الأب جورج مسّوح
العلاقة والصداقة والمحنة والشهادة
د. رضوان السيّد[1]
أوّل مرّة قابلت فيها الأب جورج مسّوح، عندما كان يحضّر أُطروحته للدكتوراه في موضوعٍ كنت شديد الاهتمام به، يتعلّق بكتابات المسلمين اللبنانيّين والعرب عن المسيحيّة والمسيحيّين في الأزمنة الحديثة. وهو موضوع ما سُبق إليه ذلك الشاب النابه والذكيّ والحسّاس والطيّب السريرة. كنت أمزح معه بعد أن تقابلنا مرارًا بشأن آراء كهنة الكسليك بالإسلام، ومنشوراتهم ضدّه خلال الحرب الأهليّة، وكان يجيبني: والمسلمون لم يقصّروا لهذه الناحية، أنظر ما كتبه فلان وفلان، وهم ليسوا هامشيّين لدى المسلمين، كهامشيّة من كتبوا ضدّ الإسلام، ولم يجرؤ أحدٌ منهم حتّى على ذكر اسمه. ثمّ يتابع ضاحكًا: كلّ هذا وأنا غير مسؤول، فأنا أرثوذكسيّ من مستقيمي الرأي، ورأينا وموقفنا مختلف رغم ما حصل في التاريخ. صحيح أنّنا من أصول سريانيّة، كما يقول المطران خضر والمؤرّخون، لكنّنا متعرّبون ولسنا مستغربين، ونحن مسؤولون عن جزءٍ بارزٍ في النهوض العربيّ، وفي الحركة القوميّة العربيّة. وكنت أقول له ضاحكًا بدوري: وعن جزء كبير من الحركة القوميّة السوريّة أيضًا!
ثمّ ما لبثت علاقاتنا أن توثّقت بعد إنشاء مركز العلاقات المسيحيّة- الإسلاميّة بجامعة البلمند، وإقامة الندورات الصيفيّة والمؤتمرات في موضوعات أكاديميّة وثقافيّة بين المركز وكلّيّة اللاهوت. وما درّست في المركز وأشرفْتُ على طلابٍ فيه في أُطروحاتهم للماجستير فقط، بل درّستُ أيضًا في كلّيّة اللاهوت بالجامعة، وكلُّ ذلك بطلبٍ وإلحاحٍ من الصديق الأب مسّوح. وخلال قرابة العقدين، اللذين كنّا نتقابل فيهما ونتناقش، نشأت علاقاتٌ عائليّةٌ فتزاورْنا، وتعرّفتُ أنا وزوجتي إلى زوجته المحبّة، وبناته العزيزات.
ما أحببتُ أحدًا من الزملاء المسيحيّين في لبنان، كما أحببتُ وأُحب الدكتور طارق متري، والأب مسّوح. أمّا طارق فتروعك منه عذوبته وثقافته الرفيعة وآدميّته التي تستعصي على الفساد والإفساد. وأمّا الأب جورج مسّوح فلأنّه دخل إلى القلب من أوّل مرّة، لبساطته وحيائه في الوقت عيهه. وقد ذكرتُ ذلك للمطران خضر في أواسط التسعينات، فقال لي: هذا الشاب هو ابننا، وانتبه إليه فسيكون له شأنٌ في الفكر والتأليف والتدريس. ومع الوقت صرتُ أنظر إليه تارةً باعتباره زميلًا ومحاورًا، وطورًا كأنّه أخي الأصغر الذي أحنو عليه وأُتابع همومه، وأسأله عن بناته، وأتبادل معه مقالات الثناء، وأستكتبه لمجلّة الاجتهاد ثمّ لمجلّة التسامح، ونتشاور كثيرًا بشأن الطلاب الذين نشرف عليهم، ونتشارك في الهموم الوطنيّة والعربيّة.
كانت الكتابة عسيرةً عليه، لأنّه لا يكتب كيفما كان ولأيٍّ كان. لكنّه كان حاضرًا دائمًا بمقالته الأسبوعيّة في صحيفة النهار؛ كنتُ أقتبسُ منه وأعرض بعض مقالاته ونصوصه، كما نصوص طارق متري ومشير عون على طلاّبي في الجامعات والمعاهد الإسلاميّة في لبنان، وعلى الطلاب الأجانب في عملي أُستاذًا زائرًا في الجامعات الأوروبّيّة والأميركيّة. وكانت له وجهات نظر جديدة في العلاقات الإسلاميّة- المسيحيّة في الأزمنة الحديثة. وغيّر وجهة نظري بالوقائع والوثائق بشأن الاهتمام المتبادل بين المسلمين والمسيحيّين. فبخلاف ما كنتُ أعتقد يعرف المسيحيّون العرب الإسلام، أكثر بكثير ممّا يعرف المسلمون المسيحيّة أو يهتمّون بذلك. ولاحظنا معًا خلال التدريس والإشراف، أنّ الاهتمام لدى الطرفين أحدهما بالآخر يتضاءل. وفي حين يمتلك المسيحيّون مراكز عدّة للدراسات المسيحيّة- الإسلاميّة؛ فإنّ المسلمين لا يمتلكون واحدًا، إنّما حتّى هذه المراكز فإنّ الإقبال عليها من الطرفين ضعيف. وكانت هناك مشروعات عدّة للنهوض بالعلاقات وبالدراسات حولها، ومنها إنشاء "مرقب" ومجلّة. ومع أنّه ما تحقّق من ذلك شيء يُذكَر، إنّما الإيجابيّ أنّ الشيخ نهيان بن مبارك وزير التسامح الحاليّ في دولة الإمارات، تبرّع بإنشاء مبنى جميل لمركز العلاقات المسيحيّة- الإسلاميّة بالبلمند، ترأسه الأب مسّوح، إنّما كان ذلك بعد أن تركتُ التدريس في جامعة البلمند منذ سنوات.
لقد كنّا أفرادًا متحابّين ومتفاهمين، لكنّ الأجواء صارت ضاغطةً جدًّا، وبخاصّةٍ بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري العام 2005. إذ تصاعدت الخصوصيّات لدى سائر الأطراف، وظهرت أحاديث وأمانٍ ومخاوف وهواجس بشأن تحالف الأقلّيّات، بعد تفاهم كنيسة مار مخايل العام 2006. ثمّ جرى احتلال بيروت العام 2008، فحصل التصدّع في النهوض الإسلاميّ- المسيحيّ رغم الانتصار الانتخابيّ العام 2009. وما كانت لدى أحدٍ منّا نحن الأفراد القلّة الشجاعة لمناقشة المتغيّرات المستجدّة وتأثيراتها في العلاقات الإسلاميّة- المسيحيّة، وفي العيش المشترك. ثمّ حدثت الثورة السوريّة العام 2011 فافترقت القلوب والصفوف، وما تزال كذلك حتّى اليوم.
لقد أظهر أخي جورج مسّوح خلافه معي عندما عرّضْتُ العام 2012 برجال الدين المسيحيّين الكبار في سورية لموقفهم السلبيّ من ثورة الشعب السوريّ. وما تواصلْنا بعد ذلك لأكثر من ثلاث سنوات. ولذلك لم أتنبه للمراحل الأولى من مرضه العُضال إلى أن نبّهني لذلك صديقنا المشترك جرجي بشير ثمّ الدكتور إلياس الحلبي. وهي المأساة التي هبطت علينا نحن أصدقاء الأب مسّوح من حيث لم نحتسب. أقبلْتُ عليه معتذرًا فسبقني إلى الاعتذار. قال لي إنّ الأمر كان أكبر منّا، وقلت له: بل نحن كنّا أصغر من غرائزيّة طوائفنا، وما جرؤ أحدٌ منّا على تحدّي تلك الهمجيّات المندفعة! قال: لكنّني أريد الأطمئنان إلى طهارة القلب "يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم". وأجبت: أمّا أنت يا أخي فقد نجوتَ، وأمّا نحن فما بقيت لدينا قلوبٌ ولا عقول لنختبر سلامتها ومرضها!
في المأثور المسيحيّ أو الرؤيا المعروفة: لتكون لهم حياة، وتكون حياةً أفضل، فهل تكون شهادة الأب مسّوح هي الحياة الأفضل؟ إن لم تكن كذلك، فماذا تكون عليه حياتنا؟
خار الله للأخ المحبّ ولنا الخيار الأفضل، وأسبغ عليه وعلينا وعلى أمّتنا وناسِنا الرحمة والنعمة والسكينة، ولفتيات الأب مسّوح وزوجته الغالية وأهله ورعيّته في عاليه العزاء والاعتبار وسلامة الروح والسريرة: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا. ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به. واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.
[1] - كاتب ومفكرّ وسياسيّ وأستاذ الدراسات الإسلاميّة في الجامعة اللبنانيّة.