسّوح أماراتُ التألّق وعلاماتُ القابليّة السليمة للنبوغ والتفرّد حتّى إنّ الآمال كانت تنساق إليه عفوًا واندفاعًا، والأذهان المنفتحة تتقاطر إليه إرسالاً ليضطلع بمسؤوليّة حمل الأمانة الأرثوذكسيّة في الجيل الجديد من أهل التفكّر اللاهوتيّ الفتّاح. ولكنّه الدهر يسلخ الناس بعضهم عن بعض، ويُخرج من دائرة الشهادة والتأثير مَن كان الناسُ يعوّلون الكثير على إسهاماته. عزاء أحبّائه أنّ بعضًا من كتاباته ومقالاته وأقواله وشهاداته ومواقفه ستظلّ منارةً للطالبين والمريدين والساعين، وذلك بفضل ما أوتي من مضاء في الفكر، وقوّة على استطلاع الأمور، وشدّة في الجرأة، وصحّة في الحكم، ونجوع في القول. وهذا كلّه تحتاج إليه المسيحيّةُ المشرقيّةُ في منعطف مصيريّ هو من أخطر المنعطفات التاريخيّة التي تسلك فيها اليوم على شيء من الجزع والاسترهاب. وحده التحاور الصادق يجعل الاختلاف في المجتمعات العربيّة المعاصرة سبيلاً إلى الثراء والرقيّ والتنوّر والتسالم. ولن تستطيع المجتمعاتُ العربيّة المعاصرة أن تفوز بشيء من الرقيّ الإنسانيّ الحضاريّ ما لم تعتمد الاختلاف سنّةً في شرائعها ودساتيرها وأنظمتها وقوانينها وأحكامها وقراراتها وأفعالها، في خضمّ المجال العموميّ الحياديّ المنزّه المعصوم المشترك بين جميع المواطنين. والأب جورج مسّوح كان من أشدّ المدافعين عن سنّة الاختلاف ووعوده الآتية، ومن أصدق المطالبين بإنشاء مثل هذا المجال العموميّ الضامن لاستقامة الحياة الإنسانيّة ومتعة الوجود الحرّ الكريم.

 

 

 

 

 

[1]           أستاذ الفلسفة الألمانيّة في الجامعة اللبنانيّة.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search