شهـادة فـي الأب الـراحل جـورج مسّـوح
القـاضي عبــّاس الحلبــيّ[1]
الأب جورج مسّوح صديق ورفيق وزميل. غادرنا إلى حيث الرجاء قيامته وغاب عنّا من دون استئذان أو اعتذار لأنّ المرض غلبه وجعله لا يستطيع التواصل ولا الحوار.
عرفته منذ سنوات طويلة وسرعان ما أزيلت بيننا الحواجز وكأنّ القدر كتب لنا هذه العلاقة التي ما تكدّرت يومًا ولا خفتت، بل تعزّزت دومًا بالاتّصال والكلام، وترسّخت باللقاءات الشخصيّة والعائليّة، وتوثّقت بالتفاهم على الأساسيّات فهو وإن كان رجل دين إلاّ أنّ الدين في اعتقاده إيمان سمح وروحانيّة عرفانيّة، وتعامل قائم على الصدق واللغة الواحدة وقبول الآخر واحترامه.
كان فخورًا بانتمائه إلى الدين المسيحيّ وإلى كنيسته الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة، يحمل في ثقافته بعدًا مسكونيًّا وفي مسلكه زهوًا بتاريخ هذه الكنيسة في المشرق العربيّ.
ولم يمنعه انتماؤه قطّ من الانفتاح على سائر الديانات، كجزء من ثقافته الموسوعيّة في علومها، فكان الإسلام مكوّنًا في ثقافته حاضرًا في عقله متقنًا حفظ آيات القرآن الكريم فاهمًا معناها ومقاصدها بما يفوق فهم الكثير من أتباع هذا الدين.
ولم يقتصر جورج مسّوح على العلم بل أكمله بالعمل فكان كاهنًا ”ميدانيًّا“ إذا جاز التعبير. لم يكن في عاليه عاصمة الجبل فقط لمهمّة رعائيّة للمسيحيّين العائدين والمقيمين في المدينة والجوار فقط، بل كان همّه بلسمة جراح الحرب ورأب الصدع وإرساء قاعدة جديدة للتفاهم بين أهل عاليه المدينة والقضاء بعضهم ببعض، بين عائلات عاليه بعضها ببعض لأنّه كان مقتنعًا بأنّ الجبل هو لأهله الأصليّين مسلمين ومسيحيّين وبالأخصّ حيث هو راعٍ للكنيسة بين المسيحيّين والموحّدين الدروز.
وهذه المهمّة قرّبتني أكثر من الأب مسّوح لأنّه مثلي أو أنا مثله مقتنعين بأنّ الجبل ليس لفئة دون فئة، لأنّ استعادة النسيج الاجتماعيّ الذي كان قائمًا قبل الحرب والاجتياحات هو الكفيل إذا ما تمّ ترسيخه ليشكّل قاطرة الوحدة الوطنيّة اللبنانيّة من جديد.
قبل السياسة والسياسيّين لم ينتظر الأب مسّوح عمل هؤلاء ولا إشارة من أحد، فاعتبر أنّ هذه المهمّة ملقاة على عاتقه ممّا هو أعلى من هؤلاء، من الباري الذي كوّن لبنان وجعله مساحة للعيش الواحد وجمع على أرضه، وفي ظلال غاباته وعلى منحدرات جباله وفي سهوله وساحله وهضباته ثماني عشرة طائفة محكومة بالعيش الواحد، وإن فرّقتها بعض الظروف التاريخيّة أو المراهنات الآنيّة أو التدخّلات الخارجيّة.
عاونته في الكثير من المحطّات وكنت ساهمت شخصيًّا في فتح الآفاق له مع بعض المراجع والفعاليّات من أهل الدنيا والدين لدى الموحّدين لكي يشبك معهم علاقات الودّ والصداقة واستعادة الثقة. ومن كان صادقًا في مسعاه كالأب مسّوح تسهل مهمّته ويثق الآخرون بعمله ونشاطه ويؤمّنون له المساعدة والتجاوب. فنجح في هذه المهمّة أيَما نجاح حتّى إنّ عاليه والجوار في يوم رحيله حضرا بشيبهما وشبابهما، بشيوخهما وأطفالهما، بنسائهما ورجالهما، والأهمّ أنّ من كان حاضرًا أكثرهم جيرانه وأهل بلدته من رجال الدين الدروز والمواطنين العاديّين متأسّفين على رحيله المبكر، وهو كان سدّ حاجة سابقًا وربّما كان مدعوًا اليوم أكثر من أيّ يوم مضى لسدّ حاجات أخرى، بعد تهشيم السياسة والحملات الانتخابيّة مشاعر الناس بعضها بوجه البعض، ما يعيدنا إلى التأزّم المشؤوم بفعل البعض في سياق هذه الحملات.
ترافقنا في مؤتمرات عديدة وتشاركنا في منتديات كثيرة. فكنّا على طاولة واحدة في الفريق العربيّ للحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وفي منتدى التنمية والثقافة والحوار، وفي مؤتمرات دوليّة دعونا إليها نحن أو لبّينا كلانا الدعوات في لبنان والخارج في إسطنبول وفيينّا والقاهرة وسواها. وإن أنسى لا أنسى أبدًا رغم متاعبه في قيادة السيّارات يوميًّا في طريقه إلى جامعة البلمند آتيًا من عاليه مسكنه، فكان دومًا لا يفوّت فرصة في تلبية الدعوات إلى اجتماعات تنظيميّة أو إداريّة، والأهمّ ثقافيّة وحواريّة.
في الجامعة اليسوعيّة ترافقنا وهو الذي أعطى الدروس في بعض الاختصاصات المتّصلة بالدين المسيحيّ أو بالحوار. كما أنّه هو الذي أسّس معهد الدراسات الإسلاميّة المسيحيّة في جامعة البلمند، فشهد هذا المعهد إقبالًا من الطلاّب مسيحيّين ومسلمين آتين من طرابلس والشمال وبعضهم من بيروت وسائر الأرجاء. فكان
مؤسّسًا ومديرًا وأستاذًا مشرفًا على الدراسات في الماستر، ولكم من طالب تخرّج على يديه وتزوّد بتوجيهاته ومن علمه الكثير وخبرته الواسعة، ونشرت هذه الأبحاث فساهمت في تعزيز العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة على قاعدة التعارف والتبادل والاحترام. فضلًا عن الندوات والمحاضرات التي كان هدفها الأوّل الإقرار بالاختلاف واحترامه وقبول هذا الاختلاف.
أذكر أنّنا كنّا مرّة في مؤتمر دعا إليه الفريق العربيّ للحوار الإسلاميّ المسيحيّ، ومجلس كنائس الدانمرك والمجلس الإسلاميّ فيها، في إسطنبول والحضور كان كثيفًا من لبنان ومن المنطقة العربيّة وتركيا والنروج والدانمرك. وأكثر ما كان يزعجه ويزعجني وكنت أنا مترئّسًا الجلسة، فبعد أن أنهيت كلمتي تعاقب على الكلام أحد الحاضرين من رجال الدين المسلمين، فكرّر مقولات سابقة لا تعني شيئًا في خضمّ الأزمات التي يعيشها المسلمون حاليًّا، إذ يواجهون مشاكل اليوم وتحدّياته بخطاب ببغائيّ خالٍ من الواقعيّة وممجوج لكثرة سماعه يردّد أقاويل غير منسجمة مع الموضوع المطروح، وكأنّ قائله يفرغ من جعبته ما حفظ في مثل هذه المناسبة أو في غيرها لا همّ.
وكان الأب مسّوح قدّم مداخلة محاولًا وضع الأصبع على جراح الأمّة بمعاناتها ومآسيها وضرورة تضافر الجهود لدراسة ظواهرها ومحاولة مقاربتها بأسلوب علميّ غير ببغائيّ. انفعل الأب مسّوح على الخطاب الرتيب الممجوح، ومحاولة إظهار استعلاء ما في خطاب رجل الدين المسلم، يشتمّ فيه أيضًا غمزه من قناة
المسيحيّين. انتفض الأب جورج فورًا وتوتّرت أجواء الاجتماع نتيجة القول وردّ الفعل الذي تضمّن فيما تضمّن استناد الأب جورج إلى آيات من القرآن الكريم تدحض مقولة الشيخ المسلم. ومخافة إفشال الاجتماع وهو بالأساس اجتماع حواريّ بين فريق عربيّ مؤلّف من مسلمين ومسيحيّين وآخر أوروبّيّ متنوّع ومخصّص لدراسة ما يمكن للأوروبّيّين المساهمة فيه في عالمنا، خصوصًا في سبيل تحسين صورتهم بعد أزمة الرسوم الكاريكاتوريّة من جهة، ومن جهتنا لعرض مساهمتنا في إعانة الدانمركيّين على تحسين العلاقات بين المسلمين المقيمين والوافدين إليها في الدانمرك والنروج مع بلاد إقامتهم ومجتمعهم الجديد، فذهبت إليه وهو كان منفعلًا بحدّة وعلى وجهه الاحمرار والغضب فأحطته بيدي من الخلف وطلبت إليه التهدئة، وكأنّ كلمتي وحركتي لهما مفعول سحريّ عليه فهدأ الأب الغاضب واستعاد ضحكته واستأنفنا اجتماعنا بسلام.
رويت هذه الحادثة لأؤكّد مرّة جديدة على مقدار المحبّة التي جمعتنا، والاحترام الذي أحاط بعلاقتنا والودّ الذي نشأ بيننا والتفاهم في العقل والنظرة، وأسلوب المعالجة لقضايانا من جهة، ولكن من جهة أخرى إلى حرصه على الدفاع عن وجهة نظره، وتصدّيه لأيّ محاولة للتفريق وتأزيم العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة.
خسرت أنا كما خسرت عائلته زوجته وبناته ووالدته وأشقاؤه وشقيقاته وأصدقاؤه. أبونا جورج، كنّا نحتاج إليك أيّها الغائب الحاضر، نذكرك في كلّ مغيب ونتذكّرك عندما تشرق شمس الجبل في عاليه في كلّ صبيحة، وعند كلّ اجتماع في
منتديات الحوار، وفي حصص الطلاّب في البلمند واليسوعيّة، وفي كلّ يوم تفتح كنيسة عاليه أبوابها للمصلّين ويقرع جرسها في دعوة المؤمنين إلى الصلاة اختلاء بالنفس وتهذيبًا لها.
لم أتطرّق في هذه العجالة إلى سائر مناحي شخصيّته وعلاقته إن بأبيه الروحيّ المطران الجليل العارف لله جورج خضر أو بحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة التي ستبقى تذكره ناشطًا فيها وقائدًا مثله مثل جورج ناصيف وسواهم لتعزيز الكنيسة الأرثوذكسيّة وحضورها في المجتمع اللبنانيّ والعربيّ.
بوركت عائلتك التي أنجبتك والكنيسة التي أنشأتك والبلدة التي غمرت رفاتك في فيء قب ة الجرس حيث الحياة تبدأ والرجاء يزهر والسماء تفخر باستقبالك واستبقائك على عرش الكهنوت والإيمان.
|
6/6
[1] - رئـيس الفريــق العربــيّ للحــوار الإســلاميّ - المســيحيّ