الرحمة لا تميت
وسيم ميلاد وهبة
كثيراً ما يكون القلق رفيقنا الدائم، مع ما يولّده من خوف وارتياب، لأنّ حياتنا تعجّ بالمشاكل والطارئات.
تتعدّد أسباب القلق وتتفاوت أهمّيّتها. لكنّ قلق الموت يبقى الأكثر دويًّا في النفس. نخافه إن شعرنا بدنوّه منّا. يرعبنا إذا رمى بظلاله علينا. ومحبّتنا لشخص ما، تتوهّج وتبلغ عمقها حتمًا إذا مسّ هذا الشخص خطرٌ. قلق الخسارة يغفر الذنوب، وينسي الأخطاء. يملأ القلوب بالدعاء ويوقظ فينا الرجاء.
إذًا، من الطبيعيّ القول إنّ موت العزيز صعب، والفراق الذي ينتج منه رهيب.
الموت واحد. تاجٌ يكلّل الحياة. تحرّر الروح من قيد البشرة، إبحارٌ في زمن لا يحدّه زمن، وسكنى مطارح لا كالمطارح، لا كالجغرافيا، ولا كالدنى التي نعرف.
الموت واحد، لكنّ أسبابه كثيرة لا تحصى.
الإنسان رائع في محاولاته الهروب من الموت، في محاولاته الاحتيال عليه، وإبعاد شبحه قدر الممكن.
ويمجّد البعض العلم باعتباره المنقذ بعد اللَّه. فالعلاجات تطوّرت، وبلغت حدّ الأعاجيب. هذا مبارك أن يستطيع الإنسان بالمواهب الذي أعطيها أن يريح أخاه الإنسان بجراحةٍ أو قرص دواء، فيعيد الأمل ويسكب الراحة والفرح ولو لحين.
لكنّ الموت يأتي، إمّا على غفلة أو مع سابق الإشارات. الموت الفجائيّ صعب لأنّه يأتي كالعاصفة التي تدمّر، لا يعطي الشخص نفسه وقتًا ليتوب إذا شاء، ولا للمحيطين به أن يحضّروا قلوبهم ونفوسهم لألم الفراق الذي سيحلّ بهم.
أمّا في حالة النزاع مع الموت، فيكون المرض قد فتك بالجسد وراح ينهشه. ويقوم الصراع بين إرادة الحياة والبقاء من جهة، والاستسلام للمرض والموت من جهة أخرى.
قد يكون المريض بوعيه الكامل لكنّ المرض المميت قد استفحل به، ويكون الألم شديدًا لدرجة انفصال المريض عن محيطه، وفقدان القدرة على التواصل فيصبح كأنّه في غيبوبة.
وقد يكون المريض طبّيًّا دخل في غيبوبة مستمرّة من جرّاء حادث أو مرض، وعاد لا يملك سوى رمق يعتبر الخيط الأخير الذي يربط دنياه المجهولة بدنيانا.
في هاتين الحالتين يتضاءل أمل الشفاء واستعادة الحياة الطبيعيّة.
أن يرى الناس قريبًا، صديقًا، أو حبيبًا بين حياة وموت، ليس عائشًا ولا ميتًا، أن يكون بين الوجود وعدمه، وضعٌ لا يحسدون عليه.
قد يتألّم، وقد لا يتألّم، لكنّ المحيطين به يتألمّون كلّما قيل لهم إنّ أمل الشفاء يتراجع. إن حدث أن اضمحل الأمل طبّيًّا بالشفاء، يأتيهم الطبيب بثوب أبيض خافيًا فيه كلامه الأسود.. ويعطيهم بعض الوقت ليبتلعوا هذه الحقيقة ابتلاعًا. ثمّ يقترح عليهم أن يريح مريضهم من هذا الوضع، يعطيه حقنةً أو ما يشابهها، ويأخذ منه رمقه الذي عاد لا يملك سواه. يقتله ليريحه، يقتله رحمةً به!
إذا أردنا فهم حالة الغيبوبة التي تؤدّي إلى طرح مسألة الموت الرحيم، تجدر الإشارة إلى الفرق بين حالة الغيبوبة المستمرّة، وحالة الموت الدماغيّ. في الحالة الأخيرة يتعطّل الدماغ كلّيًّا ويفقد كلّ إشاراته الكهربائيّة ويكون المريض قد مات، وحياته انتهت حقًّا. أمّا في الغيبوبة المستمرّة فإنّ بعض الإشارات الكهربائيّة الدماغيّة يمكن رصدها. وفي هذه الحالة نطرح السؤال الكبير وقد نحار: هل نبقي هذا الإنسان الغائب الحاضر عائشًا على الإنعاش، أم نطلقه؟
في معظم الأحيان، يكون القصد الطبّيّ من الموت الرحيم هو القتل في حالات اليأس من الشفاء لأسباب مادّيّة لتخفيف الأعباء على الأهل. وقد يكون الموضوع أبشع من ذلك في حالات الطمع بالميراث عبر التخلّص من الشخص بأسرع وقت ممكن. وكلّ ذلك نغطّيه بعنوان الموت الرحيم.
هذا ما لا يقبله الضمير. أيّة رحمة هذه التي يقبلها الضمير ويستريح إليها؟ وأيّة شريعة تسمح لي بإنهاء حياة إنسان؟ من الذي يعطيني الحقّ بالقول إنّ موت المتألّم راحةٌ له من عذاب الآلام؟ وهذه ذريعة قويّة معتمدة لتبرير القتل الرحيم. فهل الراحة من الألم تتبعها راحةٌ أبديّة محتّمة؟ أليس من الممكن أن أكون قد حوّلته من عذاب إلى عذاب أشدّ؟ حاشى لي أن أعرف أو أن أدّعي المعرفة، لأنّ اللَّه وحده الذي يعرف مكنونات القلوب ومساكن النفوس الأبديّة.
تستوقفني هنا عبارة: الموت «الرحيم» وتسوقني إلى التأمّل في ماهيّة الرحمة التي قد نسيء فهمها. أين رحمتنا في أن نسرق الروح، أن نوقف النبض، وأن نسكت الرمق. لماذا عليّ أن أخطف النسمة؟ ليس لي هذا القرار! جوهري البشريّ لا يسمح لي بهذا، إنسانيّتي تمنعني!
إنّ إلهنا هو «الرحيم والرؤوف». فإذا تجرّأنا على استعارة أنبل سمات ربّنا، فلا نلبسنّها بشريّتنا التي تخطئ. أن أرحم كإنسان أخي الإنسان، يعني أن أحبّه بلا حدود. فأفعال الرحمة تتجلّى بالمؤازرة، والخدمة، والاستفقاد. أمّا رحمة اللَّه، فهي عجيبة غير مدركة ترافق الإنسان من أولى لحظاته حتّى الأخيرة منها، وبعدها في ديار الجمال حيث مسكنه. إذًا فإنّ الموت الرحيم بالنسبة إلينا يعني أن يموت الإنسان محاطًا بالأفعال التي تترجم الرحمة الحقّ. أن يغمض عينيه أخيرًا وحوله أحباؤه يخدمونه ويحبّونه. أن يغادر عمره وفي أذنيه أدعيةٌ بالخير صادقةٌ تلامس الأثير. هذا ما يعنينا نحن المؤمنين.
من جهة أخرى، ليس من وضع يخلو من الرجاء عند المؤمن. وإن قال العلم بأنّ لا أمل، يشتدّ إيمانه بالأشياء التي تفوق العقل والفهم. يصير يسأل قلب الإله رحمة وآية، ولا يقتل الرجاء.
في هذا السياق، يحكى أنّ ولدًا تعرّض لحادث أدّى إلى وقوعه في الغيبوبة الدائمة التي يصفها الأطبّاء بالتمهيديّة للوفاة. أبى أهله أن يطفئوا الرجاء ومعه آلات الإنعاش. بقي الولد تسع عشرة سنة في الغيبوبة ثمّ استفاق إلى الحياة كما من نومٍ عميق. حادثة كهذه تذهل الطبّ، لكنّها لا تذهل الرجاء، فعند اللَّه كلّ شيءٍ مستطاع.
لنتذكّر فقط أنّ حياتنا هبةٌ من اللَّه مقدّسة ونحن مؤتمنون على هذه النعمة التي هي الجسد. فلنستودع الروح في يديه تعالى، فله الحكمة وحده في كلّ شيء.
سيموت الإنسان وهذه هي الحقيقة. ويترك خلفه العمر الذي أمضاه وباقة ذكريات في نفوسٍ عرفته. يرمي لحظاتٍ في ضمائر الناس تبقى، فلندعها كوجه اللَّه جميلةً بهيّةً خالية من أيّ عذاب أو وجع. ولنرسم في بالنا مطارح الراحة لنفس الذي سبقنا بسلام.n