مسيرة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة
د. جورج معلولي
الحركة في تكوينها جماعة قائمة على الإلهام. كان لا بدّ للرؤية الأولى التي تلقّتها وعبّرت عنها المجموعة-النواة الأولى من أن تنتقل بقوّتها ولهبها إلى كلّ الجماعة الكنسيّة (أفقيًّا) وإلى الأجيال اللاحقة (عموديًّا). ولكن من طبيعة المجموعات أنّها في تمدّدها (أي كلّما ازداد شعاع الدائرة) قد تفقد شيئًا من حدّة الرؤية الأولى (على أطراف الدائرة أفقيًّا في المكان أو عموديًّا في الزمان). ربّما وقعت الحركة ضحيّة نجاحها في التمدّد وهذا تابع لطبيعة ديناميكيّة المجموعات، وقابل للتحليل علميًّا لاستخراج العبر، وليس بالضرورة نتيجة أخطاء أو عثرات في المسيرة . طبعًا انتقلت الرؤية كالنار في الهشيم ولكن تفاوتت قوّة الرؤية ووضوحها وتجلّياتها، فبرزت عناصر منها وخفتت عناصر أخرى في أمكنة وأزمنة مختلفة، أو ربّما لم تصل الرؤية إلى التجسّد الكامل في كلّ مكان.
في هذا التأمّل لا بدّ من القول إن »اختراع« الحركة الأبرز، الأمـين لحـياة الكـنيـسة الأولــى والأمـين لطبيعة البشر هو الفرقة الحركيّة التي تحاول عيش الحياة المسيحيّة في مجمـوعة-نـواة صغـيرة كـالجمـاعـة الأولـى (كما في أعمال الرسل وكما في جماعة المؤسّّسين في الحركة ). ذلك بأنّ العدوى الروحيّة أو قوّة الإلهام لا تتجدّد ولا تنتقل إلاّ عبر الاحتكاك المباشر بين الأشخاص والمجموعات الصغيرة، وما ينتـج مـنها مـن تـأثير وتـأثّر وتمـثّل. ينتـج من هذا السؤال التالي: كيف تولد المجموعات الصغيرة المستنيرة وتتحوّل إلـى جمـاعة؟ وكـيف تنتقل العدوى الروحيّة بين المجموعات؟
استعار سيادة المطران جورج (خضر) في كلامه مرّة على الليتورجيا صورة أدبيّة من برغسون: حمم البركان تكون ملتهبة عند صدورها عن فوهة البركان ولكنّها تصير كالحجر عندما يبرد سطحها. هذا هو الفرق بين الديانة المفتوحة والديانة المغلقة كما يسمّيها برغسون، أي بين الإلهام من جهة والقشرة أو السطح أو الغلاف من جهة أخرى. يحمل الغلاف اللهب في داخله، ولكنّه يسجنه أيضًا. ولكن إن حككت غلاف الحمم الباردة يعود اللهب ويبرز من جديد. الدليل إلى ذلك أنّنا كلّما عدنا إلى الاحتكاك المباشر البسيط بالإنجيل ونصوص الليتورجيا وإشعاع التقليد الآبائيّ في تنوّع ألوانه وعمقه واتّساعه، لاحظنا كم يحرّك هذا الاحتكاك قلوب الأعضاء ويحرّرهم من الانغلاق بكلّ جوانبه؛ وكلّما عدنا إلى كتابات الجيل الأوّل والثاني من المؤسّّسين أحسسناها أكثر حيويّة وأكثر إنعاشًا من بعض ما نسمعه هنا وهناك في الخطاب الدينيّ والإرشاديّ والتوجيهيّ القائم على الوعظ المتعالي وإلقاء اللوم على الأعضاء. نجد دائمًا من يحرّكه الروح في كلّ الأجيال، وبخاصّة في جيل الشباب، ويشعّ إلهامًا وتجدّدًا وأمانة للرؤية الأولى، ولكنّ الخطورة الكبيرة أنّهم دائمًا معرضون للاصطدام بالقشور أو الهيكليّة الإداريّة أو تقاليد البشر التي نخلط بينها وبين تقليد الروح الحيّ. أخبرنا المطران جورج (خضر) في»شهادة للبدايات« (مجلّة النور 58 العدد 9) أنّه »في ذلك الزمان لم يكن أرثوذكسيّ يلفظ اسم يسوع على عرائه. كانوا يتكلّمون على الأعياد والمواسم. هذا كان محيطًا بالمسيح كما كان موسى وإيليّا محيطين به على الجبل«. يجدر بنا اليوم أن نتساءل ماذا يحيط بالمسيح في حياتنا الحركيّة ويحجبه أحيانًا؟ هل هي التعقيدات الإداريّة أو خطايانا المتراكمة أو العادات والسلوكيّات غير الفعّالة أحيانًا في التنظيم والتواصل والإدارة؟
على هذه الخلفيّة يمكن لمقاربة مسيرة الحركة أن تكون قراءة لإمكانات ومعوقات تجسيد مبادئها في الواقع المعاش.
على صعيد المعرفة الإيمانيّة، ظهرت الحركة رائدة في نشر فكر المسيح وهذا مستحيل من دون العمل الشبابيّ، ودعوة كلّ المؤمنين إلى تدارس الإيمان والتفاعل الحيّ مع التقليد. ولكن كيف السبيل إلى الوقاية من ضعفات البشر وما ينجم عنها من ميل إلى الاجترار والتطرّف في المواقف والخوف من التنوّع؟ لا بدّ من دراسة مستمرّة وإصغاء مثابر إلى حاجات الأعضاء، ومرافقتهم في البحث الجدّيّ في التقليد عمّا يجيب عن تساؤلاتهم بصورة شاملة، تأخذ بالاعتبار غنى التراث وغنى الروح الساكن في نفوسهم.
لا مهرب من تدارس الإيمان وعيشه في الجماعة المؤمنة. إذ كيف يستدخل المؤمن إيمانه ويشارك هواجسه وتفاعله مع الإنجيل، إن لم يكن مع جماعة صغيرة يألفها ويعيش معها؟ يجب أن يصبح التفاعل مع كلمة اللَّه تفاعلاً شخصيًّا، وهذا غير ممكن من دون التعاضد الأخويّ المنتظم اليوميّ والأسبوعيّ. هذا يفتح تساؤلات كثيرة حول حياتنا الجماعيّة التائقة إلى أشكال أكثر بساطة وعفويّة وتعاضدًا وأوسع تقبّلاً ورحمة.
السؤال الأصعب الذي تتفاوت الإجابة عنه عمليًّا في الجماعات الصغيرة هو هذا: كيف يصبح اللَّه إلهك أنت اليوم، بما أنت عليه من خصوصيّة شخصيّتك؟ كيف تصير الكلمة هي حقًّا فيك، ضمن تركيبتك البشريّة وطبائعك ولغتك؟ كيف تزول الغربة بين كلمة اللَّه والإنسان في أفراحه وأحزانه وأشواقه اليوميّة؟ أظنّ أنّ وعينا هذه الهوّة بين معرفتنا للإيمان وتجسيده الشخصيّ بحرّيّة مسؤولة ومبدعة يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم. هذه الظاهرة ليست جديدة في الواقع التربويّ في العالم بخاصّة في مجال الدراسات الجامعيّة حيث يلاحَظ عند الطالب صعوبة تحريك معارفه واستثمارها عند الانتقال إلى حيّز التطبيق العمليّ والانغماس المفاجئ في حقل العمل. وهذا ما دفع الأنظمة التربويّة في الجامعات إلى تفضيل الاحتكاك المبكر عند الطلاّب (في سنوات الدراسة الأولى) بحقل العمل وتحدّياته الواقعيّة. أرجو أن تلهمنا هذه المشاهدات إلى ورشات تفكير ومبادرات واضحة في هذا المجال في حياتنا الحركيّة.
على صعيد العمل الاجتماعيّ، دفعتنا المحبّة دائمًا إلى وجه كلّ إنسان، وتدفعنا اليوم إلى احتراف كلّ علوم العصر لكسر الخبز لكلّ جائع إلى محبّة اللَّه والإخوة وكسر حواجز كثيرة في نفوسنا. كتب أوليفييه كليمان: »على الإيمان المسيحيّ أن يظهر اجتماعيًّا. بما أنّه دين التجسّد، وغير المنظور الذي يظهر عبر الرموز. فعلى أهمّيّة الرموز، علينا ألاّ نكتفي بها، بل أن نعطي الإنجيل كلّ مداه الاجتماعيّ... كما يحصل في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في الكرسيّ الأنطاكيّ، التي تجسّد خبرة الجماعات الإفخارستيّة في مواقف لاعنفيّة، فاعلة ومبدعة، تضاعف الحياة والصداقة حيث يسعى الخوف والبغض والموت إلى الهيمنة«. وفي تأريخ للكنيسة الأرثوذكسيّة »بين الماضي والحاضر«، كتب سيادة المطران كاليستوس (وير): »كانت كنيسة أنطاكية تُعتبر، في مطلع القرن الماضي، نموذجًا لكنيسة نائمة. لكنّها عرفت نهضة وخروجًا من سباتها، بخاصّة على يد حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة... من أولويّات العمل الحركيّ، التزام الخدمة الاجتماعيّة، ومحاربة الفقر. وقد قُدّر كثيرًا نشاطها في هذا المجال، أثناء الحرب اللبنانيّة«. لا تعكس هذه الشهادات بالنسبة إليّ فعاليّة العمل المؤسّّساتيّ في الحركة، بل تؤرّخ لقوّة الرؤية المسيحيّة في الحركة وقوّة حياة الجماعة. سيعلّمنا الإخوة المتألّمـون في المدى الأنطاكيّ عن مكامن إخفاقنا ونجاحنا، وأنّ حياتنا الجماعيّة مدعوّة إلى أن تكون أكثر توثّبًا وأشدّ حرارة.
الحاجة طارئة اليوم وغدًا إلى توسيع التدخّل الاجتماعيّ على مستوى المساندة الاجتماعيّة النفسيّة الصحّيّة. قد يحتاج هذا إلى تأهيل بعض الأعضاء في كلّ مركز، والتعاون مع المؤسّّسات غير الكنسيّة وإنشاء مراكز صحّيّة - اجتماعيّة محترفة تقدّم السند والمرافقة والنصح والاستشارات وليس فقط الخدمات الماليّة. يعيدنا هذا من جهة أخرى إلى التذكير بضرورة إعادة اكتشاف نظام الشموسيّة ودراسته وتطبيقه (أي الخدمة بمعناها الواقعيّ مع البشر كلّ يوم) المعمول به في الكنيسة الأولى. هذا يشرّع الأبواب على عمل رعائيّ محترف يمدّ جسورًا بين كفاءات الشباب المهنيّة والعلميّة ومواهبهم الروحيّة من جهة والحاجات الاجتماعيّة الصارخة في كلّ مكان من جهة أخرى.
يعيش الكثير من شبابنا أشكالاً متنوّعة من التكريس في حياتهم في العالم وخدمتهم الكنسيّة. ما يفعله الشباب الحركيّ في ظلّ ضغوطات معيشيّة واجتماعيّة هائلة هو تكريس بكلّ ما للكلمة من معنى وهذا يجب أن يظهر في خطابنا وكتاباتنا وتعاملنا مع الشباب أمانة للروح العامل فيهم. هذه ألوان من الرهبنة الداخليّة وأنوار من سرّ الإفخارستيّا يمدّونها إلى كلّ القلوب كلّ يوم، وعشق متّقد قادر على إنارة رعايانا ورهبناتنا الأنطاكيّة بإضاءات أقوى. كيف نستلهم اليوم المدينة الباسيليّة، مدينة المحبّة التي أسّّسها القدّيس باسيليوس الكبير وحيث يخدم الفقراء بالروح الفقراء إلى الطعام والصحّة والجائعين إلى الفهم والمعنى؟
للثقافة اليوم أبعاد حضاريّة متشعّبة مرتبطة بطريقة العيش وفلسفة الحياة وتغييرات كبيرة في المجتمعات. هذا يتطلّب ورشات تفكير متعدّدة حتّى يكون المسيح »مخلّص الحضارة« أيضًا.
تبقى الحياة الجماعيّة المناخ الطبيعيّ لولادة المواهب والمبادرات في خدمة جسد المسيح. والروح يدعونا إلى أن نمتحن حياتنا الجماعيّة لتكون مجيدة ناصعة لا غضن فيها ولا جفاف حتّى لا نطفئ ناره في النفوس. لا يمكن أن نتجنّب ملاحظة خطايا التسلّط والفرّيسيّة ومواجهتها في نفوسنا والأخطاء في مرافقة الشباب. لا مفرّ أيضًا من أن يفحص الحركيّون معوقات الشورى كما يتوقون إليها في الجماعات الصغيرة والكبيرة. لم يخجل الأخ كوستي بندلي من أن يكتب في العام 1972 عن »المعوقات النفسيّة لحياة الشركة« (مجلّة النور، العدد 9 و10، 1972). فضائلنا وخطايانا وكلّ حياتنا المسيحيّة معيارها العلاقة مع الإخوة. لذلك تظهر حياة الشركة مختبرًا وأتونًا من نار يمحّص نفوسنا وسلوكنا ويفضح ضعفاتنا. السؤال الأصعب يبقى هذا: هل حياتنا الجماعيّة هي نسخة عن تقاليدنا العائليّة والاجتماعيّة، أم هي سعي حقيقيّ لاختبار الحياة في المسيح؟ تعيننا هنا معرفة المعطيات العلميّة الحديثة المتعلّقة بأساليب التواصل الفعّال والإدارة وأنواع القيادة لقراءة نواقصنا.
إنّ دخول الهرميّة المصطنعة إلى حياة الفرق والفروع والمراكز، تهديد يرتبط بصورة دائريّة بتقهقر حياة الجماعة وإطفاء المواهب، وشلل الأعضاء الأصغر سنًّا في اتّخاذ مبادرات جديدة. وقد حذّرنا آباء الصحراء من التوقّف عند آراء »المرشد« أو »المعلّم« في طاعة كاذبة لا تطلق النموّ. أنوار عظيمة ظهرت في الحركة في الإرشاد والمرافقة، ولكن يجدر بنا أن نتنبّه أكثر إلى ما استلمناه كيلا يسرب بسهولة بين أيدينا ومن أذهاننا (عبرانيّين 2: 1). يمكننا أن نبدأ بلملمة تجلّيات التربية والمرافقة عند الأخ كوستي بندلي (في كتاباته وخبرات من عرفوه)، والمطران بولس (بندلي) (في إشعاعه الرعائيّ المميّز)، والمطران جورج (خضر) (روحه التربويّة منتشرة في الكثير ممّا كتبه وينبغي جمعه؛ بالإضافة إلى خبرات من عرفوه، وكتاب »ذكريات لا تمحى« للأب إيليّا (متري))، الأخ ألبيـر لحّـام (في خبرات من عرفوه) والأب إلياس (مرقص) (فـي ممـارسته الأبوّة الروحيّة). من جهة أخرى لا نستطيع اليوم أن نتغـاضى عـمّا يمـكن أن تقـدّمه لنا العـلوم الإنسانيّة والتـربويّة مـن أدوات مساعدة في هذا المجال. نفحص هذا كلّه على ضوء الإنجيل وتجلّياته في التقليد حتّى تكون شخصـيّة يسوع وأخلاقه هي المعيار لكلّ تعليم وتربية ومرافقة.
كتب مارسيل مرقص في مجلّة Lumière السنة 1944 (عن حياة الحركة): »يبدو أنّ الآلة منظّمة بشكل جيّد... ولكنّها لا »تدور« بشكل كاف... لأنّنا لم نفهم بعد المعنى الحقيقيّ للحركة، لأنّنا ما زلنا نتعلّق بالقشور، بالخارج، وما هو باطل... لأنّ الاجتماعات ليست هي التقدّم، والروتين ليس هو الحياة، والقرارات ليست بعد أفعالاً... الحاجة إلى روح تحرّك الآلة، أن تفعل الحركة فينا، في داخل كلّ واحد منّا... أن تهزّنا حياة جديدة، كثيفة، ومشعّة«. يذكّرنا هذا البعد الداخليّ بأنّ »مريم ومرتا« جناحان لنفس المؤمن لا يمكن له التحليق إلاً إذا خفقا معًا. ويذكّرنا بأنّ الأفعال المثمرة لا تنتج إلاّ من نفس تعرف أن تفرح وتشكر وأن ترتاح، وتطمئنّ إلى اللَّه والإخوة وإلى كلّ جمال يبثّه فيها الروح. والروح يعين ضعفاتنا بأنّات لا توصف وينظّم من أصوات الرضّع والأطفال تسبيحًا يحرّك الكنيسة وينقذها من كلّ ركود.l