2017

13. وجه الإنسان: هل من بوصلة أفضل لتأوين المبادئ؟ - خريستو المرّ – العدد الثاني سنة 2017

 

وجه الإنسان‫:

 هل هناك من بوصلة أفضل لتأوين المبادئ

 

خريستو المرّ

 

في هذه المقالة، سنعرّج على مبادئ الحركة الستّة محاولين قراءتها على ضوء بعض مشاكل وتحدّيّات اليوم.

المبدأ الأوّل: حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة حركــة روحيّة تدعو جميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى نهضة دينيّة أخلاقيّة ثقافيّة واجتماعيّة.

١- هي حركة روحيّة: وتاليًا فالأوّلويّة هي للحياة الروحيّة، ولكنّ الحياة الروحيّة هي كلّ الحياة مُعاشة في الروح القدس »ترسل روحك فيُخلقون وتجدّد وجه الأرض«. ولهذا فإنّ الاجتماعيّ أساس أيضًا لأنّه كما أنّ الروحيّ يلهم الاجتماعيّ. فإنّ الاجتماعيّ يجذّر الروحيّ ويعمّقه وإلاّ صار الروحيّ هروبًا وخيانة للروح لأنّه يُقصي الروح القدس عن الحياة الشخصيّة بكلّ أبعادها.

٢- هي نهضة دينيّة: والنهضة تعتمد على اكتشاف التقليد وعيشه، لكنّ الإخلاص الحقيقيّ للتقليد هو بالضبط التجديد »لأنّ التقليد ليس إيداعًا جامدًا أو ميّتًا، ولكنّه حياة روح الحقّ نفسه الذي يعلّم الكنيسة«، كما يقول فلاديمير لوسكي(1). والتجديد لا يعني بطبيعة الحال رمي التقليد، بل ضرورة استشراف الإيمان ليقول كلمته في عالم اليوم بلغة اليوم، ولنفض ما علق به من »غبار« الحضارات (هذا ما فعلته الكنيسة الكاثوليكيّة مثلاً عندما أقرّت بأنّ الأرض ليست ثابتة وبل الشمس، أو عندما تراجعت الكنيسة عن الاعتقاد بأنّ الأرض خُلقَت حقيقةً في مدّة سبعة أيّام، إلخ.).

٣- هي نهضة أخلاقيّة: الحياة الروحيّة المسيحيّة يجب أن تتجسّد في التصرّف فـ»من ثمارهم تعرفونهم«. وهذا الأمر يمكن ترجمته في كلّ بلد حسب ظروفه. وإن كان كثير من الناس يفكّرون بالجنس عندما نتكلّم عن الأخلاق، إلاّ أنّ هناك أزمات أخلاقيّة كبرى تطحن ملايين الناس ولا نتكلّم عليها بالحدّة عينها للأسف، كالتعصّب والطائفيّة والعنصريّة، والغشّ في العمل، والفساد السياسيّ والماليّ. ومن هنا فالنهضة الأخلاقيّة في لبنان مثلاً، ينبغي أن تواجه هذه الأزمات الأخلاقيّة التي ذكرناها، فعلى الإنسان الحركيّ مثلاً أن ينتخب على أساس ما يراه مصلحة عامّة للناس في بلده وليس على أساس طائفيّ، أو مصلحة ماليّة خاصّة، وأن يعتبر أنّ عمله مع سياسيّين طائفيّين أو فاسدين هو فعليًّا خيانة للإيمان القويم.

المبدأ الثاني: تعتقد الحركة أنّ النهضة الدينيّة والثقافيّـة تقوم باتّباع الفروض الدينيّة ومعرفة تعاليم الكنيسة، لذلك تسعى لنشر تلك التعاليم وتقوية الإيمان المسيحيّ في الشعب.

النهضة تقوم على ممارسة الصلاة والأسرار الكنسيّة، وعلى اكتساب فكر المسيح من خلال معاشرة الكتاب المقدّس وكتابات الآباء. ويبقى الهّمّ الحركيّ أن يُترجَم الإيمان، في الحياة اليوميّة، نهضةً للرعيّة والمجتمع، واستقامةَ عيشٍ وخدمة. ولنشر تعاليم المسيح قامت الحركة بواسطة منشورات النور، ومن ثمّ بواسطة إنشاء تعاونيّة النور للنشر والتوزيع، بتأمين استمراريّةٍ في نشر التعاليم الكنسيّة، وترجماتها المعاصرة، بلغة مفهومة من الناس وأحيانًا كثيرة انطلاقًا من تساؤلاتهم. وقد نجحت الحركة بإنشاء جيل جديد من الكتّاب ونجحت التعاونيّة بفتح الباب لهؤلاء. لكن لا يزال النشر مقصّرًا من ناحية التوزيع، فإصدارات التعاونيّة لا يمكن شراؤها من المكتبات التي منها يشتري الناس الصحف ومجلاّتهم، كما أنّها غير متوفّرة للشراء على الإنترنت، وهذا واقع مأساويّ فكيف يمكن نشر التعاليم التي نطبعها إن لم نهتمّ بمسألة التوزيع؟ إن كان الكتاب سراجًا (وكتب التعاونيّة هي كذلك برأيي)، فـ»لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال« كما قال يسوع، من هذه الزاوية الإيمانيّة يمكننا أن نشعر بأهمّيّة قضيّة التوزيع.

أمّا من ناحية تقوية الإيمان المسيحيّ في الشعب، فربّما أهمّ ما في الموضوع هو كيف تحرّك الحركة المؤسّّسة الكنسيّة للإصغاء إلى الناس (قبل الكلام معهم) وملامسة هواجسهم وحاجاتهم، هذا الإصغاء خير لقاء مع الرعايا إذ يجعلهم يلمسون لمس اليد اهتمام الكنيسة بهم، وهذا يشكّل مدخلاً لا يُستهان به لتقوية الإيمان ويفتح لنا جميعًا ميادين إصلاح في المؤسّّسات الكنسيّة. فالإيمان المسيحيّ إيمان متجسّد في هذه الدنيا، والمسيحيّة منذ نشأتها اهتمّت بالجسديّ والروحيّ معًا، فكان الاهتمام بحاجات الأرامل واليتامى والمشاركة المادّية جزء من الإيمان، كلّ مادّيّ هو روحيّ بالمحبّة، وهذه تتجسّد بالمشاركة. ومن هنا لا بدّ من تفعيل مشروع العمل الرعائيّ الذي وضعت الحركة تصوّرًا له، والعمل مع أعضاء المجمع المقدّس على ترجمته. وفي هذا المجال لا بدّ من تحريك أوقاف الكنيسة لخدمة الناس؛ إنّ بعض فشل وأخطاء، هنا أو هناك، في مشاريع كنسيّة تنمويّة، يجب أن تعلّمنا دروسًًا لا أن تثني المسؤولين الكنسيّين عن المضيّ في مشاريع مماثلة. الأخطاء يجب ألاّ تكبّل استمرار المشاريع الرعائيّة.

المبدأ الثالث: تسعى الحركة لإيجاد ثقافة أرثوذكسيّة تستوحي عناصرها من روح الكنيسة.

للكنيسة دور هامّ في العالم. إنّها، على صغرها، مدعوّة أن تكون »الخميرة التي تخمّر العجنة كلّها«. فالنهضة المرجوّة لا تتوقف عند حدود الشؤون الكنسية »الداخليّة«، بل تتعدّاها إلى مشاركة الكنيسة العالمَ في صياغة حضارتـه عبر تطوير فكر، وفنّ، وأدب، تحمل جميعها فرادة أرثوذكسيّة في نظرتها إلى العالم وإلى الإنسان. ومن هنا نرى الضرورات التالية:

١- الانخراط في الانتاج الثقافيّ: من فنون كالموسيقى والرسم والشعر، إلخ. فمثلاً من المؤلم أنّ المسيح شبه غائب عن الشعر والأدب العربيّين. مرّةً، علّق ناقد وشاعر أمام أرثوذكسيّ كَتَبَ حول اختباره حبّ اللَّه في حبّه لحبيبته »ما دخل هذا في ذاك؟«. هذ التعليق دليل على هذا الغياب. هل من دور لتعاونيّة النور في هذا الموضوع؟ أيّ دور؟

٢- الانخراط في الانتاج العلميّ العربيّ، بحيث تكون مواضيع أبحاث المتخصّصين متوجّهة لحلّ مشاكل منطقتنا التنمويّة.

٣- لا يزال دور معهد اللاهوت الأرثوذكسيّ خجول في الإطلالة اللاهوتيّة على العلوم. فجامعة أرثوذكسيّة أو مركز أرثوذكسيّ هي الأمكنة الأمثل لحدوث مثل هذا اللقاء بين اللاهوت والحضارة التي نعيش، وبين اللاهوت والمجتمع الذي نحيا فيه. إلى أيّ مدى جامعة البلمند ومعهد اللاهوت هما كذلك(2)؟ ومن ناحية مدارسنا، فإلى أيّ مدى تتجاوز مجرّد كونها مكان حشو للمعلومات لتصير مكان اهتمام بالإنسان؟ وما هي الظروف الموضوعيّة التي تمكّنها من هذا التجاوز؟ ومستشفياتنا هل تعكس طريقة حياة أرثوذكسيّة؟ أسئلة ملحّة ما تزال مطروحة.

المبدأ الرابع: تعالج الحركة القضايا الاجتماعيّة بالمبادئ المسيحيّة العامّة

إن الاهتمام بالفقير والمظلوم وكلّ محتاج (وليس فقط الأرثوذكسيّ والمسيحيّ)، هو من صلب عيش المحبّـة من خلال الخدمة. لكن هذا الاهتمام لا يستنفد عمل الكنيسة في العالم من حيث الهاجس الاجتماعيّ، إذ لا بدّ من تصدّي الكنيسة للقضايا التي تؤدّي إلى الفقر والظلم وأنواع القهر كافّـة(3). ومن هنا لا بدّ من التركيز على العدالة الاجتماعيّة كتجسيد للمحبّة المسيحيّة. لا يمكننا أن نتوقّف على الخدمة الاجتماعيّة على ملحاحيّتها وأهمّيتها، إذ ينبغي أن تشهد الحركة لمسيحها في لبنان بأن تكون رائدة في الدعوة إلى إقامة العدالة الاجتماعيّة في هذا الوطن، ولو أنّها ستواجه صعوبات شتّى(4). ومن أهمّ عوائق إقامة نظام عدالة اجتماعيّة في لبنان، ومن أهمّ الأسباب الدائمة للحرب فيه، هو النظام الطائفيّ، ولذلك على الحركة أن تفكّر جدّيًّا كيف يمكنها أن تساهم مع الآخرين في لبنان، لتجاوز النظام الطائفيّ وتغيير بنى الظلم في المجتمع اللبنانيّ.

المبدأ الخامس: تستنكر الحركة التعصّب الطائفيّ ولكّنها تعتبر التمسّك بالمبادئ الأرثوذكسيّة شرطًا أساسيًّا لتوطيد الحياة الدينيّة وإيجاد روابط أخويّة مع سائر الكنائس المسيحية.

الرؤيـة الأرثوذكسيّة للعلاقات مع الغير لا تقبل المراوغة أو التلفيق. هكذا فالحركة تتمسّك بالإيمان الأرثوذكسيّ علّة وجودها ولكنّها تميّز بوضوح بين الإيمان والتعصّب، فبينما الإيمانُ الأرثوذكسيّ يعني اتّحادًّا بالمسيح وخدمته بخدمة الناس أحبّائه، يكمن التعصّب بذهنيّة احتكار اللَّه واستخدامه لأبشع الغايات مستعملين، بالطبع، أنبل الكلمات.

على الصعيد المسيحيّ هذا يعني أنّه بينما يتمسّك الحركيّون بالإيمان المسيحيّ كما تسلّمته الكنيسة قبل الألف الثاني، فإنّهم يسعون في الآن عينه لتنقية تاريخ هذا الإيمان من غبار الشهوات والإسقاطات البشريّة. ويعملون على تجاوز الانشقاقات الحاصلة بين المسيحيّين. وهذا يقتضي إعادة اكتشاف التراث الكنسيّ وتنقيته، ومن هنا أهمّيّة البحث اللاهوتيّ لأنّه يرفد الحوار مع الكنائس المسيحيّة ويعبّد طريق الوحدة(5).

على الصعيد العلاقات مع المسلمين، فإنّ التمسّك بالإيمان يعني التعاون مع المسلمين لاكتشاف القواسم العمليّة المشتركة التي يمكن التعاون فيها لخدمة الناس، كما وللعمل المشترك من أجل تجاوز الحالة الطائفيّة القائمة على التعصّب الدينيّ المُنافي للإيمان. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تفكّرًا مشتركًا في مواجهة تحدّيّات العلوم المُعاصرة وما وراء بعضها من فلسفات تبخّس الإنسان وتحوّله إلى شيء، يمكنه أن يشكّل أرضيّة لقاء وبحث. ولكنّ الحوار مع المسلمين ينبغي أن يتجاوز الكلام إلى الفعل في مشاريع ملموسة ومشتركة، ترفدها لقاءات بين شابّات وشباب مسيحيّين ومسلمين.

أخيرًا، هناك من الأرثوذكس (والمسيحيّين والمسلمين) مَن هو مؤمن لفظيًّا وملحد عمليًّا، وتسعى الحركة »لتنصير النصارى« بمعنى إيضاح التعليم الأرثوذكسيّ لبنات وأبناء الكنيسة الأرثوذكس، وقد تنجح حينًا وتفشل أحيانًا أُخرى، ويبقى الإنسان في سرّ حرّيته وعلاقته باللَّه. ولكن هناك مَن هو ملحد فكريًّا وقريب من اللَّه عمليًّا، فـ»كثيرون ممّن يُظنّون في الداخل هم في الخارج وكثيرون ممّن يُظنّون في الخارج هم في الداخل«، على حدّ قول أوريجنّس. لهذا تبقى قضيّة العلاقات مع الملحدين مسؤوليّة في أعناقنا، فكثير من الناس بشكل واعٍ تركوا الإيمان لقناعة فكريّة و/أو بخلفيّة وجدانيّة، أو كردّة فعل على ممارسات مدّعي الإيمان الذين ارتكبوا المجازر خلال الحرب اللبنانيّة باسم الإيمان واللَّه. مع هؤلاء الملحدين، المخلصين للإنسان، يمكن للحركة أن تجد مجالات تعاون كثيرة في قضايا التزام شؤون الإنسان التي ذكرنا بعضها (العدالة الاجتماعيّة، تجاوز الحالة والنظام الطائفيَّيْن...). إنّ امتداد الحركة إلى المسلمين والملحدين يشكّل، برأيي، أملاً للمستقبل، وهو مسؤوليّة روحيّة.

المبدأ السادس: تتصل الحركة بالحركة الأرثوذكسيّة العالميّة وتتبع تعاليم الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة وتقليدها، كما أنها تساهم في نموّها المسكوني ورسالتها الإنسانيّة.

على صعيد العلاقات مع الكنائس غير الأرثوذكسيّة، لا بدّ من متابعة الالتزام الحركيّ بالعمل المسكونيّ لأنّه يعني تجاوز الخوف: الخوف من الآخر، الخوف من الاختلاف، الخوف من مغامرة المحبّة .

على الصعيد العمل المسكونيّ في الإطار الأرثوذكسيّ (سيندسموس مثلاً)، أعتقد أنّ الحركة يمكنها أن تكون شاهدة في قلب العالم الأرثوذكسيّ ضدّ التعصّب الدينيّ، ومسؤوليّتها أن تنبّه من تجربة الخلط (القائمة في أوروبا الشرقيّة) بين الإيمان والقوميّة، وبين الإيمان والحدود الجغرافيّة، وكنيستنا الأنطاكيّة هي نموذج في هذا المجال، وأبرشيّة عكّار.

أخيرًا فنلاحظ أنّ طرائق التواصل المركّز حول العمل المسكونيّ لم تزل غائبة، ولم يزل الحركيّون والحركيّات بعيديـن عن الأجـواء المسكونيّة. هل من مجال لنشرة إخباريّة مسكونيّة في العربيّة تستخدم طرائق الاتّصال عبر الإنترنت؟

هذه الأمور تتطلّب رؤيةً تتبنّاها الأمانة العامّة، وحركيّات وحركيّين يرون أمامهم وجوه الآخرين مسؤوليّة محبّة، ويرون أنفسهم في اليوم الأوّل من إنشاء الحركة، فيبدعوا معًا.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search