2018

10- الأب جورج (مسّوح) مثال المسيحيّ المختلف – جورج دورليان – العدد الرابع سنة 2018

الأب جورج مسّوح

مثال المسيحيّ المختلف

جورج دورليان[1]

كلّما فكّرت بالأب جورج مسّوح، اختلطت في ذاكرتي مشاهد عمّا كانت تربطني به من علاقة شخصيّة بصورٍ عن كتاباته الأسبوعيّة التي كنت أقرأها بانتظام نسبيّ، وراحت مخيّلتي تحوك حول الرجل نسيجًا من الأفكار والتأويلات تؤكّد باستمرار الخصوصيّة التي تميّزت بها شخصيّته.

كان الواحد منّا بعيدًا عن الآخر ومختلفًا عنه في شؤون عديدة، ولاسيّما طبيعة العلاقة بأمور الدين واللاهوت والميتافيزيق. ولكن كنّا قريبَين وحتّى متشابهَين إلى حدّ بعيد في نوعيّة التساؤلات الفلسفيّة والأخلاقيّة التي كانت تحرّك لا بل تسيّر سلوكنا اليوميّ في كلّ ما اتّصل بالكون والإنسان والمصير. فرغم اختلافنا كنّا مكمّلَين لبعضنا. هذا ما كان يجعل من جلساتنا ونقاشاتنا رياضة ذهنيّة خصبة ومصدر متعة فكريّة بالنسبة إلينا.

أمورٌ عديدة فرّقتنا: الإيمان، الدين، الالتزام الكهنوتيّ. كادت هذه الأمور أن تبعدنا عن بعضنا بشكل طبيعيّ، فلا نلتقي إلاّ ليسلّم الواحد على الآخر احترامًا، لولا مشيئة "الأقدار" التي جمعتنا تحت سقف جامعة عملنا في سبيلها بصدق واقتناع تامّين. جامعة احتضنت التنوّع والاختلاف. سرنا معًا، الأب مسّوح وأنا، في دروب التعليم والبحث والتفكير الحرّ والمتحرّر من القيود. ما فرّق بيننا هو بالضبط ما ساهم في جمعنا وجعلنا نلتقي باستمرار لنناقش بقلب مفتوح وبعقل متنوّر شؤونًا تهمّنا وتهمّ الإنسانيّة بعامّة.

 اكتشفت خلال الحوارات العديدة مع الأب مسّوح أنني أناقش وأساجل نفسي، ذلك بأنّ نظرتنا لشؤون الإيمان والدين، وإن اختلفت منطلقاتها وتناقضت، لم تكن متباعدة إلى حدّ الفصام، وبأنّ التزامي العلمانيّ بالإنسان والكون كان يحاكي التزامه الكهنوتيّ. كلانا كان ينطلق من القاعدة الأخلاقيّة ذاتها: احترام الاختلاف في مقاربة سرّ الكون والوجود. فالكهنوت الذي مارسه الأب مسّوح لم يحوّله إلى إنسان يحدّه ثوب وبضع طقوس وشرائع. اكتشفنا معًا أنّ الفلسفة، بمعناها الشامل والمحدّد، "حبّ المعرفة"، عالم شاسع بإمكان أي فرد أنّ يسبح فيها وينهل من أعماقها وآفاقها ثمارًا تغني ثقافته وترسّخ من اقتناعاته.

في نقاشاتنا الفلسفيّة لم نكن نبحث عمّا يغذّي حجّة الواحد منّا ويقوّيها في مواجهتنا حجّة الآخر، بل عمّا يفسح في المجال لنغوص معًا في بعض أسرار الإنسان والوجود والكون: اكتشاف الرمز المتواري خلف مَثلٍ أو آية أو سيرة في نصّ دينيّ كان أكثر ما يشغلنا، وحتّى أكثر من الحقيقة. فالبحث عن الحقيقة غالبًا ما تؤدّي إلى حقائق متناقضة، فيما الرمز يوحّد. كلانا كنّا من الحالمين والمؤمنين بأنّ الإنسانيّة ستصل لا محالة، عاجلاً أم آجلاً، إلى برّ الأمان، إلى شاطىء الأخوّة والتعاضد، إلى نبذ العنف... إلى محبّة الآخر كما يقول المسيح.

ما كان يجمعنا هو بالضبط حبّنا للنصوص الدينيّة وتقديرنا لها، وبخاصّة كلام المسيح الذي جاء في الأمثال والعظات ولاسيّما العظة على الجبل. فالمسيحيّة، مثلها مثل أيّ دين آخر، لم تكن بالنسبة إلينا محصورة في شرائع وقوانين وطقوس، بل هي مساهمة فذّة لفهم العالم والكون واكتشاف سرّ الوجود. هذا ما جعلني أتقبّل، بصفاء وعمق، بمحبّة واقتناع، صلوات الأب مسوّح من أجلي. ما كان يشدّني إليه هو صدقه تجاه نفسه أكثر من أيّ شيء آخر.

بعد قراءتي كتاباته التي استجمعت في كتاب "الآن هنا"، تمنّيت لو أنّي تتلمذت في صغري على هذا الكتاب من أجل فهم المسيحيّة الحقّ. يقدّم لنا الأب مسّوح قراءة ذكيّة وواقعيّة لكيفيّة مواجهة مشاكل الإنسان المعاصر من منطلق النصوص الدينيّة، من كلام المسيح والرسل لا من حكايات اعتدت سماعها بملل في صفوف التعليم الدينيّ.

الأب مسّوح مثال المسيحيّ، ولكن المثال المختلف بإيمانه وعمقه وجدّيّته وإنسانيّته وقبوله كلّ الإفكار. فمهما اختلفت الأفكار، فهي تؤدّي إلى الدرب الصالح لبلوغ الهدف الواحد: معرفة رسالة الإنسان على هذه الأرض.

 

البلمند في 6 حزيران 2018

 

[1]- عميد كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة البلمند.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search