في المبدأ الأوّل لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة
قراءة وتأمّل في واقع الحال
المطران أنطونيوس الصوري
نجد على موقع الحركة الإلكترونيّ عرضًا لمبادئ الحركة. مع كلّ مبدأ نجد خلاصة صغيرة توضح المقصود منه. بالنسبة إلى المبدأ الأوّل نجد ما يلي:
المبدأ الأوّل: حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة حركة روحيّة تدعو جميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى نهضة دينيّة أخلاقيّة ثقافيّة واجتماعيّة.
الخلاصة: تدعو الحركة لإيجاد تيّار نهضويّ في الكنيسة، ينخرط فيه كلّ المؤمنين - حتى ولو لم ينتموا إلى التنظيم الحركيّ - بمجرّد أنهم جعلوا من قضية المسيح في أنطاكية قضيتهم.
بدءًا، لا بدّ من السؤال حول معنى كلمة »مبدأ«؟ وهل يمكن للمبادئ أن تتغيّر؟
المبدأ هو الأساس الذي يبنى عليه أمر ما، كما هو السبب الجوهريّ أو العلّة لأمر ما. المبادئ، مبدئيًّا، ينبغي أن تكون ثابتة لأنّ ما يبنى على متغيّر ليس فيه ثبات ولا استمراريّة.
إذًا، يمكن القول بأنَّه يُفترض أن يكون للمبادئ صفة الديمومة، حتّى يكون لما يتكوّن انطلاقًا منها صفة الإستمراريّة والنموّ. فالمبدأ هو أساس وغاية في آن، هو المنطلق وهو الهدف.
في الخلاصة أعلاه، نجد، بالحقيقة، تفسيرًا للمبدأ الأوّل يمكن أن نستنتج منه ما يلي:
»الحركة الروحيّة« في المبدأ يقابلها »تيّار نهضويّ« في الخلاصة؛
»جميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة« في المبدأ يقابلها »كلّ المؤمنين - حتّى ولو لم ينتموا إلى التنظيم الحركيّ« في الخلاصة؛
»نهضة دينيّة أخلاقيّة ثقافيّة واجتماعيّة« في المبدأ يقابلها »قضيّة المسيح في أنطاكية« في الخلاصة.
الملاحظة الأوّليّة هي شموليّة هذا المبدأ وعالميّته لأنّه لا يحدِّد إطارًا جغرافيًّا أو تنظيميًّا لعمل الحركة. لكن، بالمقابل، في الخلاصة نجد تحديدًا، إذ يفسّر كاتب الخلاصة أنّ إطار العمل هو أنطاكية.
لا شكّ في أنّ هاجس المفسّر للمبدأ هو هاجس محلّيّ، وهذا أمر طبيعيّ لأنّ لكلّ قضيّة طابعًا ينطلق من واقع وإطار معيّن ومحدَّد في المكان والزمان. لكنّ قوّة المبدأ هي في بُعْدِهِ الشموليّ إذ لم يذكر الإطار المحلّيّ، رغم انطلاقه منه ضمنًا، وهذا ما يجعله مبدأً لأنّ للمبدأ في منحى من مناحيه بُعْدًا يُفترض أن يكون شموليًّا متخطّيًا ما هو ظرفيّ وطارئ.
ثانيًا، نتساءل ما هي صفات »أبناء الكنيسة«، ومن هم »أبناء الكنيسة«؟ وهل من يُعتَبَرون أبناء الكنيسة بحقّ هم بحاجة إلى نهضة؟
في العمق، أبناء الكنيسة هم إخوة يسوع وورثة الآب السماويّ الذين أخذوا عربون الروح القدس، ختم الحياة الأبديّة وجوهرها، لأنّه روح الآب المنبثق منه والآتي إلى العالم بالابن والمنسكب على البشريّة في جسده وبه أي الكنيسة. أبناء الكنيسة هم أبناء اللَّه الآب بالتبنّي بيسوع المسيح، إنّهم القائمون من بين الأموات بالقوّة والفعل، لأنّ قوّة القيامة انسكبت عليهم وتستقرّ فيهم بواسطة الاتحّاد بالابن في الروح القدس بالمناولة المقدَّسة والأسرار. من هذا المنطلق، أبناء الكنيسة هم مصدر النهضة لأنّهم ناهضون أصلاً. إذًا، المقصود في المبدأ الأوّل بـ»أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة«، هم الذين كانوا قد نالوا أسرار الدخول ولم يفعّلوا اشتراكهم في جسد المسيح.
إذًا، من كان ناهضًا هو نهضويّ ويشدّ الآخرين إلى القيامة التي منها تأتي كلّ نهضة وتجديد لأنّها جدّة الحياة بالمسيح التي يحياها المؤمن بالتوبة الصدوق. من هنا ارتباط النهضة بالتوبة. من ليس تائبًا، لا يمكن أن يكون نهضويًّا، وكلّ كلام بخلاف هذا لغو وسفسطة. وللتوبة أصول ومسلك حدّدته الكنيسة انطلاقًا من الكتاب المقدَّس، كلمة اللَّه، ومن خبرتها الطويلة التي عبّر عنها في التراث في الليتورجيّة وتعاليم الآباء والأمّهات الروحيّين. وهنا أيضًا، من يتفصّح ويتشاطر على الكنيسة في هذا المجال هو إنسان أعمى بكبريائه، ويعرّض خلاصه للخطر لأنَّه يركن إلى رأيه الخاصّ. في هذا الإطار، ما هي نسبة الحركيّين، اليوم، الذين يمارسون التوبة والاعتراف؟
من يريد مدّ النهضة وشدّ الناس إليها وجب عليه أن يكون سالكًا فيها بالفعل قبل أن يبشِّر بها. وأوّل النهضة وبداءتها هي التوبة، لأنّه لا قيامة من دون موت، ولا حياة جديدة دون انتهاء القديمة. هذا يتطلّب جهادًا في الروح.
ثالثًا، تشمل أوجه النهضة المعبَّر عنها بـ»دينيّة أخلاقيّة ثقافيّة واجتماعيّة« أوجه الحياة كلّها. هذا ما عُبِّر عنه في الخلاصة بـ»قضيّة المسيح«. قضيّة المسيح قد تكون كلمة غامضة لمن يقرأها. ما هي قضيّة المسيح، يا ترى؟ وهل للمسيح في أنطاكية قضيّة غير قضيّته في مكان آخر؟
قضيّة المسيح واحدة وهي خلاص الإنسان وتبنّيه من اللَّه الآب بواسطة الابن في الروح. لكنّ أوجه هذه القضيّة أو تجلّياتها تُتَرْجَم في مختلف مرافق الحياة الإنسانيّة لتستقرّ روح القيامة في كلّ حياة الإنسان. لا شيء خارج عن فداء المسيح إلاّ ما لم يتّخذه المسيح، لأنَّ »ما لم يُتَّخذ لم يفتدَ« كما يقول الآباء (ce qui n’est pas assumé n’est pas sauvé). فهل من شيء يا ترى في بشريّتنا وواقعنا المريض لم يتَّخذه المسيح الذي حمل طبيعتنا الضعيفة المريضة وشفاها بإرادته وذات سلطانه؟
رابعًًا، خلاصة وقراءة للواقع
لا شكّ في أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هي حركة وُجدَت لتطال كلّ أرثوذكسيّ، لتصير هاجس كلّ أرثوذكسيّ، لأنّ المؤمن بيسوع المسيح لا يمكنه إلاّ أن يكون ناقلاً للبشرى السارّة ومترجِمًا إيّاها في كلّ حياته من أصغر تفاصيل هذه الحياة إلى أكبر مشاريعها.
حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هي، إذًا، في آن حركة »شعبيّة« وحـركة »نخبويّة«. هـي »شعـبيّة« لأنّها تطـال، أوَّلاً، كـلّ من خـرج من جرن معمـوديَّة الكنيسة الأرثوذكسيّة، سواء أكان قد فَعَّلَ عضويَّته في جسد المسيح أو لم يفعل. وهي »نخبويّة« لأنَّ حاملي روح النهضة هم قلّة وعليهم تقع المسؤوليّة الأولـى في نقـل هذا الهاجس إلى الآخرين، وذلك بأنّهم فهمـوا وأدركـوا، بالنعمـة الـتي خبـروها هبـة هابـطة عليهم من عَلُ، جـوهر المسيحـيّة الـذي هـو الحيـاة الجديـدة في المسيح.
في واقع الحركة اليوم، يعاني الحركيّون بمعظمهم، على ما أرى وقد يخالفني الرأي كثيرون، من السبي البابليّ. نحن قد تبلَّدنا في بابل وتعوّدنا طعامها وشرابها، نمط لباسها وترفيهاتها، الحركيّون الحركيّون اليوم هم مثل الفتية الثلاثة القدّيسين في أتون النار، يشهدون في وسط اللهيب على حضور الروح الإلهيّ في وسط أتون هذا العالم، الذي يضطهد كلّ من لا ينصاع لفكره وإيديولوجيّته ووثنيّته الفكريّة والعمليّة. لكنّ هؤلاء الفتية ما كانوا مثل المترفّهين في بابل رغم صحّتهم التي كانت آتية ممّا قد نعتبره اليوم نظام صومهم الملهم من اللَّه. الإنسان اليوم مدعوّ إلى ممارسة الصوم الفكريّ في عالم غزاه فكر الشرّير على كلّ الصعد، بالإضافة إلى الصوم الجسديّ. الشرّير غزا العالم بكلّ وسائل التواصل التي أمَّنَها العلم الحديث، وليست الكنيسة على مستوى التحدّي الكبير الذي يواجهها اليوم في هذا المجال. الحركة، وهي في الكنيسة ومنها، تعاني مع الجسد كلّه. الحركة اليوم بحاجة أيضًا إلى أن تكون منفتحة على هبّات الروح القـدس الذي يخضّـها كـريح عاصفة لتتجدَّد روحيًّا لأنَّ خطر النشاطيّة والتسطيح قائم وموجود. لا بدّ لتفعيل هذا المبدأ الأوّل من العودة إلى »المحبّة الأولى«، أي لا بدّ من التكريس في الرهبنة والكهنوت، وهو ما صار قليلاً لكيلا أقـول نادرًا. الحـركة اليـوم تحتـاج إلى »مجانين بالمسيح« يبذلون حياتهم كلّها تقدمة على مذبح الربّ في خدمة البشارة.
إذا لم تنتج الحركة، اليوم، وتفرز من شبابها أناسًًا ككبارها العمالقة، ولن أذكر أسماءهم لأنّهم معروفون، فهي ذابلة. ولكن، على الرجاء، حاشـا أن يذبل ما أوجده الروح القدس...
قضيّة يسوع المسيح في العالم التي تحملها الكنيسة، الحركيّون هم جنودها الذين في الصفوف الأماميّة. السلوك في جهاد الصلاة وقراءة الكلمة الإلهيّة في الكتاب بعهديه وعيش التسليم الكنسيّ في الصوم والخدمة والأسرار هو الطـريق. إذا لم يلـتـزم الحـركيّون هذا السبيل بجدّيّة وشفافيّة، فلن يستطيعوا أن يبثّوا روح الناهض في العالم، وتـاليًا أن يشـركوا المعمَّدين وغـير المعمَّديـن في ورشـة إصلاح البشريّة وإرشادها إلى الخلاص والسير بها إلى الملكوت في الطريق الوحيد الذي يُكشف بالروح أعني يسوع المسيح. المسيح افتدى الحياة البشريّة كلّها والمسكونة بأسرها، هذا هو أفق المبدأ الأوّل من مبادئ الحركة، هذا هو هاجس الحركة أن تنقل جدّة الحياة هذه إلى كلّ أوجه الوجود البشريّ.l