أبونا إسبيرو: سنوك عديدة في ملكوت السماوات
مهي عفيش
من الصعب جدًّا أن نتصوّر أنّه غادرنا هذا الرجل الذي كان حاضرًا على الدوام، وكان يؤجِّج قلوبنا بالإيمان ويُلهب نفوسنا بمحبّة المسيح.
يعسر أن نتخيّل رحيله، هو المُشرق بالفرح، النابض العزيمة، المتدفق كالنبع الفيّاض الذي يروي كلّ ما على طريقه، وكالربيع المتواصل يتجدَّد في عشق المسيح من دون انقطاع.
في ذروة الشيخوخة، وبينما كانت قواه الجسديّة وقدراته البدنيّة تتراجع، كان فكره يتوقَّد ويزداد تألقًا. حتّى في منتصف التسعينات لم يتوقّف عطاؤه ولا فترت محبّته، بقي مثالًا لنا في الهمّة والمواظبة على الصلوات والأصوام وحتّى السجدات. تمرَّس بالأوجاع وحمل إعاقاته الجسديّة بصبر ووداعة وما تململ وما تأفّف، بل كان يشعّ بالفرح على الدوام، يُشدّد ويعزّي ويعظ وينصح ويحتضن. وكالعود المغروس على مجاري المياه، جاءت أثماره وفيرة.
حفظ اسم الربّ يسوع في حلقه على الدوام وكتب الصلوات الحارَّة لمن عشقه حتّى الذوبان فيه. عاش عيشة النسّاك، لم يملك شيئًا: لا مالًا ولا بيتًا ولا أمتعة، حتّى كتبه بعضها ضاع أثناء تنقّلاته، والبعض الآخر وزَّع معظمه على الإخوة والأبناء. لم يُقم للمال وزنًا: في مطلع حياته اعتاد أن يبيع كتبه بسعر الكلفة أو أقلّ، لمنفعة المؤمنين، وفي سنواته الأخيرة صار يطلب من الإخوة أن ينشروا كتبه ومقالاته المسجّلة على الإنترنت.
توقّفت رحلته على هذه الأرض. أخيرًا خلع عنه كلّ الهموم والأحزان والتشرّد والفقر. كان لا بدّ من أن يُلقي بكلّ أحماله ويُبادر إلى معشوقه الذي تاقت إليه نفسه.
يا أبي، لقد تركتنا قبل الفصح بأيّام. ليس من عادتك أن تتغيّب عن الصلوات، وبشكل خاصّ خدمة القيامة. هذه السنة للمرّة الأولى لن تعيّد معنا الفصح ولن تطرب لتراتيل السحريّة وترنّم قانون القيامة مع الدمشقيّ متهلّلاً. تعجَّلت لتعيّد مع القدّيسين عشرائك.
غادرتنا يا أبي بعد أن أفنيت عمرك في الخدمة المبارَكة وأعطيت من دون حساب. درّبت أجيالًا وأنميتها بالصلوات والإرشاد، وغذَّيتها بالكلمة الإلهيّة عشرات السنين. كنتَ أبًا لجميع الذين قصدوك وكان قلبك يسع الجميع في بوتقة محبّة ملتهبة. أنت جاهدتَ الجهاد الحسن وسلكتَ الطريق الضيّقة المحزنة. أنت عملت من الساعة الأولى ولم تحسد الذين أتوا بعدك، ولكنّك لم تلقَ أجرًا هنا على هذه الأرض، بل حُفظ لك إكليل البِرّ الذي سيكافئك به الربُّ الديّان العادل في ذلك اليوم لأنّك كنت أمينًا له حتّى المنتهى.
أنت حملت هموم الكنيسة وأفنيت عمرك في النضال من أجلها، فصرت محبوكًا في ذاكرة أنطاكية وفي تاريخها. كنّا نودّ ألا تفارقنا يومًا، إذ لم تنتهِ الأسئلة بعد، ولكنّنا نعلم أنك لست من هنا. أنت الآن في موطنك الحقيقيّ.
لقد علّمتنا الالتزام بأمانة لمن نحبّ، من دون مساومة ومن دون تخاذل. علّمتنا الفرح في وسط الشدائد، والتوجّع على الخطايا ونكران الذات. منك عرفنا أنّ الدير يمكن أن يصبح صحراءنا القاحلة المعلّقة بين الأرض والسماء، وأنّ اقتسار النفس لا يتوقّف حتّى الرمق الأخير. ومثله الفرح في الروح القدس، فرح الشيوخ هذا الذي يُحاكي فرح الأطفال.
أنحويك في جُملٍ قليلة وأنت العملاق في فكرك وإيمانك ومحبّتك وعطائك؟ في وصف رحيلك أصبحت الكلمات جوفاء وبقي الصمت أجمل من كلّ قول. الصلوات والتراتيل كانت تعزيتنا، ووجوه الآباء والإخوة المتحلّقين حولك في عرسك السماويّ وأنت مُسجّى في فُلكك الذي حمَلك فوق أمواج هذه الأرض إلى عتبة الفردوس المستعاد.
يا أبي، نحن لا نحزن مثل الذين لا رجاء لهم، ولكنّنا سنشتاق إليك: سنشتاق إلى فرحكَ وبشاشتك، إلى عنفوانك، إلى إيمانك المتوقِّد، إلى أبوّتكَ الحنون، إلى رعايتكَ وإرشادكَ، إلى طول أناتك، إلى ذاكرتك التي اختزنت عشرات المجلّدات والتواريخ وسيَر القدّيسين، إلى جلساتنا الطويلة معك حين لم تكن تنتهي الأسئلة ولا نفد صبرك يومًا. سوف نشتاق إلى وقع عصاك في أروقة الدير، إلى هرعك ما أن يقرع ناقوس الصلاة، إلى رؤيتك في مكانك المعتاد في الكنيسة مع الإخوة، إلى رفع يديك واستغراقك في الصلاة، إلى صوتك المحبوب يتلو مزامير السحريّة...
وإن استبدّ بنا الحزن، فسنستعيد ما كنتَ تردّد لنا وأنت هنا من الأدعية، وسنعرف أنك من الآن سوف تظلِّلنا من السماء بصلواتك.
وإن خارت قوانا، فعزاؤنا أنّك تركت مقالات وكتبًا وصلوات من القلب تكفي لمرافقتنا في الطريق التي رسمتها لنا. وسلوتُنا أنّك في آخر المطاف ألقيت الرحال: لقد انتهى جهادك المرير، انتهى الفقر والتشرّد والمرض، انتهت الغربة، فانعَم الآن بلقائك بمعشوقك الذي لن تكون له نهاية. فكيف ننسى أنّنا حين كنّا نعايدكَ في بعض المناسبات قائلين: «إلى سنين عديدة»، كنت تجيب على الدوام: «لا ليس هنا، بل في ملكوت السماوات»! الآن تحقّق ما أردتَ، اليوم نقولها بفرح كبير وبثقة تامَّة: سنوك عديدة في ملكوت السماوات.n