2018

3. جسر «الكلمة» المطران جورج في وجدان الكنيسة - جورج نحّاس – العدد الثالث سنة 2018

 

جسر الكلمة

المطران جورج خضر في وجدان الكنيسة

جورج نحّاس

 

مدخل

ليس سهلاً أن يكتب الإنسان عمّن ولده في الإيمان ورعاه لسنين طويلة. لكن، وقد آثر المطران جورج أن يترك مهامّه الرعائيّة المباشرة، يسهل عليّ أن أتكلّم عليه لأشهد لمن دخل كنيستنا البيتيّة منذ أكثر من ستّين سنة وكان لها هاديًا ومرشدًا، وبقيت أنا وحدي منها لأبوح بما كان ولا يزال ليس في وجداني، أو وجدان أنطاكية، بل في وجدان الكنيسة الجامعة. ربّ معتبر أنّي سأبالغ في المديح لما يربطني بالمطران جورج من علاقة مودّة وإخلاص. هذا شأن القارئ وحرّيّته. أمّا شأني، فهو أن أشهد للحقّ.

تأمّلت كثيرًا بما يمكن أن أصف به المطران جورج باستعمال كلمة واحدة فقط. لن أقول إنّه المعلّم، ولا إنّه الأب، ولا إنّه السيّد. هذه تعابير لأهل هذا الدهر. هكذا علّمنا الربّ وأوصانا بالضبط بألاّ نستعمل هذه التعابير، فهي لا تليق إلاّ بالجالس على العرش، وبابنه الذي تجسّد لخلاصنا، وبروحه القدّوس مصدر كلّ فهم. أيّة كلمة يمكن أن تناسب رجلاً مارس الإرشاد، والتعليم، والرعاية بخفر المحبّ؟ أيّة صفة ممكن أن تلتصق بقامة فكريّة حاكت اللاهوت، والأدب، والفنّ، والفلسفة، وسياسة الأوطان بوداعة العالم؟

بعد التفكير، وقع اختياري على كلمة «الجسر». فمن الممكن للجسر ألّا يقوم، وتبقى الضفّتان متباعدتين واللقاء بينهما مستحيلاً. أهمّيّة الجسر تخفت في ذهن من عبره لأنّ العبور قد تمّ والغاية من الجسر أُنْجِزت. لكن يبقى أنّ الجسر ضرورة لمن أراد تخطّي نفسه، والتعرّف إلى من هو في الضفّة الأخرى بكسر الحواجز االقائمة بين المقوّمات الإنسانيّة على تنوّعها. والجسر لا يدعوك كي تعبره فيفرض نفسه عليك. هو ينتصب أمامك، ولك أنت وحدك حرّيّة القرار بالسير عليه أم لا. لذلك سأتكلّم على المطران جورج جسر «الكلمة»، هذا الكلمة الذي أخذ جسدًا من أجلنا، ونذر المطران جورج له نفسَه.

الجسر الروحانيّ

تعرّف جيلي إلى الأب جورج (خضر) كمرشد قبل أن يعي مع الوقت أبعاد كلّ ما أتى به كاهن رعيّة الميناء في طرابلس من طروحات على أكثر من صعيد لأنطاكية الغد، وللأرثوذكسيّة الجامعة. صحيح أنّه كان في حينه أسّس منذ بضع سنوات، ومع مؤمنين غيورين آخرين، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، لكنّ عددًا كبيرًا من الشباب اتّخذه كأب اعتراف نظرًا إلى الحاجة الملحّة آنذاك لهذا النوع من الكهنة القادرين على حمل المؤمنين لممارسة سرّ الاعتراف من جديد.

ما يجهله العديدون هو أنّ هذا الإرشاد لم يقتصر على مجموعة محدّدة من المؤمنين الذين يدورون في فلك الأب جورج الفكريّ، بل تعدّاهم ليصل إلى فضاء أوسع، فضاء غيورين عطشى إلى كلمة الربّ. فقد بقي الأب المعرّف لهؤلاء حتّى لمـّا أصبح مطرانًا، رغم أنّ كثيرين منهم سكنوا بيروت والجبل بعدما ارتحلوا بسبب الزواج أو العمل. رُبّ سائل عن سبب هذا الأمر. عندي، ومن خبرتي الشخصيّة أيضًا، أنّ هذا يعود إلى كيفيّة تعاطي هذا الأب مع الإرشاد. هو لا يملي عليك المواقف، بل يدلّك على ما يعتبره الأنفع لنموّك في المسيح. هو لا يقتحم حياتك، بل يترك لك أن تستفيد من وجوده ما أردت، وعندما تعتبر أنّك بحاجة إلى ذلك. وإذا رأى في بعض الأحيان أنّ هناك ضرورة للتنبيه فهو يعطيك إيّاه بخفر، وبالاستناد إلى الربّ يسوع كمثال. أنت لا تشعر في طريقك إلى المسيح أنّه عقبة أمامك بل رفيق درب، يمسك بيدك حتّى «لا تعثر بحجر رجلك» مذكّرًا دومًا كما يقول إفشين الحلّ بأنّه هو أوّل الخطأة، وبأنّ عليه فقط أن يدلّ على من هو الكلّ في الكلّ. هو الجسر الذي تعبر عليه إن شئت، وأنت تسعى لتقترب من مثال من جبلك على صورته.

الجسر الرعائيّ

والرعاية إدارة شؤون المؤمنين كي يعوا أنّهم محبوبون، وأنّهم شعب اللَّه، وأنّهم كهنوت ملوكيّ. سمعنا كثيرًا عن المطران جورج مقولة مفادها: هو لاهوتيّ فذّ، لكنّه ليس «إداريًّا»! والرعاية موهبة خاصّة تسمح لك بأن تتعاطى مع البيعة بشكل يخدم تأصّلها في إيمانها من جهة، وبناءها على محبّة القريب التي أوصانا اللَّه بها من جهة أخرى. معضلة المطران جورج منذ أن كان كاهنًا هي مع الفكر السائد في أنطاكية حتّى اليوم، والقائم على منطق الانغلاق والفردانيّة. كان همّ المطران جورج أن ينتقل برعيّته، ثمّ بأبرشيّته، من منطق دهريّ إلى منطق مسيحيّ، من منطق الرقم إلى منطق الحبّ. هذا التحدّي قليلون الذين وصفوه.

طالبوا المطران جورج بجردة حساب عن منجزات. لم يجب عن ذلك. فهو يدري أنّه عليه أن يزرع لأنّ الربّ هو الذي ينمّي. فآثر أن تكون مهمّته الإداريّة في الرعاية تغييرَ الذهن الأنطاكيّ السائد، فلا يرتبط الأسقف بعائلات القوم ووجهائه، بل ببسطائه، عبر كهنة على حسب قلب الربّ. زرع للملكوت الآتي كي تنعم الرعيّة بمستقبل لا يقاس فقط بحسابات المصارف، أو بالأملاك الوقفيّة. زرع لمستقبلٍ يقاس بسكنى الربّ في قلوب المؤمنين. زرع للمستقبل بجعل الكنائس قريبة لسكنى الذين لجأوا بالألوف إلى أبرشيّته فينقل المسيح إليهم عبر الكلمة وعبر الكأس المشتركة. مرّة أخرى، جردة الحساب المتوقّعة سيقدّمها أمام العرش الإلهيّ، أمام الذي يفحص القلوب والكلى. لكنّنا نشهد بأنّه في رعايته كان جسر عبور من زمن إلى زمن في أنطاكية، جسر عبور من عهد الانغلاق إلى عهد الانفتاح، جسر عبور من إدارة الرعاية إلى رعاية الإدارة. كيف سيسجّل التاريخ هذا الحدث؟ الله وحده يعلم.

الجسر الفكريّ

في آخر سنواتنا في الصفوف الثانويّة كان الأب جورج مرشدًا لفرقة من الشبان في طرابلس. وكنّا على العموم ننكبّ على دراسة الكتاب المقدّس، بخاصّة العهد الجديد منه، بالرجوع إلى مراجع تفسيريّة وكتابات الآباء تحت إشرافه المباشر. طبعًا، لم يقتصر دورنا في حينه على السمع، بل كان علينا أن نعمل جادّين على فهم النصوص ومقارنتها والتعرّف إلى خصوصيّة الفكر الأرثوذكسيّ مقارنة بالفكر اللاتينيّ أو البروتستنتيّ. ذات يوم، أتانا بكتاب ضخم، كتب بالفرنسيّة، وعنوانه «فكر كارل ماركس»، وقال لنا إنّنا إلى جانب ما نعمل عليه الآن، سيكون علينا أيضًا دراسة هذا الكتاب. تعجّبنا طبعًا، وسألنا لماذا؟

لم تكن يومًا السهولة طريقًا يقودنا إليها. فكان الجواب أنّه من واجبه أن يحضّرنا لما سنواجه عندما سندخل الجامعات، وليس ذلك من باب التصدّي، بل من باب إمكانيّتنا على مدّ الجسور مع الآخرين. لم يكن همّه أن نجيب عن مقولة سهلة مثل: «الدين أفيون الشعوب» (له كتيّب بهذا العنوان). كان همّه أن نكون قادرين على الشهادة لإيماننا، فنكون مستعدّين لقبول فكر الآخرين كي يتجلّى المسيح في الجميع. الاطّلاع على الفكر المعاصر واجب علينا نحن المسيحيّين، لأنّ اللَّه أحبّ كلّ الخليقة ومات من أجلها. وعلينا نحن أن نمدّ هذا العمل الذي بدأ معه. عاش المطران جورج هذا التوجّه الفكريّ كلّ حياته ومع كلّ أطياف المجتمع. إن رغب الناس في مجالسته فلأنّهم اكتشفوا عنده هذه الرحابة التي تخاطب العصر، والفكر، والتحدّيات، بصفاء المسيح. لم يكن ليكفّر أحدًا، أو ينبذ فكرة، أو يحتقر رأيًا، بل عنده أنّ واجبك أن تكون الجسر الذي يعبر بواسطته الفكر الإنسانيّ إلى الفكر الإلهيّ فتحدث هكذا أعجوبة التجلّي. وهو كان مثال هذا الجسر.

الجسر الثقافيّ

عاش المطران جورج في بيروت حيث درس الحقوق، ثمّ جاور بيروت كمطران. فكان لا بدّ لك من أن تلتقيه في أيّ معرض للرسم، أو أيّ انتاج مسرحيّ، أو أيّة حفلة موسيقيّة. لم يكن ذلك عنده ترفًا ثقافيًّا، بل كان جزءًا من رؤيته لدور الكنيسة الشهاديّ في العالم. فجمال الأيقونة عنده منبع لكلّ الجمالات، وسحر الموسيقى الكنسيّة نموذج لكلّ إبداع موسيقيّ. عنده أنّ الإبداع الثقافيّ موهبة إلهيّة، لك أن تعترف بها، وتقبلها، وتجلّها لأنّ اللَّه هو الذي يوزّع المواهب من أيّ نوع كانت.

أن تعترف بهذا الإنتاج الثقافيّ، وتناقشه، ليس ترفًا، بل جهدًا يُطلب منك أن تلتزمه لتستطيع أن تنقل المسيح إلى عالم الجمال الذي يحيط بك. ليس المطلوب منك أن تقبل بأيّ شيء، بل عليك أن تحترم خصوصيّة كلّ شيء حتّى لو اتّخذت منه موقفًا نقديًّا. فحقّ المبدع عليك أن ترى إبداعه، وحقّك على المبدع أن تناقشه بإبداعه. لكنّ الأهمّ، هو أن تكون بنقدك ناقلاً لما هو للمسيح. ليس عليك أن تعطي لذوقك حججًا إلهيّة لا موقع لها في هذا المقام، بل من واجبك أن تطفي على كلّ ثقافة مسحة هي جزء من صورة اللَّه في الإنسان. هكذا كان حضور المطران جورج بين المثقّفين الذين أحبّوه واحترموه، وكان لهم جسرًا تعرّفوا بواسطته إلى رحابة المشرقيّة التي بزغ من رحمها.

الجسر الإنسانيّ

درّس المطران جورج في الجامعة اللبنانيّة الفكر الإسلاميّ. شارك في كثير من ندوات الحوار بين المسيحيّين، والحوار بين الأديان. له فيها جميعها كتب ومقالات نشر الكثير منها في اللغة العربيّة كما في لغات أخرى. كتب أيضًا المطران جورج عن فلسطين ما لم يكتبه أحد من قبله، مسيحيًّا كان أو مسلمًا. تغنّى بالقدس وببيت لحم، وبالجلجلة. كتب عن معاناة المواطنين من جرّاء ظلم يحلّ بهم، أو من جرّاء قهر يمارس عليهم، أو من جرّاء فساد ينغّص عيشهم. لكنّه لم يكن يومًا رجل السياسة بمعناها الضيّق والمبتذل، فلم يقل في السياسة كلامًا تفصيليًّا محدود الأبعاد والرؤية. كتب في هذه الأمور جميعها لأنّ همّه الإنسان.

همّ المطران جورج أن يُبَلَّغ الإنسان، كلّ إنسان، بأنّه محبوب من اللَّه. شغف المطران جورج هو يسوع المسيح. فهل يمكن ألّا ينقل محبّة المسيح للبشر؟ هل يمكن له أن يقبل بأن يُفْترى على المسيح ويُساء استعمال كلامه؟ هل يمكن أن تصبح رسالة المسيح مجرّد تقويّات؟ كتب المطران جورج، وعلّم ووعظ في كلّ هذه الشؤون ليس من حيث هو مفكّر مسيحيّ، بل من حيث هو حامل ليسوع المسيح. اسمه يعني «من يعمل في الأرض». كان له أن يحرث ويلقي البذور لتُزرع وتنمو محبّة اللَّه في قلوب الجميع. التزامه الربّ ليس التزامًا كلاميًّا، بل هو التزام شهاديّ تجاه كلّ إنسان. فنِقاشه مع الآخرين من مذاهب وأديان مختلفة هو كي يجتمعوا على كلمة سواء، محبّةً باللَّه الذي خلقهم. كلامه على فلسطين هو كلام على ظلم يشوّه إنسانيّة المعذِّب أكثر ممّا يُشوّه إنسانيّة المظلوم. مواقفه في السياسة هي إعلانات فذّة كي تستقيم خدمة الإنسان في الأوطان، والسياسة هي خدمة ليس إلّا! هكذا أراد المطران جورج نفسه في هذا المضمار جسرًا تمرّ منه البشارة بمحبّة المسيح إلى الجميع.

الجسر الوجدانيّ

فقدت والدي وأنا في العاشرة من عمري، وكان الأب جورج، وهو صديق لخالي، من أوّل الوافدين «للتعزية». فرأى التداول قائمًا حول موقعي من الشكليّات التي ترافق مناسبات كهذه، وكنت في حينه على بُعْد أسبوع واحد من امتحانات الشهادة الابتدائيّة. رأى الأب جورج أنّ الميل هو لإبقائي بعيدًا عن هذه «الواجبات». فانبرى قائلاً: «بناء الرجال يبدأ بتحمّل المسؤوليّة، وليس للعاطفة أن تعطّل هذا الأمر. عليه أن يقف مع رجال العائلة، وأن يذهب إلى امتحاناته». وهكذا كان. لم أنسَ الحادثة، لا كمراهق، ولا كرجل. ليس لأنّها تخصّني، بل لأنّها تدلّ، عند المطران جورج كمربّ مسيحيّ، على موقع الوجدانيّات من الحياة.

المسيح بكى على لعازار، وغضب في الهيكل، وشغل بال أمّه عندما بقي وحده في أورشليم. لكنّ المطران جورج كان يعلم ويعلّم بأنّه ليس على عاطفتك أن تعطّل عقلك، أو عملك، أو مسؤوليّتك تجاه اللَّه. العاطفة مكوّن مهمّ في الإنسان، لكن عليها دومًا أن تبقى على شيء كبير من الخفر كيلا تعطّل الاستقامة والشهادة. لذلك، عندما تقرأ عظات المطران جورج في وداع من انتقلوا من أحبّة له تجد، ومن دون أيّ استثناء، أنّ وجدانه ينقلك إلى ما هو أبعد، أي إلى ما يعزّي المؤمنين بسيرة المنتقل. وعندما يعظ في خدمة سرّ الزواج، يضع الزوجين أمام محدوديّة العاطفة لينقلهما إلى ما هو لحمة هذه العاطفة، أي إلى نكران الذات والالتصاق بالمسيح ليبقى المسيح وحده قبلتهما، وإلّا تصبح العلاقة في الزواج علاقة قاتلة. انتقلت من حدث شخصيّ جدًّا، لأقول كيف كان المطران جورج هذا الجسر الذي جعلنا نمرّ من محدوديّة الوجدان إلى لامحدوديّة الصورة الإلهيّة المتمثّلة بالحبّ الإلهيّ.

جسر المحبّة

سأذكر هنا أيضًا، في هذه المحطّة الأخيرة، حادثة معبّرة جدًّا بالنسبة إلى من أراد أن يقرأ المطران جورج كشخص. رافق المطران جورج ذكرى تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في طرابلس باستمرار. وفي عديد من الأحيان كان هو من المتكلّمين في المناسبة مذكّرًا دومًا بالهدف الأوحد الذي هو وراء تأسيس هذا التيّار الكنسيّ، أي خدمة يسوع المسيح في العالم. في الذكرى الخمسين تحدّث أيضًا، واستفاض، وأنهى كلامه صارخًا: «روحوا حبّوا!» طبعًا، علا التصفيق بين الحضور. لكن هل استوعب الجميع معنى هذا الكلام؟

اعتقد أنّ هذا الكلام على المحبّة يختصر كلّ ما سبق. إن كان من رسالة أراد أن «يكونها» المطران جورج، فهي المحبّة التي قال فيها الرسول «اللَّه محبّة». من رافق المطران جورج يعرف تمامًا أنّ محبّته للآخرين، أيًّا كانوا، لم تتعرّض يومًا للخطر. كان يؤخذ عليه أحيانًا غضبه! لكن إن تمحّصت في سبب ذلك، وجدت أنّ هذا الغضب مردّه الغيرة على بيت الربّ، ولم يكن يومًا لنقص في المحبّة ولم يؤدّ يومًا إلى تراجع في هذه المحبّة. كان بودّي أيضًا أن أصف بعض الأعمال المستترة التي كانت تدلّ على ترجمته لهذه المحبّة في علاقته مع المساكين، والفقراء، وبسطاء القوم، لكن لا أودّ أن أكشف أمورًا خاصّة ليست ملكي. لكن بالنسبة إلينا نحن الذين رافقناه، كان هذا السلوك درسًا صامتًا على ما يجب أن نكون عليه. في المحبّة كان الجسر الذي لم يحتج إلى كلام وتعبير؛ كان الجسر الحيّ الذي حملنا في قلبه ونقلنا إلى قلب اللَّه.

أنطاكية

والكنيسة الجامعة

يطغى على ما سبق علاقة المطران جورج الشخصيّة مع الأشخاص الذين رعاهم وتابعهم، أو مع رعيّته وأبرشيّته، أو حتّى مع العالم الخارجيّ الذي شهد فيه لمسيحه. هذا صحيح لأنّ المطران جورج تجسّديّ المنحى إلى أبعد حدود. فأنطاكية بالنسبة إليه ليست جغرافية، بل مكان رجاء مدعوّ إلى أن يتجلّى المسيح فيه. والكنيسة الجامعة ليست فكرة مجرّدة يحلو التغنّي بلاهوتها، وجمالاتها، وطقوسها، بل هي جسد المسيح الحيّ ولا طعم لها إن لم تكن كذلك. فعند المطران جورج أنّك تنقل هذا إلى العالم، أشخاصًا وجماعات، أو تكون جاهلاً كنه الرسالة المسيحيّة.

لذلك لن تحفظ أنطاكية والكنيسة الجامعة المطران جورج في وجدانها معلّمًا، أو واعظًا، أو مفكّرًا، ليس إلّا! هذه كلّها مواهب إلهيّة نشكر اللَّه أنّه أعطانا أن نواكبها ونستفيد منها. لكن ستحفظ أنطاكية، والكنيسة الجامعة، أنّ المشرق عرف جسرًا مرّ عليه الكثيرون وهم يبتغون وجه اللَّه. ستحفظ أنطاكية، والكنيسة الجامعة، أنّ كِبَر هذا الجسر هو في أنّ كلّ من عبر عليه اختبر وشهد أنّه لم يحابِ الوجوه، ولم ينتفخ، ولم يخضع إلّا لتعاليم مسيحه. وهذا كلّه مُهْدى بصمت وتواضع من المطران جورج إلى أنطاكية وإلى الكنيسة الجامعة، فبه، وعليه، ومنه تدخل رحابة الألوهة، وتضع رأسك على صدر الحبيب متذكّرًا أنّ المطران جورج أحبّك كي تحبّ السيّد.

فإلى سنين عديدة يا من هداني إلى المسيح.n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search