2017

6. الحركة مدرسة اللاهوت والوطنيّة - شفيق حيدر – العدد الثاني سنة 2017

 

الحركة مدرسة اللاهوت والوطنيّة

شفيق حيدر

 

 

 

 

رسالة للتبليغ

في إحدى الأماسي قصدْتُ الشيخ المعلّم. والموسم آذاريّ، فيه نعيّد لتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وقد مضى عليه خمس وسبعون سنة. العمر من اللَّه نعمة، يطول أو يقصر. وعمر الحركة ليس كعمر الناس. له طابعه السرّيّ. الحركة دائمة الشباب، حيّة لا تشيخ ولا تهن. إمّا تجمع النور والنار، نور الشيوخ ونار الشباب، نور الإله الهادي ونار الألسنة الناريّة النازلة عليها من السماء. وإمّا هي جوفاء، باردة، ميتة لأنّ اللَّه لم يكن حيًّا في أعضائها. إذا أضاع »الحركيّون« الهدف الأساس ذبلوا وقضوا على منظّمتهم التي وهبهم إيّاها اللَّه، وما بقي الاعتداد ينفع ولا النشاطات تفيد. 

جلستُ إلى المعلّم، أحدّثه، أستدني أخبارًا وحكايات، أخبار طرابلس العتيقة، المدينة التي نشأ فيها وهام بها، وحكايات »الكنيسة« أمس واليوم، والمصير الذي تتخبّط فيه الآن. لم ننس الصفحات المنيرة التي سطعت في الواقع الأنطاكيّ في أويقات الرضا، ونعمنا بها معه سحابة  الخمسة والسبعين عامًا.

وسألْتُه: سنعيّد هذه السنة اليوبيل الماسي للحركة، فبماذا توصي المنخرطين فيها اليوم والمسؤولين عنها؟ وتوًّا، من دون أيّ تردّد، أجاب بلهجة حازمة: أن يقرأوا، بفهم وحضور ووعي، المبادىء الستّة وشرحها مع الكتاب المقدّس، كتاب الحياة ومصدر النور والحقّ. ونتيجة لذلك أن يحبّوا بعضهم بعضًا. المحبّة الأولى التي يذكّرنا بها آتية من فوق، نابعة من الكتاب المقدّس وفهمه. ليست هي محبّة وجوه بشر والاطمئنان إليهم. أنقل، بأمانة، هذه الوصيّة ذات الأبعاد الثلاثة: الكتاب المقدّس والمبادىء الستّة والمحبّة، عسانا نفقه الحركة كإلهام من اللَّه، ترتوي من الماء الذي يعطيه وتتحرّك بالقوّة التي تصدر عنه. أمّا محبّة الناس، إذا لم يقدنا إليها اللَّه، فسرعان ما تصبح محاباة وتتبخّر.

أستهلّ مقالي ناقلاً رسالة المعلّم. هي من مرسِل ملهَم إلى إخوة عقدوا العزم على أن يخدموا كنيستهم فيما يتكرّسون خدّامًا لرسالتها في العالمين والكون الرحيب. أمّا وقد بلّغت، فماذا أقول فيما أتأمّل في الحركة التي عملت فيها عددًا من السنين.

الحركة مدرسة شعبيّة للاهوت

تستوقفنـي، فـي هـــذه العجالـة، صفتـان للحـركة وردتـا عبـر التاريخ بحاجة اليوم إلى الشرح والتأمّل. أوّلهما هو أنّ الحركة مدرسة للتعليم اللاهوتيّ، ولقد اعتبرَت، منذ تأسيسها، معرفةَ  الإيمان الأصيل المستقيم هدفًا أساسيًّا لأيّ نهضة في الكنيسة.

ولـمّا كان الجهل لا يتّفق مع النهضة، انكبّ الأوّلون علـى الـدراســة، وعـادوا إلى ينابيع الإيمان، واكتشفوا كنوز الأرثوذكسيّة، ونفضوا غبار الجهل عنها. لا يكتفي الحركيّ بتلاوة دستور الإيمان، بل إنّما يَجْهَدُ لفهمه. لا يقنع بتلاوات يردّد وتسابيح يرتّل، بل إنّما يغوص في معاني الكلمات بالدقة الواجبة من أجل تصرّف مستقيم وحياة بمقتضى إنجيل المسيح. وكانت الفرقة الحركيّة، وما زالت إلى حدّ، وحدة دراسة جماعيّة إلى جانب كونها خليّة صلاة وشركة. وتحلّق الشباب حول الكلمة الإلهيّة، واكبوها قارئين ومتأمّلين ودارسين. أقاموا الحلقات الدراسيّة الكتابيّة والعقيديّة، عادوا إلى كنوز آبائنا العظام يطّلعون عليها ويستلهمونها في حياتهم اليوم. إنّها مظاهر مدرسة كبيرة للاهوت في أنطاكية. انتسب إليها عشرات الألوف في المدى الأنطاكيّ منذ نيّف وسبعة عقود، بدأوا الدراسة وما أنهوا مقرّرات أو فصولاً أو برامج محدّدة. الدراسة عندهم أضحت نهج حياة وموضوع اهتمام.

في مدرسة الحركة ثمّة تشديد على أنّ الدرس عمل مستمرّ لا ينتهي، لا يتخرّج المرء منها حائزًا شهادة. السبيل إلى معرفة اللَّه لا يحصره شرحٌ أو درس، بل يسلكه مَن يحيا اللَّه في داخله فيذوقه ويترجمه حياةً بالتوبة الدائمة. والتوبة جهاد عمر وليست محطةً نبلغ إليها ونطمئنّ. معرفة الإلهيّات تبقى همّنا حتّى اللحد.

ولـمّا التزم الحركيّون حياة الصلاة في رعاياهم، اكتشفوا غنى الليتورجيا الأرثوذكسيّة، وكانت الصلوات على تنوّعها واختلاف ميقاتها مدرسةً كبرى نقلت إليهم التعاليم والشروحات والتحديدات. فإزداد مخزون المعرفة، واتّسع أفق الدراسة، ومتّنته التقوى وحياة الصلاة. الحركة مدرسة لاهوت مهمّة جدواها تفوق جدوى المعاهد والمدارس التي نشأت هنا وثمّة في الأرجاء الأنطاكيّة. والسبب يعود حتمًا إلى أنّ الحركيّين، طلاّبَ المعرفة، يقودهم إلى الدرس إيمانٌ راسخ في أعماق القلب أنْ لا نهضة مع بقاء الجهل مستشريًا. وهذا شحذ استعدادهم الداخليّ لتقبّل المعرفة، والاستعداد الداخليّ شرط كلّ إدراك. تجنّد الناهدون إلى كنيسة بهيّة تلقائيًّا ليعبّوا من الثقافة الدينيّة تحدوهم رغبة شخصيّةٌ حرّة. وما قادهم إلى ذلك شهادة ينالون تخدم مصلحة سعوا إليها أو بواسطتها يبلغون إلى منصب صبوا إليه. أليست التربية الفضلى كامنةً في تحفيز العقل ومساعدته على اكتشاف المعارف؟! عرفنا الحركة ورشة تحصيل لاهوتيّ حرّ، تحمل إليه رغبة وإرادة شخصيّتان. ونلاحظ أنّ محصّلة مدرسة الحركة تمتدّ على الصعيـد الأنطـاكيّ العـامّ وهـي مجديـة ونافعة. ولا أورد هـذه الملاحـظة عـلـى سـبـيل الإطراء والمدح، بل على سبيل التذكير بالمهمّة الأساس والتحفيز على الدرس أكثر وأكثر.

وأخلص أيضًا إلى أنّ الدراسة في الكنيسة ذات طابع جماعيّ. وهي عابرة للأبرشيّات وحدودها، موحّدة للكرسيّ الأنطاكيّ على صعيد الفكر التجسّديّ الأصيل والتربويّ المنفتح، صحيح أنّ التحصيل المعرفيّ يتمّ في الكنيسة وسط الجماعة ومعها، ولكنّه لا يهمل التحصيل الشخصيّ بالمطالعة. وهذا ما تسعى إليه الحركة وتقوم به.

الحركة مدرسة للمواطنة المستقيمة

أمّا الصفة الثانية التي أتوقّف عندها اليوم وأفصّلها، وقد بلغنا الخامسة والسبعين، فهي أنّ الحركة مدرسة للمواطنة الصادقة. أليست هذه الأخيرة الدواء الشافي من الأمراض التي تتخبّط فيها مجتمعاتنا في هذا الشرق؟

كتب إليّ يومًا إسكندر ورد، وكان قد أعتُقِل في حملة كمّ الأفواه ومصادرة الآراء الحرّة، كتب من سجنه وقال إنّه الآن يختبر في أسره أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هي منقذة الأمّة من تردّيها، لأنّها تسهم في أن يربّى الشابّات والشبّان على الحرّيّة والصدق والمحبّة. إذا تحلّى المواطنون بالأخلاق الكريمة تبرأ الأمّة، حسب قول أمير الشعراء أحمد شوقي: »وإنّما الأممُ الأخلاق ما بقيتْ...«.    

الحركة مدرسة الوطنيّة لمّا ميّزت الكنيسة وجوهرها الإلهيّ عن الطائفة وطابعها المصلحيّ. هي مدرسة المواطنة لـمّا دعت كلّ إنسان إلى المسؤوليّة الشخصيّة عن أرضه ومواطنيه كافّة بالحبّ والتضحية والإخلاص. هي مدرسة يتخرّج فيها المواطن الصالح لـمّا تحثّ أعضاءها على أن يعملوا مع سواهم، دونما تمييز، من أجل عمارة الأرض وزرعها وردًا وياسمين، ونشر السلام في ربوعها وإقامة العدل فيها، ولـمّا تحمل أبناءها على خدمة إخوة يسوع الصغار الذين يلقونهم مرميّين في مسالك حياتهم، وأخيرًا لـمّا ندافع عن القيم الإنسانيّة والكرامات.

شكر وثبات      

فيما نشكر اللَّه على السنوات التي عبرت، نسأله تعالى أن تقوى في صفوفنا رياح الرغبة في المعرفة فنكثّف الدراسات لنتمكّن من تبليغ الرسالة ليس فقط بالمثال، وهذا مهمّ جدًّا، ولكن أيضًا باللغة واللسان، وفي المجالات كافّة. في الحركة نتدرّب على المسؤوليّة الشخصيّة، وتقودنا هذه إلى مزيد من علم وشحنة حبٍّ جارف يجعل منّا خدّامًا صالحين لمن يستظلّ السماء الواحدة ويتغذّى معنا من لبن الأرض الواحدة.

نقرّ بالجَنان أنّ واحدنا ذو دور مجتمعيّ يُفيد بواسطته ويستفيد، يكمّل ويكتمل. أليس في هذا الالتزام المجتمعيّ تعبير فصيح عن  المواطن الصالح؟ وباختصار، ننتهي إلى القرار التالي: أنت أرثوذكسيّ أصيل بقدر ما تنكبّ على الدرس وتتجنّد خادمًا مخلصًا لوطنك ومواطنيك كلّهم. المعرفة لا تكون إلاّ إذا تمثّلها العارف وتحوّلت عنده ملكاتٍ وممارسات سلوك. هذا ما أراه ضروريًّا أن نشدّد عليه في العيد هذه السنة. الحركة مدرسة نتعلّم فيها الإيمان المستقيم ونعرف الحقّ، ونتدرّب فيها أيضًا على الإيمان وذلك بتجسيده في لحم الوطن وعظامه حبًّا وإخلاصًا.

إن لم نستعد هذا الوعي، نبقَ غرباء عن الكتاب المقدّس والمبادىء الستّة والمحبّة الأولى، فباطلاً نعيّد. l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search