خواطر في الألم
الأب إيليّا متري
ما يقال عن الألم في الدنيا، كثيرًا ومتنوّعًا، يصعب استعراضه كلّه والتعليق عليه في سطور. ولذا، سنحاول، في هذه العجالة، أن نستضيء ببعض ما تقوله المسيحيّة القويمة في الألم، وتنتظره منّا.
أوّل ما ينبغي لنا علمه أنّ اللَّه، مُجّد اسمه، لم يجلب لنا الألم، بل نحن مَن جلبناه على أنفسنا يوم قرّرنا أن نخالف كلمته في فردوسٍ أوجدَنا فيه. فالألم، واقعًا، دخلَنا من خارج الطبيعة التي بُرئنا عليها.
هذا الواقع يلزمنا، بدءًا، بأمور ثلاثة. أوّلها أن نبتعد عن أن نطلب، لأيّ عذر يرضينا، ما لم نأخذه أصلاً. فثمّة، في تراثنا، فرق شاسع بين إنسان، يعي أنّه يحيا في عالم ساقط ويصبر على ألم يأتيه، وآخر يطلب الألمَ هديّةً! وتاليها أن نهرب من كلّ ما يغرينا أن نعذّب أنفسنا. فهذا، الذي ربّما يحسبه بعضٌ تشبّهًا بآلامٍ تكبّدها المسيح، ابتعاد عن براعة العهد الجديد الذي أبان أنّ الربّ أخذ آلامنا عنّا. وثالثها أن نـرفض أيّ جمع بين الألم والخطيئة، أي، مثلاً، أن نقول عـن إنسـان مـريـض: إنّه مرض بفعل ما ارتكبه من إثم. فهذا، الذي كان من النظريّات الشائعة في عهود قديمة، دحضه ربّنا بردّه على مَن سألوه، في شأن مولود أعمى، »مَن خطئ، أهذا أم والداه، حتّى وُلِدَ أعمى؟« (قال): »لا هذا خطئ ولا والداه، بل كان ذلك لتظهر فيه أعمال اللَّه« (يوحنّا 9: 1- 3). وهذا الإلزام المثلَّث، الذي لا ينكر أنّ الألم موجود، يحضّنا على أن نعي أنّ الربّ معنا في غير حال، ليشفينا من كلّ ما ينسينا أنّ الحياة الحقّ، هي هي، منه وبه وفيه.
منذ أيّام، أدهشتني سيّدة قالت، من سرير مرضها، إنّ ألمها جعلها تدرك كم أنّ الدنيا تافهة، كم أنّ الخصومات في الدنيا غبيّة، وكم أنّ الاعتقاد بصرف الحياة كُرمى لازدياد الثروة والمُلك حماقة كاملة. ولم تكتفِ بهذا، بل أضافت من جوِّهِ: »أُعطيت أن أتعلّم أنّ محبّة الربّ لنا أفضل ما في الوجود«.
أن يؤهّلنا مرضُنا لأن ندخل قلوبنا بثقة، أمر لا يمكن واعيًا أن يصمّ أذنيه عنه. بلى، المسيحيّة تعتقد أنّ وعي محبّة اللَّه هو الذي يرفع الإنسان إلى أن يُخرج البلاغة. ولكنّها لا تأنف من أن يفضي انكسارنا إلى أن نراجع نفسنا من أجلنا وأن نكون أفضل. هذا يطلّ على أنّ اللَّه لا يكفّ عن مخاطبتنا.
أمّا الكلام على الألم، فيبقى ناقصًا إن حصرناه بتغيّرات في اعتدال كياننا البشريّ. فمسيحيًّا، نحن لا نكتفي بهذا الحصر، بل نرى، أيضًا، إلى أنّ ثمّة أمراضًا أخرى لا تقلّ آلامُها عن الأولى. وهذه منها أن نحيا كما لو أنّ اللَّه غير موجود، أي أن ننفصل عنه بإرادتنا سواء كنّا نعي ضرر هذا الانفصال أو لا نعي شيئًا.
المؤمنون، الذين يلتزمون العبادة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يعلمون أنّنا، مثلاً، نعطي جسد الربّ ودمه المباركَيْن، »من أجل صحّتَي النفس والجسد«. وبهذا العطاء الذي نرجو فيه أن يبقى كياننا معتدلاً، نمتدّ إلى أن يبقى اللَّه يرعانا بمحبّته، لينمّي فينا أن نبقى على فعل محبّته. كلّ الحياة أن نعرف اللَّه ونحبّه، أي كلّها أن نرتقي إلى أن نضمّ رغبتنا إلى رغبته في أن تكون أجسادنا، في غير حال، هيكلاً له. هذا هو مصيرنا في الأرض إن فهمنا أنّ اللَّه تجاوز كلّ هيكل صنعته أيدٍ بشريّة، ورفعنا إلى أنّنا هيكله الحقّ.
أن نعي أنّنا »هيكل للَّه« (1كورنثوس 3: 16)، لهو الشفاء كلّه. معظم الناس، إن مرضوا، يطلبون أن يشفيهم الربّ. ولا نجافي حقّ هذا الطلب إن قلنا: ثمّة مرضى أوفر صحّةً في وعيهم أنّهم هيكل للَّه من كثيرين أصحّاء جسديًّا لا يعون شيئًا إطلاقًا. فوعينا الكامل، أصحّاء أو مرضى، معياره أن نقبل أنّنا محلٌّ للَّه. هل مِن دلالات إلى هذا الوعي؟ ثمّة دلالات كثيرة. وخيرها أن نبقى واثقين بأنّنا محبوبون.
لا نتكلّم على المجهول إن قلنا إنّنا، في هذا العالم الذي نحيا فيه، نكاد نتنازل عن أنّ اللَّه يحبّنا حبًّا شخصيًّا. ثمّة دلائل، لا تُعدّ ولا تُحصى، تؤكّد هذا التنازل الذي لا يبرَّر. وأكثر ما يدلّ عليه أنّ معظمنا عادوا لا يهتمّون بشركة الحياة في المسيح. مثلاً، مَن، في حال مرضه، ما زال يستدعي كاهن رعيّـته، ليصلّي له؟ ثمّة مَن يفعلون، طبعًا. ولكنّ ما نلاحظه عمومًا أنّ الكثيرين منّا لا يفعلون، بل بعضهم يخافون، في أوان مرضهم، من أن يزورهم كاهن رعيّتهم! هذا لا يعني أنّ الناس جميعًا قطعوا أنفسَهم عن التقرّب إلى اللَّه. لكنّ بعضنا قطع نفسه عن أنّ هذا التقرّب الشخصيّ نبعه أن نرتبط بكنيسة اللَّه.
زرت، يومًا، أخًا على سرير مرضه. أخبرني قال: »أتاني فلان (وهو علمانيّ ملتزم)، زارني، وصلّى لي«. لم أستطع أن أُخفي فرحي بما سمعته. لكنّني لم أُخفِ حزني أيضًا. مَن منّا يصلّي لمريض زاره؟ أليس هذا من علامات ثقتنا بأنّ الربّ، الذي يحبّنا، إنّما نجاتنا فيه؟ معظم الناس يرون واجبًا أن يأتوا إلى مريض حاملين إليه هديّة. ما الهديّة الفضلى، أَغَرَضٌ نشتريه من محلّ تجاريّ، حلوى أو غيرها، أم أن نرفع قلوبنا، نحن ومَن نزوره، إلى اللَّه الحيّ؟ ذكرت الكهنة. وعلى قلّة الذين يلجأون إلى صلاتهم، بتنا، بمعظمنا، نحسب أنّ أمور اللَّه وخدمته تعني الكهنة وحدهم. ألا نعتقد أنّنا نؤلم السماء إن نسينا أنّ اللَّه كلّفنا جميعنا أن نسكب بعضُنا على بعضٍ عطرَ اسمِهِ؟ وهل من تعزية أو فرح أكبر؟ ما دمنا في الأرض، فسيبقى الألم. ولكن، كيف نبقى نحن نعي أنّ صلاة الإخوة »تعمل بقوّة عظيمة« (يعقوب 5: 16)؟
إن لم يعطنا الربّ أن نحبّ الألم، فإنّه أعطانا أن نحبّه هو، ونثق بفعله فينا. إنّها العطيّة الغالية التي قبولُها يكتبُ علينا أنّ أغلى ما فينا أن نكون »أصحّاء في الإيمان والمحبّة والصبر« (طيطس 2: ٢). l