السبت الذي صنعه الربّ
نقولا أبو مراد
أن يكون السبت، في التقليد الليتورجيّ، يوم «دفن الربّ يسوع وقيامته»، واليوم الذي فيه انبلج نوره منبعثًا من القبر ومشعًّا على المسكونة بأسرها، إنّما يعود، في الأساس، إلى رواية الخلق في ستّة أيّام كما ترد في مطلع الكتاب المقدّس، واضعةً، بكونها بدء التكوين، أسس ما سيرد بعدها في الأسفار، لتكون مآلاً وغايةً لكلّ ما سيرسمه الكتاب الإلهيّ من مسيراتٍ تكتمل معانيها في مسيرة الربّ يسوع وبلوغه، بموته وقيامته، السبت المبارك والمقدّس، السبت الذي أكمل فيه اللَّه أعماله بعد أن جعل «أرض الخراب والخواء»، أرضًا كلّ شيء فيها حسنٌ جدًّا (تكوين 1: 31).
ولكي نرى أبعاد هذا، وكيفيّة انغراس الكلام عن القيامة والاحتفال بها في رواية الخلق في ستّة أيّام، أشير، بدءًا، إلى المقابلة، في تكوين 1: 1 – 2، بين «البدء» المطلق الذي يجعل فيه الكاتب خلق اللَّه السماوات والأرض (تكوين 1: 1)، وبين زمنٍ مضى وانتهى بـهذا «البدء»، يفترضه في قوله، «وكانت الأرض خرابًا وخواءً» (تكوين 1: 2). لا تنمّ صيغة الماضي من فعل «كان»، في اللغات الساميّة، عن وصفٍ لحالة فحسب، ولكنّها تفترض، ولا سيّما في هذا النصّ، ديناميّةً أفضت إلى هذه الحالة. وهذه الديناميّة يشير إليها الكاتب بحركة الظلمة التي تغطّي البحار، والبحار التي تغرق الأرض في مواتيّةٍ مستمرّةٍ إلى أن قال اللَّه «ليكن نورٌ» (تكوين 1: 3). وكأنّ للأرض تاريخًا، قبل البدء، كان لها زمنًا صارت فيه في خراب وخواءٍ، قطعه اللَّه حين أبرأها، أي شفاها– وهذا ما يعنيه في الأصل الفعل العبريّ المستعمل في هذا المقطع– من أسباب خرابها، وكان شفاؤه هذا لها بدءًا لنظامٍ وترتيبٍ حقّقهما لها حين عمل كلّ شيء فيها حسنًا واستراح.
ولعلّ أفضل شرحٍ لهذا ما جاء في إرميا 4: 27 – 31، حيث استعادةٌ لرواية الخلق في ستّة أيّام، بلغتها وعباراتها وصورها، معكوسةً في حركيّة تتّجه بالأرض والسماوات إلى «الخراب والخواء». والحقيقة أنّ العبارة العبريّة النادرة الاستعال، والتي تفيد «الخراب والخواء» tohou wa bohou، لا ترد في الكتاب إلاّ في هذين الموضعين، ما يدلّ على وثوق العلاقة بينهما؛ ففي واحدهما ينتهي زمن الخراب والخواء بعمل اللَّه، وفي ثانيهما وصفٌ للحركة التي تعيث خرابًا وخواءً في الأرض. في أوّلهما كلّ شيء حسنٌ جدًّا بما يعمله اللَّه الذي لا فاعل فيه سواه، فهو الذي يزيل الظلمة بقوله «ليكن نورٌ»، وينتشل اليابسة من غرقها في الغمر بردّ المياه عنها، فتصير في حياةٍ بعد موتٍ حين تنبت عشبًا يبذر وشجرًا مثمرًا يحمل أسباب استمراره. وينتظم فيها الزمان، نهارًا وليلاً وأيّامًا وأشهرًا وسنين، بالأنوار التي جعلها اللَّه في السماوات، فتصير موئلاً للأحياء، ويكون فيها الإنسان، بأمر اللَّه، صورةً ومثالاً له، حافظًا لحسنها وترتيبها. هذا عمل اللَّه أوّلا وآخرًا.
أمّا في الثاني، ففي السماوات ظلمةٌ ولا نور، وعلى الأرض انعدامٌ للنظام، والجبال ترتجف والتلال تتقلقل، ومعها تغيب الحياة، فلا إنسان ولا طيور ولا عشب ولا أشجار مثمرة، وقد نقض كلّ شيءٍ. أمّا السبب فهو أنّ في هذا المقطع فاعلاً غير الربّ يذكره إرميا في نهايته، حيث يقول، «ابنة صهيون تزفر، تبسط يديها قائلة، ويل لي لأنّ نفسي أغمي عليها بسبب القاتلين» (إرميا 4: 31). القاتلون هم أصحاب الفعل هنا، وأفعالهم يذكرها النبيّ في المقطع اللاحق (إرميا 5)، فيقول إنّهم لا يعملون العدل ولا يطالبون بالحقّ (إرميا 5: 1)، بل أشرار هم، ينصبون أشراكًا للناس، ويمكرون، ويعظمون، ويستغنون، ويظلمون اليتيم، ويفسدون في حقّ المسكين (إرميا 5: 25– 29)، والأنبياء والكهنة يكذبون، والشعب الذي يرأسونه محبّ لكذبهم، وهم جميعًا إلى آخرةٍ يعجزون أمامها عن عمل أيّ شيء (إرميا 5: 30– 31). هذا فعل القاتلين أوّلا وآخرًا.
زمنان إذًا في تكوين 1 وإرميا 4– 5؛ زمن القاتلين، ما يعملونه يقوده إلى آخرةٍ سيعجزون فيها عن الفعل لأنّ الكلّ سيؤول إلى الخراب، وزمنٌ هو بدءٌ، بفعل اللَّه، بعد آخرة زمن القاتلين، وهو إصلاح لما فسد بإبطال أثر الشرّ والكذب إلى أن يستحيل الإنسان الظالم إنسانًا يكون للَّه صورةً ومثالاً حين يكفّ عن فعله، ويعمل أعمال اللَّه إلى أن يتحقّق الحسن خيرًا وحياةً، لا تكون منه بل من اللَّه. وأوج هذا الزمن، في ترتيب رواية الخلق، السبت الذي يستريح فيه اللَّه، بعد عملٍ في أيّام الخلق، ولا يستريح الإنسان من عمل الخير الذي أنشأه اللَّه، فيكون له يوم سبت الربّ يوم ثباتٍ له في كلمته. تلك هي جدّة البدء الذي لا آخرة له.
ولعلّ أفضل تعبير عمّا يعنيه هذان الزمنان، ودورهما في السياق الكتابيّ، كما وترجمتهما في الزمن الليتورجيّ مختتمًا في سبت النور، فنجده في المزامير التي موسى رجل اللَّه مرنّمها (مزمور 90 – 100). أن يكون موسى هو مرنّم هذه المزامير – يذكر موسى في عنوان مزمور 90، أمّا المزامير الأخرى فلا ذكر لمرنّم في عنوانها، ما يعني أنّها تندرج، كما هو الحال في المزامير الأخرى المشابهة، تحت اسم المرنّم المذكور أخيرًا – يؤصّلها في أسفار التوراة المسمّاة أسفار موسى.
تبدأ هذه المجموعة من المزامير بتأكيدٍ، على لسان موسى، على أنّ الربّ هو الإله الخالق والديّان وملك الأرض كلّها وما فيها. وهذا هو المنظور الذي يقدّمه سفر التكوين في مطلعه. يستند مزمور 90 إلى هذه البداءة، حيث القول إنّ الربّ خلق الإنسان من الغبار، فيقدّم اعترافًا بخطيئة الإنسان إذ لم يدرك حدوده وقصر أيّامه وأنّه فانٍ وإلى زوال. ويتبع هذا الاعتراف بصلاة إلى الربّ ليرسل رأفته ورحمته على عبيده.
والاستناد إلى بدء سفر التكوين، في هذا المزمور، نجده في التنقّل بين الكلام على خطيئة الإنسان كما يقدّمها تكوين 3– 11، وفعل اللَّه في الخلق، كما في تكوين 1، حين جعل كلّ شيء جديدًا، وأخرج الأرض من مواتيّتها، وصنع الإنسان على صورته ومثاله. أصل الأشياء عند الكاتب أنّ الربّ هو اللَّه الذي خلق السماوات والأرض وثبّتها وأقام الإنسان عليها بعد أن صنعه من الغبار. غير أنّ الإنسان أخطأ إلى الربّ، فتناسى فنائيّته وراح يتصرّف بكبرياء وكأنّه سيّد العالم وباقٍ إلى الأبد. يمثّل موسى المتكلّم في هذا المزمور الصوت الذي يدعو إلى العودة إلى أصل الأشياء، بالتسليم لعمل اللَّه الذي به ينتشل الإنسان من موته وابتعاده عنه، كما انتشل الأرض من الخراب الذي كانت فيه، واليابسة من غرقها، ليعود كلّ شيء جديدًا.
ويتناول مزمور 92، المسمّى في عنوانه «أغنية ليوم السبت»، ومعه مزمور 94، الزمنين اللذين أشرنا إليهما أعلاه. ويحمل مزمور 92 طابع الاكتمال من جهة العمل الإلهيّ، وذلك بتمجيده أعمال الربّ وكلامه على سقوط الأشرار وثبات الصدّيقين إلى الأبد. يوم السبت هو اليوم السابع، الذي فيه أكمل الربّ خلق السماوات والأرض وكلّ أعماله، وهو اليوم الوحيد الذي تقول رواية الخلق إنّ اللَّه باركه وقدّسه، وذلك بأنّه فيه «استراح من جميع عمله الذي عمله خالقًا» (تكوين 2: 4). اكتمال عمل اللَّه في الخلق يعني أنّ ما فعله اللَّه كان نهائيًّا ومطلقًا ولا ينقصه أيّ شيء، فالأرض والسماوات التي خلقها، جعلها على أكمل وجه، وأعطى الحياة في الأرض بوفرةٍ وكان الإنسان على صورته ومثاله. لا شيء يهدّد حسن ما عمله الله، فقد بادت الظلمة بالنور، وارتدّت المياه عن الأرض. وبتعبير مزمور 92، تحقّق هذا حين غلب اللَّه، نهائيًّا، الشرّ والخطيئة التي نتجت من كبرياء الإنسان وأباد «فاعلي الإثم» وثبّت الأبرار والصدّيقين الذين يلتجئون إليه وينتظرون خلاصه.
في المزمور 92 يحمد المرنّم الربّ ويرنّم له فرحًا بأعماله التي عملها وأكملها، ويربط هذه الأعمال مباشرةً بدينونة الأشرار (آ 6– 11)، وبالثواب الذي يناله الصدّيقون (آ 12– 15). وارتباط هذا بيوم السبت ذو وجهين؛ أوّلهما اكتمال الأعمال الإلهيّة على أساس تكوين 2: 1– 4، وثانيهما اعتبار يوم السبت اليوم الذي أوصى موسى بأن يحفظه الخارجون من مصر تذكارًا للشريعة التي أعلنها الربّ في سيناء (تثنية 5: 1– 22). حفظ يوم السبت يتوسّط وصايا الربّ في خروج 20: 1– 17، وكذلك في تكرار هذه الوصايا على لسان موسى في تثنية 5: 1– 22. نلاحظ في هذين المقطعين اختلافًا مهمًّا، ففي نصّ الخروج يعلّل الكاتب وجوب حفظ يوم السبت بأنّ الربّ استراح فيه من عمله بعد أن «صنع السماء والأرض والبحر وكلّ ما فيها» في ستّة أيّام (خروج 20: 11). أمّا في نصّ تثنية الاشتراع، فعلى إسرائيل أن يحفظ يوم السبت، لأنّ «الربّ إلهك أخرجك من هناك (من مصر) بيد عزيزةٍ وذراع ممدودة» (تثنية 5: 15). ذكر الخلق في نصّ الخروج، والخروج من مصر في نصّ تثنية الاشتراع يعني أنّ الكاتب أراد أن يوازي بينهما، ويقول إنّ الخروج من مصر هو أيضًا كمال العمل الإلهيّ إذ أنقذ الربّ شعبه المتضايق من مستعبديه، وغلب أعداءه.
أضف إلى هذا أنّ توسّط وصيّة حفظ يوم السبت للوصايا في المقطعين، ذو مدلول مهمّ يمكن استشفافه من الجملة التي ترد على نحو متشابه في كلا المقطعين، ويوردها نصّ الخروج كالآتي، «ستّة أيّام تعمل وتصنع جميع عملك. وأمّا اليوم السابع ففيه سبت للربّ إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك» (خروج 20: 9– 10). بناءً على تعليل الكاتب لهذا يكون الربّ «صنع السماء والأرض والبحر في ستّة أيّام» واستراح في اليوم السابع، يمكن القول إنّ قصده أن يوازي بين عمل الربّ الذي جعل كلّ شيء حسنًا، وبين أن يكون ما يعمله المخاطب في الوصايا في أيّام العمل الستّة حسنًا أيضًا. ويكون عمله حسنًا إذا ما عمل بمقتضى باقي الوصايا التي أوصى الربّ بها من على جبل قدسه في سيناء، وتتمحور حول صنع الخير للقريب.
في نصّ التثنية يلقي الكاتب ضوءًا إضافيًّا على مدلول هذا، إذ ترد فيه الجملة المشار إليها أعلاه على النحو الآتي، «ستّة أيّام تعمل وتعمل جميع أعمالك. وأمّا اليوم السابع فسبت للربّ إلهك لا تعمل عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وثورك وحمارك وكلّ بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك. واذكر أنّك كنت عبدًا في أرض مصر فأخرجك الربّ إلهك من هناك...» (تثنية 5: 13– 15). واضح أنّ التركيز هنا هو على معاملة المخاطب لعبده وأمته. فعلى سامع كلمة الربّ أن يساوي عبده وأمته بنفسه، فيستريحون حين يستريح هو، ويعملون حين يعمل. والسبب الذي يعطيه النصّ هو أنّ هذا السامع كان هو نفسه عبدًا في مصر يعيش في الضيق والذلّة والربّ خلّصه. بالقياس يمكن القول إنّ يوم السبت إنّما هو يوم ينقذ فيه المخاطب بكلمة الربّ عبده وأمته من ضيقهما وذلّهما ويساويهما بنفسه، فلا يكون لهما كما كان فرعون والمصريّون له، مذلاًّ ومقسّيًا العبوديّة بحيث يرزح العبد ويئنّ. الربّ الذي خلّصه حين رزح هو وصرخ إليه، يخلّص أيضًا عبده وأمته منه إذا ما أساء هو إليهما، فيحلّ به ما حلّ بفرعون. وعليه، يكون يوم السبت يومًا يتذكّر فيه المخاطب ألاّ يستكبر ويتعالى ويظلم، بل يكون لكلمة الربّ سامعًا وفاهمًا لمعنى الخروج وتطبيقه في حياته وعلاقته مع من حوله.
إذا ما شئنا أن نربط بين النصّين يكون «الخير» الذي يعمله الإنسان السامع لوصايا الربّ هو كمال الأعمال وتمامها، بعد أن يكون أقصي كلّ شرّ وانتفى الظلم. وهكذا يكتمل الخلق فتعود الأرض إلى حسنها، والإنسان إلى صورة اللَّه ومثاله.
وإذا كان مزمور 92 قد تحدّث عن اليوم السابع، اليوم الذي استراح فيه الربّ من كلّ أعماله، باعتباره هو المطاف الأخير، حيث يسمو الربّ وأعماله، ويباد الشرّير ويثبت الصدّيق إلى الأبد، فإنّ مزمور 94 هو صلاةٌ إلى الربّ لكي يحقّق للمرنّم هذا اليوم السابع. وهي صلاة قائمةٌ على الإيمان والثقة بسيادة الربّ وقدرته، كما يعبّر عنها مزمور 93. يتطلّع المرنّم إلى الخلاص الإلهيّ انطلاقًا من التاريخ الذي يعيش فيه، والذي فيه يسود «صنيع المتكبّرين» (آية 2) الذين «يتعالون ويتكلّمون بوقاحة ويسحقون الأرملة والغريب واليتيم ويقولون إنّ الربّ لا يرى» (آية 3– 7)، وينقضّون على الصدّيق ويحكمون على البريء ظلمًا (آية 21). ويعبّر المرنّم عن استمرار هذا الزمن، زمن الأشرار والفاسدين، في سؤاله المكّرر، في آية 2، «حتّى متى؟»، الذي يدلّ على طول المدّة التي يتحرّك فيها هؤلاء الأشرار والظالمون ويفعلون أفعالهم. نحن إذًا في صلب التاريخ الذي يشهد حركة البشر، والذي فيه يعيش الإنسان كبرياءه متجاهلاً الربّ. وبلغة مزمور 92، هذا هو زمن «زهو الأشرار» و«إزهار فاعلي الإثم». إنّه زمنٌ طويل، يموت فيه الأبرار والصدّيقون ظلمًا، وينسحق الضعفاء والمساكين. ومن هذ الزمن، تحديدًا، يصرخ المرنّم إلى «إله النقمات» (آية 1)، لكي يضع نهاية لزمان «زهو الأشرار» بفعله المخلّص، فيعمل أعماله، وينتقم للصدّيق والبريء من الأشرار، ويحلّ يوم سبْته، اليوم الذي فيه يحقّق، في تاريخ المرنّم، ملكه وجلاله وقدرته، فيثبت هذا اليوم إلى الأبد، على ما أعلنه في المزمورين 92 و93. يبني صلاته هذه على يقينه بأنّ الربّ هو سيّد التاريخ والزمان. فهو الذي «ثبّت كرسيّه منذ القدم»، وهو «منذ الأزل» (مزمور 93: 2). وهو اللَّه من قبل أن تولد الجبال والأرض» (مزمور 91: 2)، وله طول الأيّام (مزمور 91: 16؛ مزمور 93: 5)، وهو «متعالٍ إلى الأبد» (مزمور 92: 8). إذا كان الربّ منذ الأزل، وهو باقٍ إلى الأبد متعاليًا، فهذا يعني أنّ زمن الأشرار، مهما طال سينتهي. والمرنّم يسأل الربّ في هذا المزمور أن ينهيه سريعًا، «ليريح الإنسان من أيّام الشرّ».
إلى جانب هذه النظرة إلى الزمن التي يستند إليها كلام المرنّم في هذا المزمور، الجانب المهمّ فيه أيضًا هو أنّ العمل الذي ينتظره من الربّ، والذي به تنتهي «أيّام الشرّ ويسقط الشرّير في الفخّ»، إنّما هو «تأديب الربّ للإنسان وتعليمه شريعته» (آية 12). والحقيقة أنّ هذه الآية هي وسط المزمور، تسبقها إحدى عشرة آيةً وتليها إحدى عشرة آية، وتبدأ بعبارة «طوبى» التي يبدأ بها سفر المزامير. وهي، في قناعتي، تفسّر عمل الربّ في الخلق في تكوين 1، بأنّه تعليم لشريعته وتأديب للإنسان. هذان التعليم والتأديب هما، إذًا، ما يجعل «كلّ ما صنعه الربّ حسنًا جدًّا»، وبهما يتحقّق العدل على الأرض، ويرتفع الصدّيق ويزهو، ويحلّ اليوم السابع الذي فيه يستريح الربّ من عمله، حين يصير تأديبه وشريعته في قلب كلّ إنسانٍ على الأرض، فيسود في الزمان الخير بدلاً من الشرّ، والعدل بدلاً من الظلم، ويهزم عجيج البشر، لتبقى القداسة في الأرض إلى مدى الأيّام. غير أنّ الربّ أعطى شريعته بموسى، وعلّمها غير مرّة في سفر المزامير، وما على الإنسان سوى أن يتلقّفها ويعمل بها، ليشترك في أبديّة قداسة الربّ، ويتحقّق في عمله هو سبْت الربّ.
يلفتنا، في هذا السياق، العنوان الذي تعطيه السبعينيّة لهذا المزمور. فهي تربطه بموضوع يوم السبت فتذكر أنّه «مزمور لداود، لليوم الرابع من السبت/ من الأسبوع». نلاحظ أنّ السبعينيّة ترى تكاملاً بين مزمور 92 و93 و94. فالمزمور 92 هو مزمور ليوم السبت، ومزمور 93 لليوم الذي يسبق السبت، ومزمور 94 لليوم الرابع من السبت/الأسبوع. وبناءً على تفسيرنا لهذه العناوين، إذا كان يوم السبت في مزمور 92 هو نهاية عمل الربّ، وينحو نحو الأبد، واليوم الذي «قبل السبت/الأسبوع» هو دلالة على أنّ الربّ هو منذ الأزل، وسابق للوقت الذي أصبحت فيه الأرض مسكونةً، فإنّ اليوم الرابع هو رمز للزمان الذي بين أزليّة الربّ وأبديّته.
السؤال الذي يطرح ذاته هنا هو لماذا اختارت السبعينيّة اليوم الرابع، ولم تختر غيره من الأيّام الستّة. إذا عدنا إلى قصّة الخلق في تكوين 1، نجد أنّ اليوم الرابع هو الذي فيه خلق الربّ النورين العظيمين، والذي في الكلام عمّا صنعه فيه اللَّه، يذكر الكاتب «الأوقات والأيّام والسنين» (تكوين 1: 14). وكأنّ اليوم الرابع، الذي فيه صنع اللَّه الشمس والقمر والنجوم «لتفصل بين الليل والنهار»، هو اليوم الذي بدأ الزمان فيه يحتسب، وذلك على خلفيّة أنّ احتساب الزمان عند الناس يستند إلى حركة الشمس والقمر والنجوم. من هذا المنطلق، ذكر اليوم الرابع من السبت/ الأسبوع في عنوان المزمور في السبعينيّة، يأخذ بالاعتبار البعد الزمنيّ الحاضر في سؤال المرنّم «حتّى متى» (آية 3)، وذكره «أيّام الشرّ» (آية 13)، ليدلّ على أنّ الزمن الذي استغلّه الأشرار للقيام بأعمالهم الظالمة، إنّما هو بالحقيقة الزمان الذي أنشأه الربّ، وسوف يستعيده منهم، ويعيده إلى خلقه الأوّل، حيث ترتيبه يندرج في حسن الخلق وفي النظام الذي أقامه اللَّه، والذي هو بداءته ونهايته.
على هذا الأساس فهم واضعو السبعينيّة، ونفهم نحن أيضًا هذا المزمور ونبرته، وكيف عاد فيه المرنّم إلى الشكوى إلى الربّ، بعد أن كان احتفل بخلاصه في المزمورين السابقين. فالمرنّم، وكذلك السامع والقارئ، متموضعون في تاريخٍ لا يزال الظلم فيه حاضرًا والشرّ يملأ الأرض. إيمان المرنّم بأنّ الربّ قبل الزمان، وأنّه بعد الزمان وهو الذي وضعه وجعل له حكمًا وترتيبًا. ومن هذا المنطلق يدعو إلى الإيمان بأنّ الربّ سيستعيد الزمان من المغتصبين، ويحقّق سيادته عليه مدى الدهور. هذه السيادة الإلهيّة المعبّر عنها في مزمور 90– 94 وفي تكوين 1، تتحقّق في مزمور 95– 100، حيث يرنّم البشر والخليقة كلّها بما فيها للربّ الملك مبتهجة بتدشينه زمنه، حيث العدل والحقّ يسودان، وتكون كلمته أساسًا للحياة.
في قناعتي أنّ هذا هو الأساس الذي يقوم عليه ترتيب خدمة سبت النور، حيث تتدرّج القراءات الكتابيّة من ذكر الخلق في القراءة الأوّلى، وهي من تكوين 1، وتنتهي بتمجيد الخليقة كلّها للإله المخلّص الذي أسقط هيبة كبرياء الملك الظالم، وأنقذ الودعاء، وذلك في القراءة من سفر دانيال. ويختتم الكلّ بالخليقة وما فيها مدعوّةً إلى أن تبارك الربّ وتمجّده، أي أن تخضع نفسها لكلمته التي ستُقرأ من الرسالة والإنجيل، وما بينهما من إعلان لانتهاء زمن المتكبّرين وابتداء زمن الربّ الذي لا نهاية له. من المزامير تقتبس الإستيخونات التي ترنّم بعد الرسالة مع لازمة «قم يا اللَّه واحكم في الأرض»، على النحو الآتي، «اللَّه قام في مجمع الآلهة وفي وسط الآلهة يحكم. إلى متى تقضون بالظلم وتأخذون بوجوه الخطأة. احكموا لليتيم والفقير وأنصفوا المسكين والبائس. أنقذوا البائس والفقير وخلّصوهما من يد الخاطئ. لم يعلموا ولم يفهموا أنّهم في الظلمة يسلكون، تزلزلت كلّ أساسات الأرض. أنا قلت إنّكم آلهة وبنو العليّ كلّكم، لكنكّم مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون».
في هذا أساس التعليم الذي توجّهه خدمة سبت النور إلى المحتفلين. في هذا اليوم، عليهم أن يدركوا أنّ زمن كبرياء الإنسان انتهى، وبدأ زمن اللَّه، وهم فيه مدعوّون إلى أن يسيروا في العدل وينصفوا المسكين والبائس وينقذوهما، ويسيروا في النور الذي قال له اللَّه كن فكان. وبهذا يتحقّق لهم بدء زمن اللَّه المدشّن بقيامة يسوع من بين الأموات، الباثّة في الخليقة حياة جديدةً بحسب مشيئة اللَّه التي كانت الشريعة ظلّها أمّا حقيقتها فهي في المسيح يسوع. في يسوع الذي حمل على منكبيه كلّ خروف ضالّ، ولأجل خطايا البشر، تألّم ومات، طريق لهم إلى قيامةٍ، يكون هو فيها بدء كلّ شيء ومنتهاه. وعليه، نرى أنّ القراءة الإنجيليّة الأوّلى التي تقرأ بعد السبت المبارك، هي مطلع إنجيل يوحنّا الذي يستعيد مطلع سفر التكوين، فيتحدّث عن «البدء»، ويقول إنّه بالكلمة، وإنّ البدء الذي صنعه اللَّه للسماوات والأرض الخربة والخاوية، إنّما هو في يسوع المسيح الله الذي به كان كلّ شيء، وله كلّ شيء. وإلى أن تسيل ماء الحياة في نهر صافٍ من عرش اللَّه والحمل المذبوح (رؤيا 22: 1)، وتغدو شجرة الحياة في متناول الأمم أجمعين، على المدعوّين أن يثبتوا في البرّ الذي تحقّق لهم بالقيامة، وأن يختاروا زمن اللَّه، ويخرجوا من زمن الظلم وتاريخه، حتّى إذا جاء الربّ يسوع، يرى فيهم شهودًا أمناء، ويثبّت أسماءهم في سفر الحياة.n