عن الأب الدكتور جورج مسّوح
د. سعود المولى[1]
جمعتني والأب جورج أواصر محبّة واحترام عزّزتها صداقة وزمالة استمرّت لسنوات من الزمن في نضال دائم من أجل العدالة والسلام. وكان رهاننا معًا على "الخيرات الآتية" من عقول وقلوب وجهود الكادحين الفقراء البسطاء المؤمنين.
كان أبونا جورج صديقًا حميمًا ورفيق درب وكان عالِمًا باحثًا محقّقًا قارئًا كاتبًا... وكان إنسانًا راقيًا خلوقًا محبًّا ... فتح أمام الكثيرين من أبناء رعيّته وطلاّبه آفاق القول الحسن، والدعوة بالحكمة والموعظة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والصدق والشفافية والاستقامة على الحبّ وعلى الحقّ وعلى العدل، في زمن كان فيه الظلم والعدوان يلتهمان البشر والأديان والقِيم والأحلام... فلم تكن تنفع ولا تستقيم في مثل هكذا أزمان سوى كلمات ومواقف تستلهم أنقى وأرقى ما في الإنسان والإنسانيّة... فالموقف سلاح كما قال الشيخ راغب حرب، والكلمة كانت وما تزال بدءًا وبداءات و"خيرات آتية" على ما قال وكتب جورج مسّوح... وتلك هي مواصفات الكلمة السواء، وتلك هي أخلاق الأنبياء والأولياء الصالحين، وتلك هي معاني كلّ الدعوات والفلسفات الإنسانيّة والدينيّة. "إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم"... لم يكن الحوار بالتي هي أحسن عند جورج مسّوح لقلقة لسان في خطابات ديماغوجيّة تمجّد التعايش وتقتله في الآن عينه... ولا منّة تليق بأوضاع الذمّيّة أو بدعاوى التسامح مع الأقلّيّات. حاول الأب مسّوح أن يحدّد لنا موضوع الحوار الإسلاميّ المسيحيّ وميدانه: إنّه الإنسان، إنّها الخليقة بأكملها، بغضّ النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو العنصر. فالطوبى في تطويبات السيّد المسيح على الجبل هي لكلّ الناس البسطاء الودعاء، الجياع العطاش الأتقياء المحزونين المضطهدين المسالمين وليست فقط للمعمّدين...
فتح أمامنا الأب مسّوح مسألة جدّيّة جديدة تتعلّق بالنقاش اللاهوتيّ المسيحيّ والكلاميّ الإسلاميّ حول معنى الخلاص وحول الخطّة الإلهيّة في الوصول إلى الناس جميعًا، حتّى إلى أولئك الذين فشلت الأديان في الوصول إليهم (على حدّ قول أبونا)...
حاول الأب مسّوح أن يؤصّل هذا المعنى اللاهوتيّ بكلام يستنطق المعتقدات المشتقّة من الإنجيل ومن تعاليم الكنيسة ليقول بأنّ الإيمان بالله متعدّد، وبأنّ الخلاص لا يتوقّف على المعمّدين ( أو المعتمِدين)... فالإنسان يخلص بالمعموديّة إذا عمل بموجبها وحفظها في قلبه وعقله، أي أنّه يخلص إذا أخلَص للأمانة أو للوديعة التي جعلت منه هيكلاً للحبّ الإلهيّ (على حدّ قول المطران جورج خضر)...
وهذا هو معنى الحديث النبويّ: الخلق كلّهم عيال الله، أحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله...
في كتاباته وأقواله كان جورج مسوح ينّم عن تضلّع في النصّ الدينيّ المسيحيّ كما في النصّ الدينيّ الإسلاميّ، وعن انفتاح وتفهّم، وعن محاولة جادّة في استنطاق ما غلق فهمه أو في تحليل ما غمض قوله.. وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما على ثقافة الأب مسّوح وسعة أُفقه وعلى سماحته وتواضعه.
قدّم الأب مسّوح مادّة مسيحيّة تنبني عليها أُسس لفهم واضح وواقعيّ للحقيقة اللبنانيّة ولمعنى العيش الواحد وللحوار والتضامن القائم على العلم وعلى العدل. كما كانت له مساهمات في موضوع التعليم الدينيّ في مجتمع متعدّد الأديان مثل لبنان، كانت له فيها خلاصات تؤكّد على عدم جدوى التلقين الدينيّ، وعلى أهمّيّة الابتعاد عن التلفيقيّة خدمة لإنصاف الحقائق، وأن يُعلن كلّ إنسان، مسلمًا ومسيحيًّا، عن نفسه وعن إيمانه كما يحبّ هو وبأسلوبه هو.
نعم هذا هو الخطّ الذي ينبغي تأصيله في الإسلام والمسيحيّة، وهذا ما حاول الأب مسّوح القيام به بشجاعة، وهذا ما ينبغي لنا جميعًا الاقتداء به.
ولا أجد في الختام من كلمة أُوجّهها في تذكّر الأب جورج مسّوح تكون أحسن من تحيّته الخلوقة المحبّة العالمة الشجاعة سوى القول بأنّنا على العهد معًا، مسلمين ومسيحيّين، من أجل الشهادة للحقّ وللعدل وللمظلومين والمساكين، تلك هي معموديّتنا وتلك هي كلمة الله فينا.
[1] - باحث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات. من مؤسّسي المؤتمر الدائم للحوار اللبنانيّ والفريق العربيّ للحوار.