2017

7. حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ونشأة حركة الوحدة المسيحيّة - غابي حبيب – العدد الثاني سنة 2017

 

حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ونشأة حركة الوحدة المسيحيّة

 

غابي حبيب

 

 

ينصّ المبدأ الخامس من مبادئ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الستّة على أنّ هذه الحركة »تستنكر التعصّب الطائفيّ، ولكنّها تعتبر التمسّك بالمبادئ الأرثوذكسيّة شرطًا أساسيًا لتوطيد الحياة الدينيّة، وإيجاد ربط أخويّة مع سائر الكنائس المسيحيّة«. يدلّ ذلك على أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ربطت في بنودها التأسيسيّة النهضة الروحيّة بالوحدة المسيحيّة الهادفة إلى الشهادة المشتركة لمحبّة اللَّه، وعدالته وسلامه. وعبّرت الحركة في ممارساتها أنّ هذه القضيّة ليست فقط مهمّة القيادات الكنسيّة، بل هي أيضًا قضيّة القاعدة الشعبيّة، كالشبيبة الأرثوذكسيّة، أو المسيحيّة بصورة عامّة. نتيجة لهذا التوجّه اندفعت الشبيبة المسيحيّة في اتّجاه إعادة وحدة المسيحيّين في الكنيسة الواحدة  الجامعة  المقدسة والرسولية، في هذا المشرق والعالم أجمع. 

يذكّرني هذا الموضوع بأيّام الصبا، حين كنت عضوًا في فرقة للطلبة تابعة لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة التي كانت تدعو إلى النهضة الروحيّة الكنسيّة وبواسطتها إلى الوحدة المسيحيّة الضائعة. اتّخذت الفرقة اسم القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ، الذي ركّز حيّزًا مهمًّا من تفكيره على وحدة الكنيسة حول الأسقف المحلّيّ. لذلك تضمّن برنامج فرقتنا إلى جانب دراسة الكتاب المقدّس وفكر الآباء القدّيسين والقضايا الاجتماعيّة المعاصرة، مسألة وحدة الكنيسة المسيحيّة وشهادتها في عالم اليوم. ولمّا كان يُطلب منّا ترجمة الأقوال التي كنّا نسمعها من قادتنا  إلى أفعال ممكنة،  صرنا نقوم بزيارات مكثّفـة لمجموعات الطلبة الكاثوليك وشبيبة الكنائس الإنجيليّة. قادنا ذلك إلى الاعتقاد بأنّه من الضروريّ تعميم النهضة الروحيّة على مختلف هيئات الشبيبة المسيحيّة في لبنان والشرق الأوسط، وذلك من أجل مساعدتهم على اكتشاف أسباب كارثة الانشقاقات الكنسيّة في تاريخهم ومن أجل السعي معًا إلى إعادة الوحدة الكنسيّة استجابة للطلب الإلهيّ الذي نقله إلينا يوحنّا الإنجيلي »بأن يكونوا واحدًا كما أنت فيّ وأنا فيك... وأن يكونوا واحدًا فينا حتّى يرى الكلّ أنّك أرسلتني«.

ونتيجة للتواصل الذي تمّ بمبادرة من حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مع منظّمات الشبيبة الكاثوليكيّة والإنجيليّة في لبنان، تأسّّس في بيروت مكتب مسكونيّ للشبيبة والطلبة في الشرق الأوسط  بدعم مشترك من دائرة الشبيبة التابعة لمجلس الكنائس العالميّ والاتّحاد العالميّ للطلبة المسيحيّين. وبصفتي عضوًا فاعلاً في حينه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، طلب منّي أن أتسلّم مسؤوليّة عمل هذا المكتب الجديد. فتبيّن لي خلال عملي فيه أنّه كان مؤشّرًا على أهمّيّة الأرثوذكس في المشرق، ودورهم الفعّال في بناء الحركة المسكونيّة الإقليميّة.

وفي العام 1964، عقد المكتب المسكونيّ للشبيبة والطلبة في الشرق الأوسط لقاءً يجمع بين الشبيبة الأرثوذكسيّة، والكاثوليكيّة والإنجيليّة بعنوان: »ها أنا أصنع كلّ شيء جديدًا«، كما جاء في كتاب الرؤيا. كان بين المشاركين في هذا اللقاء سيادة الأسقف أغناطيوس (هزيم) الذي أصبح في ما بعد، بمشيئة اللَّه، بطريرك الكنيسة الأنطاكيّة للروم الأرثوذكس. أكّدنا حينذاك على ضرورة تعميم النهضة الروحيّة على جميع الكنائس، بهدف المساعدة على التخلّص من التراكمات التاريخيّة، التي عزلت هذه الكنائس  بعضها عن بعض، وعلى إقامة الحوار في ما بينها، من أجل إعادة اكتشاف وحدتها الكنسيّة وإحياء الشهادة المشتركة. وسرّني أن أكتشف آنذاك أنّ الشبيبة تعاونت بحرّيّة كاملة مع قادة الكنائس واللاهوتيّين في إطلاق الحركة الإقليميّة للوحدة المسيحيّة. وأعتبر هذا اللقاء خطوة نوعيّة مهمّة في مسيرة الحركة المسكونيّة التي أرادت منها الشبيبة المسيحيّة أن تعطي شعوب المنطقة دليلاً جديدًا على نوعيّة  الدعوة المتأصّلة بالمحبّة المحرّرة والموحّدة، وتاليًا على إرادة المسيحيّين في تخطّي أسياد هذا العالم وفلاسفته، الذين ساهموا في تشتيتهم، في الماضي، كنائسَ وفرقًا مختلفة. وأدّى هذا اللقاء إلى إحياء فكرة إنشاء مجلس لكنائس الشرق الأوسط الذي كانت  الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة من أهمّ مؤسّّسيه.

أ- تطوّر حركة الوحدة المسيحيّة

في الشرق الأوسط

في ضوء توجّهات الشبيبة المسيحيّة في الشرق الأوسط، التي حدّدتها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، بدأت في بيروت، لبنان، العام 1965 مفاوضات هادفة لتخطّي التجزئة والتعصّب، للمساعدة على إنجاح  العمل المسكونيّ المشترك بين ممثّلي الكنائس الأرثوذكسيّة »الخلقيدونيّة« و»غير الخلقيدونيّة« من جهة، وممثّلي الكنائس الإنجيليّة من جهة أخرى. دُعيتُ آنذاك لأكون أمين السرّ الأرثوذكسيّ لهذه المفاوضات التي تركّزت على إمكانيّة إيجاد طرائق صالحة لحوار مسكونيّ فعّال ولشهادة مسيحيّة مشتركة في الشرق الأوسط. تكلّلت هذه  المفاوضات بالنجاح، وقادت  العام 1974 إلى عقد اجتماع تأسيسيّ لمجلس كنائس الشرق الأوسط. وكان الموضوع العامّ لهذا الاجتماع: »رسالتنا المسيحيّة المشتركة في الشرق الأوسط«. وكان في طليعة المفاوضين لإيجاد مجلس كنائس الشرق الأوسط، سيادة المتروبوليت أغناطيوس (هزيم). فطلب إلى سيادته آنذاك إلقاء كلمة الافتتاح في الجمعيّة العامّة التأسيسيّة، حيث قال: »إنّنا في هذا المجلس ليس عندنا ادّعاء بأن نكون كنيسة أو أن نكون سلطة تُفرَض بطريقة ما على الكنائس في المنطقة. إنّنا لقاء جدّيّ وعميق، لا نكتفي منه بأن تكون الخطوط متوازية، ولكنّنا نشدّد على أن تكون متقاطعة«، وتاليًا متلاقية.

 وفي ما بعد، عقدت في الثمانينات سلسلة من المفاوضات مع الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط، التي نتج منها انضمام هذه الكنائس إلى عضويّة مجلس كنائس الشرق الأوسط في العام 1990. وبذلك أصبح المجلس ملتقى الإرادات المسيحيّة الهادفة إلى تخطّي الماضي، الذي تميّز بالانشقاق الكنسيّ، سعيًا إلى مستقبل  كان يُرجَى فيه أن يتميّز بالوحدة والشهادة المشتركة في الشرق الأوسط. كما أصبح المجلس محاولة تصحيح لحركة مسيحيّة تبشيريّة غربيّة، كانت قد تجاهلت في الماضي الكنائس المحلّيّة جميعًا، ولا سيّما الكنيسة الأرثوذكسيّة، متغاضية عن دورها كممثّلة للكنيسة المسيحيّة في العالم، في شهادتها للعدالة والسلام بين شعوب هذه المنطقة المعذّبين، من جراء الحروب السياسيّة والدينيّة، والصراعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

٢- التوجّهات العامّة:

 التوجّهات العامة لمجلس كنائس الشرق الأوسط، التي أيّدتها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة بصورة عامّة، هي التالية:

أ- تجديد الالتزام المسكونيّ: يفترض ذلك تجديد القناعة المشتركة بالمسعى الوحدويّ وبالتعاون بين الكنائس رغم الصعوبات التي تواجهها، ومنها المشكلات الرعائيّة المتعلّقة بقضيّة الانتقال من كنيسة إلى أخرى، أو الزواج المختلط أو الاشتراك في صلوات الكنائس الأخرى. عودة الكنائس أو العائلات الكنسيّة إلى خصوصيّة تراثها يمكن اعتباره ظاهرة طبيعيّة ومشروعة كتحدٍّ للتيّار العالميّ الذي فرض التخلّي عن التراث الخاصّ، من أجل الانصهار في هويّة كونيّة مشتركة. إلاّ أنّ المرجو ألاّ يقود ذلك إلى الانعزال بل إلى إغناء الحركة المسكونيّة بعامّة.

ب- إيجاد المجتمع الجديد: اشترك مسيحيّو الشرق الأوسط في الماضي في خلق مجتمع  متحرّر من الأمبراطوريّة العثمانيّة ومن الاستعمار الغربيّ، بواسطة القوميّة المعاصرة. أمّا اليوم، فهم مدعوّون إلى التفاهم مع الأديان الأخرى على خلق مجتمع يتميّز باحترام الدين من دون إلغائه كما فعلت الثورة الفرنسيّة، وباحترام الفروقات الدينيّة والثقافيّة. وبالوقت ذاته يضمن المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم الدينيّ أو العرقيّ أو الثقافيّ.

ج- الحوار بين الأديان الإبراهيميّة: المسيحيّون معرّضون اليوم لضغوط تهدف إلى إخراجهم من منطقة الشرق الأوسط. من الضروريّ إذًا أن يسعى هؤلاء المسيحيّون إلى تحقيق وحدتهم  في يسوع المسيح، وأن يشهدوا للمصالحة بين الأديان السماويّة، بهدف العيش المشترك على أساس الاحترام المتبادل والحرّيّة والمساواة بين المواطنين.

د- التفاعل مع المسيحيّين في العالم: لا بدّ من تعميق تفاعل كنائس الشرق الأوسط مع الكنائس المسيحيّة في العالم، لجعلها تعترف بصورة فضلى بوجود الكنيسة المحلّيّة، وأهمّيّة شهادتها بالنسبة إلى الكنيسة الجامعة. أصبح ذلك ممكنًا أكثر من الماضي على اعتبار أنّ  الوعي تزايد عند الكثيرين من المسيحيّين الغربيّين حول المسيحيّة المشرقيّة، التي بدأت يوم العنصرة، واستمرّت بفعل الروح القدس، رغم الصعوبات الداخليّة والخارجيّة التي  أضعفتها وفرّقت في ما بينها. المطلوب إذًا من المسيحيّين في العالم عدم تجاهل هذا الواقع، حتّى لا يزيدوا من تهميش الكنائس المحلّيّة، أو تعميق الانقسام في ما بينها، بل أن يدعموها معنويًّا ومادّيًّا، من أجل ضمان استمراريّة وجودها في المشرق، وشهادتها داخل الأديان التوحيديّة.

الخاتمة

كلّ مسؤول، وكلّ برنامج أو تنظيم لمجالس الوحدة المسيحيّة إلى تبدّل، وما يبقى معنا هو شخص المسيح، الذي »هو هو أمس واليوم وإلى الأبد«. لذلك أعتقد أنّ الدعوة هي ليست إلى الانسحاب من حركة الوحدة المسيحيّة، بل إلى الاستمرار في دعمها، لاقتناعنا كمسيحيّين بأنّ هذه الحركة هي، أوّلاً وأخيرًا، استجابة لـدعـوة الكتـاب المـقـدّس لأن نكـون واحدًا في المسيح، من أجل مصداقيّة الشهادة المسيحيّة داخل الأديان التوحيديّة.

يشاع أحيانًا أنْ لا جدوى من وجود الكنائس معًا في مجلس واحد للحوار من أجل الوحدة المسيحيّة، ما دامت هذه الكنائس على خلاف لاهوتيّ وعقائديّ ورعائيّ في ما بينها. فكان دائمًا جواب الكنائس المعنيّة أنّها موجودة معًا في حركة واحدة، لأنّها ما زالت على خلاف في أمور كثيرة، ولا بدّ من لقائها لتخطّي هذا العار ولفضّ الخلافات في ما بينها بهدف وحدتها في يسوع المسيح.

 الحركة التوحيديّة هي إذًا مسيرة مشتركة تشدّنا معًا نحو ملكوت للَّه، رغم اختلافاتنا التاريخيّة واللاهوتيّة. هذه المغامرة تبدأ أوّلاً وأخيرًا بإيماننا بيسوع المسيح، الذي يريدنا أن نكون واحدًا في جسده. ثقتنا بعضنا ببعض تأتي نتيجة حتميّة للقائنا في الصلاة والحوار في ما بيننا، وللخدمة المشتركة التي تنمّي فينا المحبة الحقيقيّة للآخر، أيًّا كان هذا الآخر، وتحرّرنا من ثقل الماضي لتجعلنا مستعدّين للبحث والتفاهم حول إعادة وحدة الكنيسة الجامعة المقدّسة الرسوليّة.

لا شكّ في أنّه في حركة الوحدة المسيحيّة اليوم ازدواجيّة ملحوظة بين الخطاب والممارسة قد تؤدّي إلى المساومة على الحقيقة الإلهيّة. فعلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وعلينا جميعًا ألاّ نتنازل عن الحقيقة الإلهيّة، بل أن نشهد لها، كما علينا ألاّ نفقد محبّتنا للآخر، ولا سيّما الذي يؤمن بيسوع المسيح مثلنا، وإلاّ نكون تخلّينا عن الطلب الإلهيّ الداعي لنكون واحدًا في جسد المسيح. بالمحبّة تستطيع الشبيبة أن تتجاوز نفسها ومشاعرها وظنونها وخطاياها.

قال رئيس الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة قداسة البابا شنوده الثالث، خلال زيارته لبنان في أوائل السبعينات، إنّ الانشقاقات الأولى في المسيحيّة بدأت في هذه المنطقة، ففيها يجب أن تبدأ الوحدة الحقيقيّة. لذلك أدعو حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة إلى أن تستمرّ في مساعدة القادة المسيحيّين على مساعي تحقيق الوحدة المسيحيّة ونشر سلام المسيح في كنائسهم وفي ما بينهم، وتاليًا بين جميع أديان هذا المشرق الحبيب وشعوبه.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search