2016

6- سلسلة الذهب: التعاطف والأخلاق - د. جورج معلولي – العدد الرابع سنة 2016

 

سلسلة الذهب

التعاطف والأخلاق

د. جورج معلولي

 

 

تخيّل نفسك تلتقي في الطريق رجلاً يطلب منك المساعدة. إذا استجبت لتحرّك الرأفة في قلبك، فلا بدّ من أنّك ستقوم بمساندته. ولكن إن فضّلت تجنّب هذه المساعدة لثمنها المادّيّ أو المعنويّ، فربّما ستتنكّر لحركة الرأفة داخلك وتكمل المسير. من ناحية المصلحة الشخصيّة، قد يبدو هذا الإهمال غير مكلف. غير أنّ بعض الدراسات الحديثة تشير إلى عكس هذا الاستنتاج.

يولد شعور التعاطف من ملاحظة معاناة الآخر، وتنتج منها الرغبة في تخفيف معاناته. يشجّع التعاطف سلوك المساعدة والعطاء حتّى عندما يبدو هذا السلوك مناقضًا للمصلحة الذاتيّة. أظهرت بعض الدراسات أنّ توليد شعور التعاطف يدفع الأشخاص إلى الاهتمام بألم الآخر ولو سنحت لهم إمكانيّة التهرّب. يترافق التعاطف مع شعور بالقربى بخاصّة مع الضعفاء والسريعي العطب، ويزيد من إمكانيّة مسامحة الأخطاء والقدرة على التعاون والمشاركة. وذهب البعض إلى اعتبار التعاطف حجر الزاوية من الناحية الشعوريّة في الحكم الأخلاقيّ والسلوك المناقبيّ.

رغم قيمة هذا الشعور على المستوى الأخلاقيّ، يفضّل الناس في كثير من الأحيان إلغاءه أو كبته، أو التخفيف من حدّته. لاحظت بعض الإحصاءات أنّه كلّما تفاقمت حدّة الأزمة في مكان وزمان معيّنين، كلّما انخفض مستوى التعاطف بشكل عامّ. التبرير الأغلب لردّ الفعل هذا هو أنّ اختبار التعاطف المتكرّر (أي التماهي مع المتألّمين) قد يؤدّي إلى التعب والإرهاق. وقد يتجنّب البعض هذا الشعور خوفًا من خطر الاستغلال. بسبب الخوف من ارتفاع الثمن النفسيّ أو المادّيّ لشعور التعاطف يلجأ الإنسان إلى تنظيم هذا الشعور أو ضبطه. 

من جهة أخرى، رغم أنّ الأغلبيّة في المجتمع يعتبرون أنّهم يتحلّون بمناقب رفيعة وتصرّفات أخلاقيّة، فهم غالبًا ما يضربون الأخلاق عرض الحائط في حياتهم اليوميّة. عندما يلاحظ الإنسان سلوكه غير الأخلاقيّ بشكل واع وتضاربه مع قيمه الذاتيّة، تختلّ صورة الأنا لديه، ويظهر لديه فقدان تناسق بين أفكاره ومواقفه وسلوكيّاته. بسبب هذا التوتّر المنفّر، يحاول الإنسان تخفيف الصراع المتولّد في نفسه: فيحاول مثلاً أن يعوّض سلوكه غير الأخلاقيّ بسلوك أخلاقيّ. ولكن، في بعض الأحيان، إذا ظهر الترميم أو التعويض صعبًا، فقد يتخلّى الإنسان عن أفكاره الأخلاقيّة مؤقّتًا، ليصبح فكره منسجمًا مع سلوكه غير الأخلاقيّ. وفي بعض الحالات، تصبح الهويّة الأخلاقيّة أقلّ مركزيّة في حياة هذا الإنسان ريثما تنخفض حدّة الصراع في اتّجاه أو آخر. وقد يختار أن يطوّع مبادئه لمصلحته الشخصيّة وهذا ما يسمّى بالمطواعيّة الأخلاقيّة (بالمعنى السلبيّ).

حاولت الدراسة التالية إظهار العلاقة بين تجاهل شعور التعاطف واختلال السلوك الأخلاقيّ عند المشاركين. وزّع الباحثون المشاركين إلى ثلاث مجموعات.

تلقّت المجموعة الأولى التعليمات التالية: »سنعرض عليك خلال الاختبار صورًا مزوّدة شحنة انفعاليّة عالية. نطلب منك محاولة عدم الإحساس بالتعاطف، أي عدم الإحساس بأيّ تجاوب حنون أو رؤوف أو دافئ تجاه الذين يتألمّون. إذا أحسست بهذا الشعور، حاول أن تغيّر طريقة تفكيرك أثناء مشاهدة الصور لتجنّب هذا الشعور«.

تلقت المجموعة الثانية تعليمات بعدم الإحساس بالانزعاج (وهو إحساس بالاضطراب متمركز حول الأنا) أثناء مشاهدة الصور. وتلقّت المجموعة الثالثة تعليمات بإعطاء الحرّيّة لمشاعرها المتولّدة أثناء مشاهدة الصور.

بعد التعليمات، شاهد المشاركون خمس عشرة صورة، (أربع ثوان لكلّ صورة)، تظهر أطفالاً ومشرّدين وضحايا حروب أو مجاعة. ثمّ أكملوا استبيانًا شكّل مقياسًًا لمركزيّة الهويّة الأخلاقيّة لديهم. باختصار، يطلب من كلّ مشارك أن يتذكّر شخصًا يتميّز بالخصال التالية: الاستقامة، الاهتمام بالآخرين، التعاطف، القربى، المجّانيّة، العمل الدؤوب، المساعدة واللطف؛ وأن يعبّر عن مدى رغبته في التشبّه بهذا الشخص (بحسب مقياس بسيط، مثلاً: »أرغب بقوّة في أن أتشبّه بهذا الشخص«). بعدها خضع المشاركون لقياس المطواعيّة الأخلاقيّة لديهم (بالمعنى السلبيّ) عبر استبيان يحتوي على أفكار من هذا النوع: »الغشّ سلوك موافق إذ لا ضرر منه« أو »في بعض الأحيان الانحراف عن القواعد العامّة أكثر موافقة من الالتزام بالقوانين«. قام الباحثون بدراسة التوافق بين مقياس مركزيّة الهويّة الأخلاقيّة ومقياس المطواعيّة الأخلاقيّة عند المجموعات الثلاث.  

لاحظ الباحثون أنّ المشاركين في المجموعة الأولى هم أكثر من عانى من عدم التناسق الأخلاقيّ بين المقياسين. فبعد تجاهلهم شعور التعاطف، وبشكل مفاجئ، يظهر المشاركون ذوو الهويّة الأخلاقيّة المرتفعة استعدادًا أكبر لكسر القواعد الأخلاقيّة (أي يظهرون مطواعيّة أخلاقيّة عالية). أمّا الذين لا يقبلون باختراق القواعد الأخلاقيّة، فهم يضحّون بمثاليّة الهويّة الأخلاقيّة في تصوّرهم لنفسهم (أي تنكسر صورتهم الأخلاقيّة في نظرهم بعد تجاهلهم شعور التعاطف).

تظهر هذه الدراسة أنّ ثمن تجاهل التعاطف هو اختلال في الصورة الأخلاقيّة للذات. يدخل الإنسان المتنكّر لحركة الرأفة في صراع داخليّ بين هويّته الأخلاقيّة وقابليّته لكسر القيم الأخلاقيّة في السلوك.

تتقاطع هذه الملاحظات مع إيماننا بمركزيّة المحبّة في حياة الإنسان الأخلاقيّة، وبأنّ الفضائل سلسلة ذهبّية متكاملة لا تنقطع. لا يمكن للإنسان أن يبقى إنسانًا سويًّا وهو يتغافل عن الرأفة التي تصله بالآخرين. كلّ سلوك ظاهره أخلاقيّ وباطنه قسوة قلب هو سلوك فرّيسيّ، أو أقلّه سلوك غير متناسق مع النواة الأخلاقيّة في الذهن والمواقف. وكلّ تنكّر لحركة التعاطف الأصيلة في طبيعة الإنسان يفضح إمكانيّة تطويع المبادئ والقيم الأخلاقيّة (كالعدل والاستقامة والصدق) بحسب المصلحة الشخصيّة. »لأنّ كلّ الناموس في كلمة واحدة يكمّل: »تحبّ قريبك كنفسك«. فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضا فانظروا لئلاّ تفنوا بعضكم بعضا« (غلاطية 5: ١٤- ١٥). »من أحبّ غيره فقد أكمل الناموس. لأنّ لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تشته، وإن كانت وصيّةً أخرى، هي مجموعة في هذه الكلمة: أن تحبّ قريبك كنفسك. المحبّة لا تصنع شرًّا للقريب« (رومية 13). أخلاق من دون رحمة هي أخلاق فرّيسيّة متنكّرة للحقّ والإيمان (متّى 23) لأنّها كاسرة لسلسلة الفضائل الذهبيّة. l

 

 

المرجع :

The Cost of Callousness: Regulating Compassion Influences the Moral Self-Concept. C. Daryl Cameron and B. Keith Payne. Psychological Science 23(3) 225–229

     

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search