2018

5. الروحانيّة الليتورجيّة لكنيسة الشرق: أضواء من الأب إندريه (سكريما) - د. جورج معلولي – العدد الثالث سنة 2018

 

الروحانيّة الليتورجيّة لكنيسة الشرق:

أضواء من الأب إندريه سكريما

د. جورج معلولي

 

لا يخفى على أحد أنّ العنصر الأكثر إبهارًا في الليتورجيا الأرثوذكسيّة هو غناها الرمزيّ. ما هو معنى الرمز في هذا التقليد وما هي وظيفته؟ بسبب الهيكليّة الليتورجيّة تعطي الكنيسة الأرثوذكسيّة اهتمامًا خاصًّا بالرمز وتحقّق السرّ من  الداخل بشكل أكثر حميميّة.

ذلك بأنّه سرّ المسيح. لا يجد هذا السرّ مبدأه في نظام الطبيعة (الذي يعكس أيضًا أفكار اللَّه الخلاّقة)، بل في حدث التجسّد الذي يكشف اللَّه في الإنسان ويؤسّس للخليقة الجديدة. هنا مناخ يختلف عن الطقوس الوثنيّة التي تلمّست تمتمات إلهيّة عبر دورة الحياة في الطبيعة والإنسان. تستدخل الليتورجيا الرمز، من دون أن يختزلها، وتُظهر تدبير الكلمة المتجسّد الذي فيه تجد كلّ الرموز غايتها (رموز الطبيعة ورموز الكتاب المقدّس وحياة الإنسان الداخليّة). يغيثنا قول للقدّيس مكسيموس المعترف وهذا معناه: «يحتوي سرّ تجسّد الكلمة في ذاته معاني رموز الكتاب وألغازه كلّها، كما يحتوي المعنى الخفيّ لكلّ الخليقة المحسوسة والمعقولة. فالذي يعرف سرّ الصليب والقبر يعرف أيضًا مبادئ كلّ الأشياء وغايتها. أخيرًا من يلج العمق الأبعد ويجد نفسه مقتادًا إلى سرّ القيامة فهو يتعلّم الغاية الأخيرة التي من أجلها خلق اللَّه كلّ هذه الأشياء من البدء». تبقى الليتورجيا حتّى الأخير طريقًا إلى الملء الذي يتجاوزها دائمًا، ولكنّها في الآن عينه تُسكننا منذ الآن في هذا الملء، يومًا بعد يوم، بنفوسنا وأجسادنا.

هذا الطابع النورانيّ، الكاشف الإله، في شركة الخالق والمخلوق، يصل إلى أقصاه في سرّ الإفخارستيّا حيث يتجاوز الكشف عينه في حضور حقيقيّ وحيث تنغرس الخليقة في موت المسيح وقيامته، المسيح الجالس عن يمين العرش. وتظهر المدينة السماويّة مكان الليتورجيا والفضاء الذي تتحرّك فيه. أمّا الزمن، فترفعه الليتورجيا وتشدّه إلى اليوم الثامن. هذا هو زمن فعل اللَّه الذي لا يهرب من الزمان الحاضر، بل يتّخذه ليحقّق له التجلّي. إنّ تحقيق الوضع المتجلّي للخليقة، منذ الآن قدر استطاعة هذا العالم، هو النتيجة الطبيعيّة للتجسّد والتي يسمّيها الآباء بجرأة تألّهًا. إنّ النور نفسه، الذي أضاء في بشريّة المسيح المتجلّية في وحدة أقنوميّة بين الطبيعتين، يسيل في دفقات لا تتوقّف من كأس الإفخارستيّا، ويهيّئ الأرض لسطوع المجد الذي سيسطع به المختارون في الدهر الآتي.

كلّ محتوى الليتورجيا يصبّ في تأوين التدبير الخلاصيّ في بعده الكونيّ والتاريخ المقدّس من التكوين إلى الرؤيا ومركزه تجسّد الابن وموته وقيامته. بتعبير أدقّ يجعل الربّ نفسه حاضرًا في الليتورجيا ويقدّم هو نفسه الذبيحة. فهو المقرِّب والمقرَّب. ويشترك الكاهن في كهنوت المسيح هذا. وبما أنّ سرّ الخلاص هو عمل إلهيّ- إنسانيّ يستدعي حرّيّة الخليقة منذ اللحظة الأولى (منذ بشارة الملاك لمريم وقبولها الحرّ)، تظهر الليتورجيا عملاً للجماعة يشترك فيه المؤمنون في «الطول والعرض والعمق». لذلك ليس المؤمنون مشاهدين خارجيّين، بل إنّما يصوّرون مع الكاهن ملء الكنيسة ويشتركون في تحقيق السرّ. هذا اشتراك أسراريّ على مستوى الجماعة في حضور فاعل وفي الآن عينه اشتراك على مستوى القلب والذهن، أي في عمق نفس كلّ مؤمن حيث تتقاطع المسيرة الداخليّة مع دورة الليتورجيا وطقوسها. تنادي الليتورجيا النفس وتدعوها وتدرّبها كي تتقدّم في التصاقها بالربّ، لتعمّق انغراسها فيه وتكمل حياتها في المسيح. تبقى الليتورجيا المناخ الذي يغلّف الكنيسة وتبقى الإفخارستيّا السرّ المركزيّ الذي تتراكم فيه كلّ القيم الروحيّة الملهمة من الروح عبر الأجيال. لا يمكن للحياة الداخليّة للنفس أن تنفصل عن الليتورجيا الإفخارستيّة: في المسيح يسوع، الحاضر في السماوات وعلى المذبح وفي قلوب المؤمنين تتلاقى الخبرة الداخليّة الشخصيّة مع حياة الكنيسة الأسراريّة. وكما تتصاعد خدمة القدّاس الإلهيّ من تحضير التقدمة إلى خدمة الكلمة (ليتورجيا الموعوظين) ثمّ إلى خدمة القرابين (ليتورجيا المؤمنين)، تنمو النفس في مراحل التطهّر والاستنارة والاتّحاد. وهذا يوازي أيضًا انتظارات العهد القديم، وولادة يسوع وطفولته المخفيّة، ثمّ خروجه إلى البشارة بالكلمة والتعليم، وأخيرًا زمن المسيح الذبيح المصلوب والقائم.  

هذا الحوار المقدّس بين الخالق والمخلوق يستدعي أن تقام الليتورجيا كاملة باللغات الحيّة. هذا يعبّر عن اهتمام الكنيسة الدائم بتأصّلها في تراب الثقافات المتعدّدة التي تشكّل بشريّة واحدة تبتغي المسيح. إنّ امتصاص الليتورجيا من قبل المؤمنين واستدخال هؤلاء في الحياة الإفخارستيّة يعنيان أن تكون الخدمة قابلة للفهم بشكل واضح للمشاركين فيها.

الليتورجيا في هيكليّتها مولّدة للشركة. فهي تبني باستمرار مجمعيّة الكنيسة وتحقّق في الجسد الإفخارستيّ اتّحاد المؤمنين الصوفيّ بالمسيح القائم. ويجعلنا الدم الإلهيّ الجاري في أعضاء الجسد «من جسد واحد ودم واحد» مع المسيح، حسب قول القدّيس كيرللس الإسكندريّ. لا شيء أعظم من هذا إلاّ الرؤية وجهًا بوجه في اليوم الأخير.

هذه الروحانيّة هي روحانيّة شهادة وروحانيّة دم وروحانيّة نور. هناك وحدة لا تنفصل بين الصليب والقيامة، ويبقى الشهداء (الحاضرون برفاتهم في الليتورجيا) التحقيق الأكمل لسرّ موت المسيح وقيامته بالحبّ. وفي امتداد شهادة الدم إلى الشهادة البيضاء في النسك، نفهم ارتباط الحياة الأسراريّة بالجهد النسكيّ الشخصيّ. كيف ننفتح لتجتاح القيامة كياننا من غير تعميق شخصيّ لموت المسيح؟ مركز هذه الروحانيّة هو الروح القدس. لم ينتصر اللَّه على جسده، بل مع جسده وبجسده. وبسبب هذا يمتلئ الكيان الإنسانيّ في كثافة جسده بالروح القدس، ويدخل حياة تفوق الحياة. ويضيء اللَّه في الأبرار الذين سيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم (متّى 13: 43). «مجد ثابور المتفجّر من جسد المسيح المؤلّه» (القدّيس غريغوريوس بالاماس) يصبح سببًا لتجلّي المؤمنين والكنيسة. تعمّقت هذه الرؤية بشكل خاصّ عند القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد والهدوئيّين والقدّيس نيقولا كاباسيلاس. وتظهر الليتورجيا هكذا متمركزة حول الفصح، تعبيرًا متواصلاً وشهادة للقيامة المالئة السماوات والأرض. ويشرق مجد الربّ على أورشليم الجديدة حيث لا خوف ولا حزن ولا موت. تمتدّ الروحانيّة الأرثوذكسيّة عبر الصليب (وما يحتويه من الموت في جميع أشكاله) إلى فرح اليوم الثامن حيث تتلاشى كلّ بشاعات الشرّ واليأس والقلق. n

 

 

Reference:    

André Scrima. Essai sur la spiritualité liturgique de l’Eglise d’Orient.  Revue Contacts N° 261

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search