المطران يوحنّا منصور
العبد الأمين
إعداد مجلة النور
انتقل إلى الأخدار السماويّة المطران يوحنّا (منصور) راعي أبرشيّة اللاذقيّة وتوابعها صباح الثالث من نيسان 2018. سجّي جثمانه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، وأقيم الجنّاز في الخامس من نيسان، برئاسة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، وحضور مطارنة من المجمع الأنطاكيّ المقدس وكهنة وحشد من المؤمنين. ألقى غبطته كلمة في المطران الراحل جاء فيها:
«أيّها الراحل الكريم، انطلق وامض إلى معشوقك الذي أحببت كلّ أيّام حياتك. أنت ماضٍ إليه وهو يسمعك صوته العذب قائلاً: «نعمّا لك أيّها العبد الأمين، لأنّك كنت أمينًا في القليل، فاليوم أقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح ربّك». لقد عرفتك منذ خمسين سنةً ويدك مشدودةٌ إليه وإصبعك، متمثّلاً شفيعك، دالٌّ عليه ولسان حالك: هذا هو فاتبعوه. كنت تمّحي أنت ليزداد هو.
من تحنان اللَّه أتيت إلى كنيسته. فاسمك في العربيّة يعني «حنان اللَّه». اختبرت الحياة معه أوّلاً في بيتك وفي كنف عائلتك وكنت في طليعة أولئك الشباب الذين سلّموا قلوبهم للروح فأسّسوا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وأنت في تفتّح فتوّتك. فكنت تقضي أيّامك بين التعليم والرياضات الروحيّة متنقّلاً من قرية إلى أخرى.
ومع تذوّقك حلاوة العيش في حضرة ربّك اخترت البتوليّة تكرّسًا كاملاً له، وانتهجت السيرة الرهبانيّة سبيلاً إليه. ذهبت صحبة رفاقك في الدرب إلى دير القدّيس جاورجيوس الحرف لكي تعيدوا، إلى الحياة، الرهبنة التي انقطعت بسببٍ من أثقال تاريخنا القاسي في هذا الشرق. وعلى جبل عالٍ من جبال لبنان اخترت مع رفاقك عيشة الرهبنة، وفي الشظف والفقر والنسك، بدأتم بتأسيس الشركة الديريّة. هناك في البرّيّة استعذبت عشرة اللَّه، مجتهدًا في طلب خلاصك، ومكتفيًا بربّك، وبه وحده فقط. ومن هناك ساهمت في إنشاء رهبنة دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع في ددّه الكورة للأخوات الراهبات.
غير أنّ حبّك له سرعان ما انعكس فيك حبًّا لأبنائه، فدعاك إلى السعي وراء خلاصهم هم أيضًا. فاقتفيت أثر آباءٍ كبارٍ في كنيستك الأنطاكيّة، كالذهبيّ الفم وباسيليوس الكبير، فانتقلت من العيش في البرّيّة إلى العيش في وسط العالم، غير أنّك نقلت معك حياة الصلاة وعيشة الزهد والروح البشاريّة الحارّة باذلاً ذاتك، بالكلّيّة، لخدمة شعب اللَّه وتثقيفه وترقّيه.
وعرفت كلٌّ من كورة لبنان الخضراء وهذه المدينة المباركة معظم أعمال جهادك وأتعابه، في سبيل حفظ الأمانة المقدّسة، التي استودعتها يوم رسامتك الكهنوتيّة. كنت أسدًا في دفاعك عن الشرعيّة الكنسيّة إبّان الأزمة التي عصفت بكنيستنا في ستّينيّات القرن الماضي. ما وهنت مرّةً، وما أعاقتك الإهانات ولا العوائق الكثيرة التي وضعت في دربك خصّيصًا لإضعافك.
في تلك السنوات الأربع أطلقت في هذه الأبرشيّة نهضة روحيّة ما لبثت أن امتدّت لتغني الكثيرين بالحياة الفضلى والسيرة الفاضلة. يشهد كرسيّ هذه الكاتدرائيّة على الساعات الطويلة التي كنت تتّكىء إليه خلالها، واقفًا متقبّلاً اعترافات المؤمنين التائبين. كما يشهد بابها الملوكيّ هذا على العظات المغذيّة للنفس التي أطلقتها منه زوّادةً للنفوس.
بذرت في أجيالٍ عديدة محبّة اللَّه وخليقته، وغذّيت المئات، لا بل الألوف، بكلامك البسيط المليء بفرح الربّ، وبإرشادك الروحيّ العميق. فكان لأتعابك في حراثة حقل الربّ واهتمامك بتربية شعبه أن تثمر عشراتٍ من رؤساء الكهنة والكهنة والرهبان والراهبات.
أمّا في هذه الأبرشيّة التي لا تزال نار الحبّ الإلهيّ متأجّجة فيها بفضل نفس خدمتك لها، فيذكر من جايلوك، ويذكّرون الجيل الجديد، بكمّ الجهد والأسفار والعرق الذي بذلته من أجل استعادة المرحلة الثانويّة في الكلّيّة الأرثوذكسيّة، واسترجاع بستان المطران، ومثابرتك الدؤوب، عشرين سنة، على تتبّع وارثي الدار الكبيرة الملاصقة للمطرانيّة إلى بلاد الاغتراب في الأميركيّتين، إلى أن نجحت وسجّلتها للوقف. إلى جانب الكنائس الكثيرة التي نثرت في هذه الأبرشيّة مدينةً وريفًا، والأوقاف العديدة التي بنيتها، والأراضي.
يؤكّد من عرفك أنّك قد ضاعفت الوزنات المعطاة لك على أفضل وجه. أمّا وجهك الباشّ الوديع وبلاغة تواضعك وبسمتك العذبة في أثناء خدمتك للقدّاس الإلهيّ بشكل خاصّ، فمحفوران بعمقٍ في ذاكرة أجيالٍ كثيرة. سرّ قبولك لعطايا اللَّه عظيمٌ يا أبي، وهو سرّ فرحك الدائم وسلامك المطمئنّ دومًا. لقد نحتك تواضعك آنيةً خزفيّة، قابلةً للمعطوبيّة، لكنّ ربّك ارتضى أن يضع فيها الكثير من نعمه. بعدما اقتبلت بكلّ رضى كلّ شيء من لدنه، صرت، في شيخوختك الوقورة، مصدر بركة للكثيرين من أبناء وبنات اللَّه.
ثمّة من يرحلون بصمتٍ دونما أثر، أمّا أنت، فتغادرنا مطمئّنًا لأنّ الشتلات التي زرعتها نمت وصارت شجرات وارفة الظلال. منحك ربّك سنين كثيرة ولم يشأ أن يخطفك إلى مجده إلاّ بعد أن أتممت الرسالة بأفضل ما يمكن، وانتشر تلاميذك وأبناؤك حتّى إلى أستراليا وإلى أقاصي الدنيا مذيعين بشرى المسيح السارّة في أصقاع الأرض.
امض أيّها السيّد وامكث مع الناهض من بين الأموات والذي داس الموت وقام ليقيمنا معه».
من هو المطران الراحل؟
من مواليد المزيرعة في اللاذقيّة، العام 1927. مجاز باللاهوت من معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ في البلمند العام 1978.
في 28 آب 1959 رُسم راهبًا في دير القدّيس جاورجيوس دير الحرف على يد المطران إيليّا (كرم).
في 10 أيّار 1962رسمه المطران إلياس (قربان) شمّاسًا، وفي 27 منه رسمه كاهنًا, وعهد إليه برئاسة دير سيّدة بكفتين.
في العام 1966 عيّنه البطريرك ثيوذوسيوس السادس (أبو رجيلي) معتمدًا بطريركيًّا في أبرشيّة اللاذقيّة التي شغرت بوفاة مطرانها داميانوس، وظلّ فيها حتّى العام 1973.
في العام 1973 عيّنه البطريرك إلياس الرابع رئيسًا على دير سيّدة البلمند.
في 21 تشرين الثاني 1979 انتخبه المجمع الأنطاكيّ مطرانًا على اللاذقيّة خلفًا للمطران إغناطيوس (هزيم). تمّت شرطونيّته في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق. n