2018

9. يسوع على الصليب، تحليل سرديّ للنصّ الإنجيليّ - مطانس عصام عوّاد – العدد الثاني سنة 2018

 

 

يسوع على الصليب

تحليل سرديّ للنصّ الإنجيليّ

مطانس عصام عوّاد

 

مقدّمة

تكمن ذروة آلام يسوع في وصوله إلى المكان المسمّى "الجمجمة" حيث يحصى في صَلْبه مع الأثمة. يعلو الصليب في الكنائس محتلاًّ المركز الأكثر بروزًا، وقد صار الرمزَ المسيحيَّ الأكثرَ معرفة لدى جمهور الناس، وطغى على الرموز المسيحيّة الأخرى كالسمكة والمرساة. وإنّ حَدَثَ الصَّلْب هو الحدث الأكثر متابعةً وجذبًا في الأفلام السينمائيّة المختصّة بشخصيّة يسوع. نطبَّق على هذا الحدث خطوات التحليل السرديّ، استنادًا إلى مرجعين أساسيّين: كتاب (١)How to Read Bible Stories  لـ(Daniel Marguerat & Yvan Bourquin)(٢) وكتاب تقنيّات السرد الروائيّ في ضوء المنهج البنيويّ ليمنى العيد؛ في محاولة، مبسَّطة، لفهم معناه واستيضاح هدف كاتب النصّ (الإنجيليّ لوقا) في بنائه واستخدام الأفعال وترتيبها السياقيّ، ودور كلّ من الشخصيّات وأهمّيّته وتفاعلها في ما بينها، وتاليًا استخلاص عصارة التحليل السرديّ وسكبها في نتيجة هي ما أراده الكاتب أو تقترب بالحريّ ممّا أراده.

تجزئة النصّ

وفقًا للمخطّط الخماسيّ الذي وضعه لاريفاي، وشرحه مارغيرا في كتابه المذكور آنفًا، نجد الوضع البدئيّ في تقديم المكان الجِدِّيّ للأحداث أي «الجمجمة» في الآية (33 أ). تلي ذلك العقدة في الآيات (33ب- 38) حيث صار يسوع على الصليب، والشعب مع الرؤساء يسخرون منه، والجند يستهزئون. أمّا الحدث المحوّل، فهو في الحوار بين اللصّين (٣٩- ٤١). ويأتي الحلّ على لسان يسوع في حوار مع اللصّ بالآيات (٤٢- ٤٣) وإعطاء الوعد من يسوع. أمّا الوضع النهائيّ، فهو إظلام الأرض كخاتمة لحدث الصلب في الآية (44).

التفسير السرديّ

يقدّم لنا لوقا الوضع البدئيّ باختصار، إنّها الجمجمة، فلا يشير إلى الموضع سوى باسمه. ربّما لا يريد التركيز على المكان بقدر ما يريد تسليط الضوء على الأشخاص والأحداث. وتبدو الشخصيّة الرئيسة منذ البدء موضع الاهتمام؛ إنّه يسوع مصلوبًا بين لصّين، وهذه هي بداءة العقدة التي تنجلي شيئًا فشيئًا وبسرعة، حيث إنّ يسوع الذي عرَّفَ عنه لوقا منذ مطلع إنجيله، على لسان الملاك، أنّه «يكون عظيمًا وابن العليّ يُدعى ويعطيه الربّ الإله كرسيّ داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية» (لوقا ١: ٣٢- ٣٣) ويؤكّد أنّه يُدعى «ابن اللَّه» (لوقا 32: 35ج)، هذا الآن يصنع الارتباك، فهو مع كلّ صفاته المرتقبة، نرى أنّ: الجنود تحت صليبه يقترعون، الجموع مع الرؤساء والجند يستهزئون به، اللصّ يجدّف عليه، كلّ هذا في تصاعد سريع وكثيف للأحداث، يريد لوقا به أن ينقلنا إلى الذروة، حتّى يعطينا الحلّ باعتراف اللصّ ووعد يسوع له. ويأتي الوضع النهائيّ منطقيًّا، وكأنّ لوقا يُطفئ الأنوار، فقد أظلمت الشمس، وصار ظلام على الأرض كلّها. هذا هو الحدث الذي ينهي المقطع، ويفتح بداءة جديدة لحدث جديد.

تسلسل الأفعال

من أجل رؤية النصّ بوضوح أكبر وفهم حبكة القصّة، والحوار والتفاعل القائم بين الشخصيّات، قسمته إلى أحداث رئيسة توضح «السّيناريو» وفق الجدول المبيَّن أدناه. وأيضًا وضعت لائحة تطبيقًا للمخطّط الخماسيّ (لاريفاي المذكور سابقًا)، تحوي الأفعال الرئيسة في القصّة متقابلة وفقًا لمبدأ الفعل وردّ الفعل:

نلاحظ أنّ أفعال السرد مقسومة إلى قسمين، فالقسم الأوّل منها يتوافق مع عدم التوازن الموجود في العقدة، حيث إنّ يسوع، كما عرّف عنه لوقا في مطلع إنجيله: «العظيم»، «ابن العليّ»، «الذي ليس لملكه نهاية»، «ابن اللَّه»، «المالك على بيت داود أبيه»، يعود لوقا فيقدّمه لنا الآن مصلوبًا مع الأثمة! فتأتي الأفعال المستخدمة هنا تصعيديّة وتحمل معاني التوتّر: صلبوه، يسخرون، استهزأوا، يجدّف، وكلّها ذات مدلول سلبيّ بكلّ تأكيد، وهي ترافق الارتباك الحاصل لدى القارئ. لكنّ هذه الأفعال في قسمها الثاني تعود لتصبح أفعال حوار وتفاهُم عندما يبدأ اللصّ المتعاطف مع يسوع بالكلام؛ هنا يبدأ الحوار بالأفعال: قائلاً، قال؛ وتختتم الأفعال جميعها بالفعل «كانت» (بمعنى الصيرورة) كخاتمة هادئة لِمَا قَدَّمَ له الحوار الإيجابيّ الأخير.

لم يكن، كما نلاحظ، أيّ حوار منذ البدء بين الشخصيّات من جهة ويسوع من جهة ثانية، فالشخصيّات جميعها تتكلّم، تصرخ، تجدّف وتستهزئ، إلاّ يسوع فهو الوحيد، على ما يبدو، الصامت. لكنّ المفاجأة تأتي في أنّ يسوع تكلّم مرّة واحدة، وفي هذه المرّة تكلّم يسوع إلى مَنْ وَجَدَ لديه «أُذنين للسمع»، وتأتي هذه المفاجأة كردّ فعل لمفاجأة أكبر سبقتها وهي أنّ اللصّ فَهِمَ مَنْ هو يسوع (على غير المتوقّع)، أمّا الشعب، مَنْ يُفتَرَض به الفهم، فلم يفهم. إذًا، يبدو أنّ الدور السلبيّ الذي قامت به الشخصيّات تجاه يسوع دَعاه إلى الصمت. أمّا دور اللصّ. الذي دافع عنه، فبدا إيجابيًّا حرّض يسوع على الكلام.

نلاحظ أنّ السرد الروائيّ يركّز على شخصيّة يسوع رغم أنّه لا يتكلّم سوى مرّة واحدة. يبدو يسوع مُساقًا في كلّ أحداث الصلب التي حصلت، فهو لا يتصرّف بسلطان كما يقدّمه لوقا في ما سبق من أحداث الإنجيل، بل «كَحَمَلٍ مُقَادٍ إلى الذَّبحِ»، وتتمّ عمليّة الذبح وهو صامت. ربّما كان صمت يسوع عَثَرَة وجهالة للذين كانوا واقفين ولأحَدِ اللصَّيْن، فدفعهم هذا إلى اتّخاذ الموقف السلبيّ، أمّا اللصّ الآخر، فقد دفعه السبب ذاته، أي صَمْتُ يسوع، إلى اتّخاذ موقف مغاير والتفكير في أمر آخر، فهو يجد نفسه مضطرًّا أمام ما شاهده من صمت يسوع واستسلامه للآلام، إلى أن يُسْكِتَ ضجيجَ أَحَد الموجودين على الأقلّ، أعني اللصّ الآخر، لذلك قام على الفور بالردّ على ذاك ثمّ التواصل مع يسوع. كان التواصل بين اللصّ ويسوع قصيرًا، مقتضبًا وبعبارات صغيرة جدًّا:

«اذكرني يا ربّ متى جئت في ملكوتك».

«الحق أقول لك إنّك اليوم تكون معي في الفردوس».

وبهذا يكون اعتراف اللصّ بأنّ يسوع هو »ربّ«، ثمّ إيجاب يسوع بالوعد وبالإشارة إلى الفردوس، هو ما يُطَمْئِنُ القارئ ويعطي الحلّ والراحة والأمان تجاه كلّ ما سبق من تعقيد وتوتّر وشكّ.

الشخصيّات وعلاقتها العامليّة

إنّ دراسة حبكة القصّة عبر الأفعال تبقى غير مكتملة، ما لم ننظر بتمعّن إلى وجوه الشخصيّات ونبحث عن وظيفة كلّ منها. علينا أن نأخذ بالاعتبار العلاقات التي بينها وما يعروها من تبدّل. وإذا أردنا أن نصنّف الشخصيّات بحسب كثافة حضورها، نجد أنّ الشعب والرؤساء (آية 35) والجند (آية 36) إضافة إلى صالِبي يسوع في (33، 34) يؤدّون دور الخيط في التحليل السّرديّ أي ما يسمّى (ficelle) فهم يمثّلون خلفيّة المشهد. أمّا بطل القصّة بلا منازع، فهو يسوع، حيث إنّ كلّ الأحداث تدور حوله، وكلّ الأفعال الرئيسة التي قامت بها جميع الشخصيّات الأخرى تتوجّه إليه عبر الضمير المُشير إليه، حيث نلاحظ الأفعال: مضوا به، صلبوه، يسخرون به، استهزأوا به، يجدّف عليه، قال ليسوع.

أمّا اللصّان، فهما على مستوى ثانٍ، لأنّ لهما معطيات الشخصيّة المتكاملة من غير أن يكونوا أبطالاً في القصّة، فقد تفاعلا مع الحدث ومع الشخصيّة الرئيسة بشكل مباشر، لكنّ لوقا لا يعطي أيّ تعريف عنهما سوى أنّهما »لصّان«.

إذا أردنا أن نصنّف الشخصيّات بحسب وظيفتها السرديّة الأساسيّة في الحبكة، علينا أن ننـتبه إلى العوامل (مفردها عامل (actant) وبحسب غْرَيماس(٣) توجد على الأكثر ستّة أدوار للعوامل: الـمُرسِلُ يُرسِلُ الفاعلَ، والفَاعِلُ يـبحثُ عن موضوع أو غرض ذي قيمة عليه أن يسلّمه إلى الـمُرَسَل إليه، وفي هذه الأثناء تساعدُه على ذلك أمور، أو تعيقه عن ذلك أمور أخرى، وبالتطبيق نحصل على لائحة العوامل الآتية:

نؤكّد هكذا على دور يسوع كبطلٍ للقصّة. أمّا وظيفة اللصّ المتعاطف معه فتبدو كمتقبّل لعمل الفاعل (يسوع)، حيث إنّ يسوع يريد أن يوصل حقيقته كـ «ربّ» وهذا اللصّ هو من تلقّف هذه الحقيقة وفهمها وأعلنها.

صحيح أنّ المرسِل لم يُذكَر في سياق المقطع المُختَار، لكنّ لوقا يشير إليه بغاية الوضوح منذ مطلع إنجيله في الإصحاح الأوّل: إنّه اللَّه الذي أرسل ملاكه إلى العذراء مبشّرًا إيّاها بولادة ابنه، لذا كان موضوع اعتراف اللصّ أمرًا غاية في الأهمّيّة، إذ إنّ ابن المرسِل (اللَّه) هو »ربّ«.

أمّا في الحديث عن العامِلَين: المعيق والمساعد، فإنّنا نوضح رأينا بما يأتي: يبدو أنّ الشعب، الرؤساء، الجند، معيقون للموضوع الذي يحمله يسوع لأنّهم يجدّفون ويستهزئون، وهذا يعيق وصول فكرة أنّه ربّ إلى اللصّ المتعاطف؛ فكيف يكون ربًّا وكلّ هذا التجديف موجّه ضدّه؟! كما أنّ الصليب هو معيق أيضًا لأنّه بحسب العادات والتقاليد الاجتماعيّة والدينيّة أداة لعنة، فكيف يكون الربّ معلّقًا على أداة للعنة؟! لهذا كان جهالة وعثرة على حسب قول بولس الرسول لليهود من جهة: الشعب والرؤساء، وللأمم من جهة أخرى: الجند. لذا يمكننا أن نصنّف العادات والتقاليد كمعيق أيضًا.

لماذا صنّفنا صمت يسوع كعامل مساعد؟ لأنّ يسوع بِصَمْتٍ وضّح للصّ براءَتَه هو، وبهذه الوداعة أتاح له الفهم وقاده إلى الاعتراف به ربًّا، وهكذا ردّ يسوع بالوعد، موضحًا أنّ اعتراف اللصّ صحيح، أي أنّه الربّ فعلاً، وهكذا عبر التسلسل يتبدّل يسوع، في نظر القارئ، من مصلوب مُذنِب إلى بريءٍ وربٍّ.

تصنيف الشخصيات بحسب وظيفتها

خلاصة

يمنحنا التحليل السرديّ نظرة أكثر وضوحًا لكلّ من الشخصيّات وحبكة النصّ، ويجعلنا نقترب من الأحداث الرئيسة، ونفهم دور كلّ من الشخصيّات، إنْ من حيث الأهمّيّة أو الوظيفة. في المقطع مغزى تعليميّ كبير يبرزه التحليل، إذ إنّ يسوع جاء من أجل الخطأة، وها هو يحمل الخلاص للصّ على الصليب، أي في آخر اللحظات. لقد استطاع يسوع تغيير هذا اللصّ قبيل موته، وبماذا؟ بالصمت، بالوداعة في وسط الآلام. لم ينتهر يسوع اللصّ الذي جدّف عليه، بل سكتَ بوداعة، فحرّك قلبه ودعاه إلى التوبة. ما ظهر منذ البدء على أنّه نهاية يسوع، وأنّه الحدث البشع، نقصد به الصّلب، صار حدثًا مفرحًا، فبدلاً من اللعنة التي يجلبها الصليب، جلب الصليب الفرح للصّ، حيث إنّ يسوع وعده بالفردوس حالاً. لهذا نقرأ في النصوص المسيحيّة أنّ الصليب هو »عود الحياة«. ما يريد كاتب النصّ (لوقا)، بواسطة الوحي الإلهيّ، أن نفهمه: أنّ إيمان اللصّ المؤمن إشارة وعبرة إلى كلّ الذين سيؤمنون. أمّا تجديف اللصّ الآخر, فهو رمز إلى جميع الذين سيرفضون بشارة يسوع. n

 

 

المراجع

العيد، يمنى. تقنيات السرد الروائيّ في ضوء المنهج البنيويّ، دار الفارابي، لبنان، بيروت، الطبعة الثالثة، ٢٠١٠.

عيّوش، دانيال. »صيّادون بلا سفن وبلا شباك. نموذج تحليل سرديّ لـ لوقا ٥: ١- ١١«. حوليّات معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ، الجزءان الرابع والخامس. البلمند: معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ، ٢٠٠٣. ١٥٣-١٦٥.

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search